عشت في بعض البلدان، واطلعت نسبيا على تحارب التعاطي مع الشأن العام في عدد من بلدان العالم الأخرى من فئات ودرجات مختلفة في التنمية والتطور، ولكن لم أجد في أي من البلدان التي تعرفت عليها، نظيرا لدرجة انغماس الموريتانيين في السياسة!!
لا يكاد يمر يوم، دون أن أرى فعاليات ذات طالع سياسي بحت، ويحدث هذا على مدار العام، وفي كل المواسم، لا ينتظر أصحابه موسم الانتخابات، ولا فترات الاستقطاب والتنافس.
ويكاد إنفاق الموريتانيين على السياسة، أن يكون بلاحدود، وهناك من يعيش من هذا الحراك الدائب، لا دخل له، ولا مورد ولا نشاط سوى السياسة!!
قد يكون متفهما أن يكون قادة الأحزاب هم الفئة المعنية بهذا الأمر دون غيرها، ولكن في موريتانيا، السياسة نشاط واسع ومدر للدخل، بل تكاد تكون أول نشاط مدر للدخل من حيث العائدات وعدد الممارسين له.
ولنا في موريتانيا من الإبداع في مجال السياسة، ما لاحصر له، فساستنا من الكبار حتى الصغار، يواكبون كل الزيارات الرسمية للمسؤولين السامين من الرئيس إلى أعضاء الحكومة، لتدشين مشروع ما، أو إطلاق آخر، وينتقلون بالعشرات بل بالمئات إلى مناطق بعيدة، لمجرد تسجيل حضورهم، ونيل حظوة السلام على الرئيس أو الوزير!!
ويكون ذلك بالطبع إما على حساب الحزب، أو المؤسسة التي يديرونها، أو يتبعون لها، وفي كل الحالات على حساب مصالح المواطن، التي تتوقف في انتظار انتهاء الزيارة، وعودة أفواج السياسيين الذين واكبوها، وهم في الغالب قمة مسيري المرافق العامة.
وساستنا يستبقون كل زيارة، خاصة زيارات الرئيس، بقوافل تعبئ القواعد، وتساهم في إنجاح الزيارة!!
ومع ذلك لم أسمع مرة واحدة، أن هناك زيارة فاشلة!!
ونحن البلد الوحيد تقريبا في العالم، الذي لا توجد فيه طبقة تكنوقراطية بالمعنى المعروف، تمخض وقتها وجهدها لمهنتها ولعملها، فالموطف الذي وضع رجله للتو على الدرجة السفلى في السلم الإداري، في أي مصلحة، يمارس السياسة، يواظب على زيارة بيت "راعيه" السياسي، أكثر من حرصه على الانتظام في دوامه الرسمي، ويحضر مساء كل يوم تقريبا تظاهرات باسم حلفه السياسي، ويسافر كلما دعت الضرورة إلى مسقط رأسه، ليناصر أهله، ويسجل حضوره، ويقدم نفسه في عمقه الانتخابي!!
نحن بلد أدمن السياسة، حتى تجاوز فيها كل الجرعات المسموحة والمتخيلة، ووصلنا دون وعي إلى مرحلة ال "أوفر دوز"!!!