تعود إرهاصات السياسة، بالمفهوم الراهن، في موريتانيا إلى خمسينيات القرن الماضي وتحديداً للعام 1958 ، أو ما يُعرف محلياً باستفتاء OUI و NON ، الذي دافعت عنه وسوّقت له نخبةٌ مثقفة، استطاعت تعبئة المجتمع الأهلي ليستجيب للتحديات التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية، بوسائله التقليدية، التي لم تستطع الخروج عن إطار التكتلات القبلية بالمفهوم البدائي.
بدأ الوعي السياسي أكثر نُضجاً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين برز للواجهة خليط من الموظفين والطلاب والعمال اليساريين الذين تبنوا فكراً تنويرياً، اعتمد أصحابه المواجهة مع الأنظمة التي فضل معظمها أسلوب القمع في مواجهة الخصوم السياسيين، بدْءاً بالرئيس الراحل المختار ولد داداه الذي قلَدتْه الأنظمة العسكرية المتعاقبة في السياسة ذاتها.
مع بداية العام 1992 سينتهج ولد الطايع سياسة الاحتواء، أو ما أطلقت عليه في مقال سابق إستراتيجية "التِّسْكاتْ" المؤقت، التي جذبت معظم الكادحين الحالمين بالاندماج في منظومة برجوازية، رغم كونهم استمدوا مصداقيتهم من انتقادها طَوال سنوات عديدة، والمفارقة أن ظاهرة السير عكس تيار الإيديولوجيا صارت السّمة الأبرز لنخبة من القوميين العرب والزنوج، ولأساطنة ما كان يُعرف سابقا "بالكادحين".
وفي بداية الألفية الثانية ستفقد السياسة خطابها التأطيري القائم على تبني منهج منظري الأفكار السياسية المعاصرة خصوصا (الماركسية اللنينية، والزنجية في صيغتها الغرب إفريقية)، لتصبح مجرد عملية بيع وشراء تتم عبر مقايضة مكشوفة الأهداف لاجدوائية فيها.
لقد مرت السياسة في العهد الطائعي بمراحل عديدة من التقهقر ساهمت بشكل قوي في إفراغها من محتواها الأخلاقي وحتى الباركماتي "بالمعنى المثالي للكلمة"، فغُيّبت الحدود الفاصلة بين المصالح القومية والشخصية، وأصبحت قيمة الفرد تُقاس سياسيا بمدى الخدمات التي يقدمها لقبيلته، وفي ذلك استهداف ممنهج لدولة المواطنة التي تختار مسئوليها على أساس الكفاءة والخبرة.
كان النظام الذي حكم موريتانيا لأكثر من عقدين من الزمن يختار واجهاته على أساس الكفاءة والمكانة القبلية، والمثير للاستغراب أن الطريق إلى السياسة في عهده أصبح يمر حتما عبر توازنات قبلية وجهوية لاعلاقة لها بالمصالح الحيوية لموريتانيا، والظاهر أنه لم يضع في الحُسبان أن الظروف ستُجبره على تفكيك كل القواعد التي بنى عليها إستراتيجيته في تفكيك مفهوم الدولة، لصالح القبيلة وأجندتها الضيقة،.حيث لجأ لتفكيك التكتلات القبيلة وضربها ببعضها من أجل خلق توازنات جديدة، وذلك بعد المحاولة الانقلابية في العام 2003 ، التي شكلت البداية الفعلية لنهاية السياسة في موريتانيا.
أما حاكم البلد بعد العام 2008 فكان أمام خيارين لا ثلاث لهما، فإما أن يُمكّن نخبةً سياسة ،مثقفة في أغلبها،وقفت في وجهه في كل المحافل الدولية ومارست عليه كل أنواع الضغوط داخليا لإجباره على التنازل عن السلطة من خلال مظاهرات يومية ، أما خياره الثاني فهو البحث عن بدائل أخرى تمنحه ،في نظره، شرعية تمكنه من إدارة السلطة لعشر سنوات قادمة، فلم يجدا بُداً من إقحام الشرائحية في المشهد السياسي لتشكل زاوية مهمة في مثلث يشمل القبيلة والجهة، وبذلك فقدت السياسة عصبيتها القائمة على الفكر والمصلحة العامة والولاء للوطن، لتتحول لتراشق غوغائي عماده السب والتجريح والترويج للاقتتال الداخلي في كل منصات السوسيال ميديا وغيرها، وقد ساهمت الظروف السائدة ( تفشي الفقر والجهل...) في تغذية هذه الغوغائية التي كادت أن تشعل حربا بين مكونات الشعب الواحد.
هكذا إذن تكتمل عملية تخريب وعي جماعي في غاية التعقيد ، استغرقت ستة عقود، من خلال سعي الرئيس الحالي لطمس كل المعالم السياسية المتبقية،عبر القضاء على ما بقي من مصداقية لدى المعارضة التقليدية، وإذابتها ضمن منظومة ما يعرف بالموالاة، التي يرى فيها المواطن العادي مجرد مجموعة من الانتهازيين تمتهن تغيير مواقفها بتغير الأنظمة، الأمر الذي أدى لانهيار حلقة الوصل بين النظام وقاعدة شعبية عريضة، قد تلجأ للبحث عن وسائل أخرى لحل مشاكلها بعد انتهاء صلاحية العمل السياسي في البلد.
د. أمم ولد عبد الله