على بعد ما يزيد عن 440 كيلومتراً شمال العاصمة الموريتانية نواكشوط، وسبعة كيلومترات من مدينة أطار عاصمة ولاية آدرار، تُصارع ضد البهت والاندثار آثار مدينة آزوكَي الأثرية. تحضنها بودٍّ الجبال، فهي تقع عند جبل لمتونة (آدرار حالياً)، وهي العاصمة الجنوبية لدولة المرابطين التي امتدت من الأندلس إلى السنغال. بل يرى البعض أنها كانت عاصمتهم الأولى قبل مراكش في المغرب. وهي المدينة المسكونة بالحكايات والقصص والأساطير الشعبية المؤسِّسة للثقافة الموريتانية، والشخصيات التاريخية الملهمة. كما تكشف المدينة التي يعني اسمها باللغة الصنهاجية الأمازيغية "قطع الفخار المتكسرة"، عن نفسها وألقها السابق كلما تم استكشافها.
حصن و"عاصمة المرابطين"
ارتبطت المدينة تاريخياً بالنخيل وحصنها وحكاياتها مع المرابطين، فالمؤرخ البكري، يذكر أن المدينة كانت عبارةً عن حصن، حوله عشرون ألف نخلة، وهي حتى الآن ما زالت واحة نخيل، لأن واحة تيارت يمكن عدّها على أنها واحة آزوكَي ذاتها، وحسب المؤرخين ازدهرت المدينة بسبب المرابطين، بالرغم من أنها سابقة عليهم. هناك الكثير من القصص والأساطير والإشارات إلى المجموعات السكانية السابقة على المرابطين، على أنها غير مسلمة مثل اليهود، وهناك إشارات إلى مجموعة "البافور" التي تصدت للمرابطين عند قدومهم، وكذلك بعض القبائل البربرية. وتحتوي المدينة على قبور ونقوش ورسوم صخرية تشير إلى ثقافات متنوعة تُظهر التعدّد العرقي والثقافي الذي مرّ عليها، ومن حكايات المدينة وأساطيرها، قصة تفيد بأنها مدينة الكلاب، حيث كانت فيها كلاب تحميها من هجمات الأعداء.
في حديث إلى رصيف22، قال الأستاذ في جامعة نواكشوط، عبد الودود ولد عبد الله: "في الحقيقة، حسب المعلومات المتوفرة لدي، ربما يكون وجودها سابقاً على تاريخ المرابطين، والحفريات التي أُنجزت فيها وجدت أن هناك مستوى من المدينة سابقاً على العصر المرابطي، لكنها ازدهرت بصورة خاصة في عصر المرابطين، وتقريباً مع تراجعهم تراجعت سريعاً. من الواضح أن ذلك ليس ناتجاً عن تخريب عسكري، بقدر ما هو تراجع بطيء حدث مع تراجع دولة المرابطين في الجزء الجنوبي".
وأضاف: "تاريخ المدينة سابق على المرابطين، وتقريباً واكب عهد المرابطين، لا سيما في الجناح الجنوبي للحركة، وهناك مؤشرات على أنها كانت هي عاصمة الجناح الجنوبي للدولة المرابطية. ويقال إن من استولى عليها من المرابطين هو القائد الشهير يانو بن عمر، في بداية توسع المرابطين، ثم كانت عاصمةً في عهد أمير المسلمين أبي بكر بن عمر، بعد عودته النهائية من مراكش واستقلاله بالجناح الجنوبي، ومن مؤشرات ذاك أن قاضي المرابطين يُسمى عندنا هنا في موريتانيا بالإمام الحضرمي، ويعرف في "التاريخ الآخر" باسم أبي بكر بن الحسن المرادي الحضرمي. هذه هي المراحل الأساسية في تاريخ المدينة، وهو تاريخ عموماً فيه بعض الغموض مثل تاريخ الحواضر في العهد المرابطي عموماً".
وأكد المتحدث قائلاً: "يمكن أن نعدّ أن تراجع المدينة بدأ في نهاية القرن الحادي عشر بعد وفاة أبي بكر بن عمر (1087)، ولا سيما بعد وفاة الإمام الحضرمي في القرن الحادي عشر ميلادي، أي القرن الخامس الهجري".
تجدر الإشارة إلى أن من الحكايات التي تروى حول سيطرة المرابطين على المدينة، أنه تم اختيار منطقة آزوكَي من طرف المرابطين لأنها خيار إستراتيجي حربي، إذ يمكن الدفاع عنها لأنها تقع في قلب جبل لمتونة، وليست مكشوفةً، وكذلك للقطيعة، فقد سمّوها بالمتابة، أي مكان التوبة والإنابة إلى الله.
يرجح البعض أن الوظيفة الحربية هي أهم مرتكزات إعمار المدينة خلال العصر الوسيط، إذ ذكر أبو عبيد الله البكري، عندما تحدث عن توسع المرابطين شمالاً، أنّ عبد الله بن ياسين، المرشد الديني لحركة المرابطين، أمر الأمير يحيى بن عمر، بأن يتحصّن بجبل لمتونة، وهو جبل منيع كثير الماء والكلأ (...) وهناك حصن يُسمى أزكي (...) كان قد بناه يانّو بن عمر، أخو يحيى بن عمر، فصار يحيى في جبل لمتونة، وذهب عبد الله بن ياسين إلى مدينة سجلماسة.
ووصف الإدريسي آزوكَي بأنها "أول مراقي الصحراء (...) وهي ليست بالكبيرة لكنها متحضّرة"، وأضاف: "تُسمى هذه المدينة بالبربرية: آزقى، وبالجناوية: قوقدم، ومن أراد الدخول إلى بلاد سَلَي وتكرور وغانة من بلاد السودان، لا بدّ له من هذه المدينة".
ويقال حول تأسيس دولة المرابطين من الأساس، وهي التي ازدهرت في عهدها آزوكَي، إنه في مطلع القرن الخامس الهجري كانت جزيرة تيدرة الواقعة على بعد 250 كلم شمال غرب نواكشوط، هي نقطة البداية في حكاية دولة المرابطين، إذ أسس أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين الرباط الذي كان منطلق حركة المرابطين التي امتد نفوذها إلى الأندلس شمالاً والممالك الإفريقية الوثنية جنوباً .
حين قوبلت "الحركة الإصلاحية الدينية" بالرفض من طرف المجتمع الموريتاني آنذاك، قرر ابن عمر وفقيه الحركة عبد الله بن ياسين اللجوء إلى جزيرة تيدرة، والانعزال فيها وتأسيس الرباط.
التفّ حولهما أبناء صنهاجة، وعندما وصل عدد المرابطين إلى أربعة آلاف، وقيل 12 ألفاً، انطلقوا في البدء ليسيطروا على قبائل لمتونة ومسوفة وآكدالة وهي القبائل الأكبر وقتها في البلاد، قبل أن تدين لهم المنطقة، ويبدأوا الزحف شمالاً وجنوباً في اتجاه الممالك الإفريقية الوثنية لتدخل الأخيرة في الإسلام.
هناك سردية مغايرة بخصوص المكان الذي رابط فيه المرابطون، إذ يرى البعض أن جزيرة تيدرة لا تتطابق مع الوصف الذي قدّمه ابن خلدون، ويرون أن الرباط كان على جزيرة قريبة من مصب نهر السينغال، بالقرب من مدينة كرمسين جنوب موريتانيا حالياً، فيما يظن آخرون أنها قرب مدينة أندر "سينلوي" في السنغال، ووصل البعض إلى الاعتقاد بأن الرباط يقع جنوب مدينة "تنبكتو"، عند نهر النيجر في جمهورية مالي.
شخصيات ومرويات
ارتبطت آزوكَي تاريخياً بشخصيات مؤثرة في تاريخ الغرب الإسلامي، والمحلي الموريتاني، وهي شخصيات سياسية وفكرية. يقول ولد عبد الله: "من أهم الشخصيات التي ارتبط اسمها تاريخياً بالمدينة، هناك يانو بن عمر الذي قد يكون أخاً ليحيى بن عمر وأبي بكر بن عمر، وهو قائد من قادة المرابطين، والبعض يعدّه المؤسس أو هو على الأقل مؤسس الحصن المرابطي الذي مكّن من السيطرة على المدينة التي قد تكون قد بُنيت قبل المرابطين، وهناك أبو بكر بن عمر الذي جعل منها عاصمةً له، ولكن أهم هذه الشخصيات طبعاً هو من نسمّيه الإمام الحضرمي، والمعروف في الكتب العربية والأندلسية والمغربية، باسم أبي بكر المرادي، ونسبة المرادي أهم عندهم من الحضرمي، بينما الأخيرة أهم عندنا هنا".
طبعاً الحضرمي المرادي هذا من أعظم المفكرين في الغرب الإسلامي في القرن الخامس الهجري، يقول المتحدث، ويضيف: "هو على كل حال رائد فكر العقيدة الأشعرية في الغرب الإسلامي، فلم يصل إلى شأوه معاصر له، ووصل بالعقيدة الأشعرية والفكر العقدي الأشعري إلى مستوى لم يصله أحد قبله في الغرب الإسلامي، وستتطور العقيدة الأشعرية بعد ذلك في عهد الموحدين، ولكن قبل المرابطين كانت هناك عقيدة أشعريّة ولكنها في المستوى الأول من العقيدة الأشعرية الذي لا يبتعد كثيراً عمّا كان يُسمى عقيدة السلف. أما التطور الذي عرفته العقيدة الأشعرية في المشرق منذ عهد الجويني وعهد الغزالي فلم يعرفه الغرب الإسلامي، بل إن الفقهاء، لا سيما فقهاء الأندلس، كانوا يعارضون مثل هذا التطوير الفكري، ولكن الحضرمي المرادي كان يدعو إلى مثل ذلك، وتالياً طوّر الفكر الأشعري في الغرب الإسلامي بما لم يقم به مفكر قبله في هذه المنطقة، ولذلك يرى مترجموه أنه هو الذي أدخل علم العقائد إلى المغرب، ويعدّون تلميذه أبا الحجاج الكلبي آخر علماء العقائد في الغرب الإسلامي".
ونبّه الباحث إلى أنه "قد يكون هذا الخلاف العقدي من الأسباب التي جعلته يذهب إلى القسم الجنوبي من الصحراء، ويظهر أن خلافه، أي المرادي الحضرمي، مع علماء الأندلس، كان لأنهم في تلك الفترة كانوا متشددين ومعارضين لأي أفق تفكيري عقلاني، وهم الذين سيقومون بحرق كتب الغزالي لاحقاً. والظاهر أن الحضرمي المرادي كان يعارض ذلك، والبعض يقول إن السبب هو صداقته مع أبي بكر بن عمر، ولكن يعكّر على ذلك أنه بقي في الصحراء زهاء عشر سنوات بعد وفاة أبي بكر بن عمر، إذ إن أبا بكر بن عمر توفي سنة 1087، بينما بقي في الصحراء حتى وفاته في آزوكي، مع أنه رجع إلى الأندلس بعد أبي بكر بن عمر، لكن عاد إلى الصحراء. إذاً موقفه يُظهر أنه، في ما أعتقد، موقف فكري وخلاف فكري".
وكما كان الحضرمي المرادي رائداً في علم العقائد، كان رائد الغرب الإسلامي في ما يتعلق بعلم السياسة والفكر السياسي، وطبعاً أهم كتاب له في العقائد هو كتاب عقيدة الإمام الحضرمي، وهذا الكتاب ظل مفقوداً ولم يُكتشف إلا قبل عشر سنوات، وباكتشافه وباستغلاله وطبعه اتضحت المكانة الفكرية العقدية للإمام الحضرمي المرادي، أما مكانته في الفكر السياسي فكانت معروفةً منذ القدم، لأن كتابه الإشارة إلى أدب الإمارة، كان معروفاً وتأثر به جميع من كتبوا في الفكر السياسي بعده، وأغلبهم صرحوا بذلك، وبعضهم لم يصرح، ولكنه كان واضحاً بين السطور كما هي حال ابن خلدون، وهذا ما أوضحه الجابري في كتابه ودراسته عن فكر ابن خلدون السياسي في كتابه "العصبية والدولة". إذاً، شخصية الإمام الحضرمي المرادي دفين آزوكَي، شخصية كبرى وشخصية علمية أساسية بل إنها أبرز الشخصيات الفكرية في الغرب الإسلامي في القرن الخامس الهجري، يقول ولد عبد الله، ويضيف: "أما الشخصية الرابعة طبعاً بعد يانو بن عمر وأبي بكر بن عمر والإمام الحضرمي المرادي، فهي شخصية الإمام المجذوب، بتأليفه لكتاب المنّة الذي عُدّ أنه إملاء عليه من الإمام الحضرمي، الذي كان قد توفي قبل عهده بنحو أربعة قرون، وهذا ما أثار ضجةً فكريةً كبيرةً في موريتانيا وبلاد شنقيط في القرن الحادي عشر هجري، السابع عشر ميلادي، إذ إن الفقهاء في ذلك العهد، عدّوه خارجاً عن الملّة وأن ما قام به نوع من الشعوذة التي ينبغي الوقوف ضدها، ومن أبرز الذين وقفوا ضده ابن الأعمش من شنقيط وابن الهاشم الغلاوي، وكتبوا فتاوى ضده وكتبوا رسائل أيضاً.
قارنوه بالإمام ناصر الدين، وعدّوه تياراً باطنياً يهدد الشريعة والاستقرار الفكري في المنطقة، وطبعاً الإمام المجذوب كان له مناصرون طرحوا قضيته على العلماء في مصر وفي الحجاز، وألّف عالم من كبار علماء الحجاز، هو الإمام والعالم إبراهيم الكوراني، كتاباً للرد على أسئلة أهل أطار، أعتقد أنه سمّاه "إخبار الأخبار في أجوبة سؤالات أهل أطار"، وتالياً هو كان مؤيداً للإمام المجذوب، وكذلك بعض علماء الأزهر. لذا فقضية المجذوب والإمام الحضرمي وكتاب المنّة، أثارت ضجةً كبيرةً وكتب فيها العلماء وانقسمت النخبة الفكرية في منطقة آدرار على الأقل ما بين مؤيد للمجذوب ومعارض له، لهذا يُعدّ المجذوب هو الآخر شخصيةً مهمةً ومرتبطةً في تاريخها بمنطقة آزوكَي".
عن بدايات حكاية المجذوب والحضرمي المرادي، قال: "من الحكايات التي تُعدّ حكايات تأسيس أو حكايات إعادة تأسيس، أنه بعد ظهور مدينة أطار، أصبح سكانها يعدّون أن الإمام الحضرمي هو الولي الحامي أو المتبرَّك به في مدينة أطار، ولا شك أن هناك معلومات عن علوم الإمام الحضرمي، وأن هذه العلوم قد اندثرت، وتالياً قد ظهرت شخصية خاصة جداً، هي الإمام المجذوب، محمد بن حسين بن أبي اسحاق الشمسدي، الذي ادّعى أنه اكتشف قبر الإمام الحضرمي، لأن هذا القبر لم يكن معلماً، وتالياً أصبح مجهولاً إلى حد ما، وعدّ أنه اكتشفه بصورة خارقة، ولكنه رأى كذلك أن علوم الحضرمي قد انتقلت إلى يده، إذ أصيبت يده بورم، وراح هذا الورم يتناقص شيئاً فشيئاً كلما كتب على الأوراق، إذ ينتقل إلى الأوراق علم الإمام الحضرمي، فيخف الورم الذي في يده، وسجل مجلدات، شكّلت بعد ذلك كتاب المنّة، وهو كتاب في الأدعية والمأثورات وكلام القوم والتصوف والعقائد".
وأشار المتحدث إلى أن "هذا الكتاب تمت كتابته بصورة 'أولية' إلى حدّ ما، في القرن الحادي عشر الهجري، السابع عشر الميلادي، وفي القرن التاسع عشر الميلادي، الثالث عشر هجري، قام بعض أحفاد الإمام المجذوب، وهو الإمام والعالم بانمو، بإعادة صياغة هذا الكتاب وكتبه كتابةً مقروءةً، وهو نفسه كان عالماً وكاتباً، وهذ الكتاب موجود الآن كمخطوط، وهو كتاب أدعية وابتهالات".
في الحاجة إلى مواصلة الاستكشاف
تُعدّ مدينة آزوكَي مدينةً أثريةً لأنه من الناحية الفنية يتم التمييز بين المدن التاريخية والمدن الأثرية، على أساس أن المدن التاريخية هي التي ما تزال قائمةً، أما المدن الأثرية فهي التي لم يبقَ غير آثارها. لكن المدينة الأثرية لها أيضاً أهميتها التاريخية، فهي كانت، أوّل عاصمة للمرابطين، أو على الأقل للجناح الجنوبي من الحركة المرابطية. لا شك في أن توقف عمليات البحث الأثرية منذ الثمانينيات في عهد المؤرخ برنار سيزون، الذي قام بحملة استكشاف فيها مع المؤرخ وعالم الاجتماع البروفسور عبد الودود ولد الشيخ، قد أضرّ بفرص استكشاف تفاصيل جديدة من حكاية المدينة، ومن المرجح أن مزيداً من البحث الأثري سيعطي مؤشرات أكثر أو أدلةً أكثر على أهمية هذه المدينة من الناحية التاريخية. وحسب الدكتور عبد الودود ولد عبد الله، "أهم ما ينقص آزوكَي اليوم هو القيام بحملات استكشاف أثرية حقيقية، من أجل استخراج الكنوز الأثرية التي لا شك في أنها ما زالت تحتوي عليها، لأن البحث الذي قام به برنار سيزون كان بحثاً سريعاً، وأظهر مؤشرات كبيرةً".
ويختم المتحدث: "تحتاج المدينة كذلك إلى مزيد من العناية خاصةً بالنسبة إلى موقع قبر الإمام الحضرمي، ولا شك في أن وجود متحف أو مؤسسة ثقافية في المنطقة، يظهران آثار الحضرمي وينشرانها، وكذلك آثار المجذوب وإعادة طبع كتاب المنّة، وكذلك الردود التي نُشرت مع المجذوب أو ضده والبحث عن مؤلفات الحضرمي وعن مؤلفات أبي الحجاج الكلبي تلميذ الإمام الحضرمي، لا شك ستعطى أهميةً لهذه المدينة".
رصيف 22
.jpeg)
.jpeg)