إن ما ظهر في الحوار الأخير من إجماع وطني وديمقراطي خلال الأيام الماضية يدعو للفرح والحبور على الأقل على مستوى النظم والمساطر والشروط العامة بممارسة الاستحقاقات القادمة في جو صحي يخلق فضاءا مريحا مناسبا للسياسيين والمواطنين بشكل عام، تلك كانت مهمة النظام وقد أنجزت بنجاح ويبقى على المواطنين إدراك أهداف الديمقراطية وممارستها بفهم ودراسة حتى تكون للديمقراطية عندنا مزايا غير "الفوضى الخلاقة"!!
فماذا يريد السياسيون من الانتخابات القادمة غير الفوز بامتيازات مادية وحضور معنوي! والأهم ماذا يريد الموريتانيون من الانتخابات القادمة حتى لا يعم الشعور بالإحباط!
لا شك أن النخبة والمهمومين بالهم الموريتاني يريدون من الانتخابات القادمة أن تكون استحقاقات برامج وأفكار لا كرنفالات أشخاص ولا مزادات أموال، نريدها برامج تهتم بإخفاقات التنمية وعثرات التعليم والتحديات الأمنية كما ونريد من نقاشات المرشحين وندواتهم ومجال اهتمامهم أن يركز على الثقافة في موريتانيا. فالثقافة لم تعد ترفا ولا كماليات اجتماعية إنما يجب أن تكون أحد أسس التنمية لأي مجتمع، فقد اعتمدت الأمم المتحدة في جدول أعمال المؤتمر الدولي للتنمية المستدامة سنة 2015 الثقافة ضمن أهداف التنمية .بل إن الثقافة بكل عناصرها رافعة أساسية من روافع التنمية .
وفي دراسة نشرت حديثا قارنت بين علماء حازوا على جائزة نوبل بين عامي 1901 و 2005 في مختلف المجالات والعلوم تأكد أن من انخرط منهم في مجال الفنون والآداب والرسم والتلوين والنحت كانت حظهم في الفوز أعلى سبع مرات، اما من يمارس الشعر والمسرح والأشغال اليدوية فكان حظه أكثر سبع مرات ونصف، في ما وجدت أن من مارسوا الشعر والرواية والقصص والمقالات كان حظهم أكثر ب 12 مرة بالفوز بالجائزة الأهم في العالم. وهو ما يوضح لنا أن الانشغال بالثقافة حتى لأهل العلم والبحث التطبيقي يقدم لصاحبه مسافة تفضيل للتطور والابداع ونيل الجوائز ذات القيمة القصوى ماديا ومعنويا، وذلك لكون الثقافة تصقل الروح وتجعل الحياة ذات جودة أفضل، هذا بالإضافة إلى أنه دائما ما يكون للفن والثقافة بعدٌ تنمويٌ لا تخطئه العين حيث يمكن للفنون أن تسهم فى التقدم الاجتماعي والاقتصادي، فهي إضافة جميلة وممتعة وإنسانية وتنموية. فمثلا لعقدين من الزمن غزت المسلسلات التركية الفضاء العربي فزار الكثيرون تركيا وازدهرت السياحة وارتفع الاقتصاد التركي، تماما كما أننا نحن الموريتانيون تم التعرف على الكثير من ثقافتنا وتراثنا الفني من خلال الفنانة العظيمة المعلومة منت الميداح التي تستحق أن نعتز بها تماما كما تفتقد منا للأسف الكثير من الاعتراف بدورها ومكانتها الكبيرة.
لقد استطاع الإنسان الموريتاني منذ عهود خلت قبل نشأة الدولة الحديثة بناء ثقافة عالمة تعلي كل قيم المعرفة وتشيع انماطا جمالية فاعلة غزت العالم وعرف الناس من خلال حامليها البلد وأهله وصاروا مرجعيات ثقافية في الحفظ وعلوم اللغة والدين رغم الانزواء الجغرافي والنقص العددي بل صارت الثقافة هي القوة الناعمة لموريتانيا عبر الزمن . غير ان المشهد يعاني في السنوات الأخيرة من ركود كبير تجلى في نقص الحركية الثقافية والابداعية وانحسار القيم وشيوع ثقافة الاستهلاك وفقر في الذائقة الجمعية حتى نكاد نكون المجتمع الوحيد الذي يتعمد الاستخفاف بوطنيته نتيجة وقع كل تلك النواقص.
إن غياب الإشارة في برامج المرشحين إلى جوانب الثقافة والتراث أو حتى التلميح إليها، يدل على النقص الشديد في الوعي بأهمية الثقافة، فيجب أن يكون تركيز الحملات مسلطا بشكل مباشر وجلي على كيفية تطوير نشاطات وفعاليات ثقافية تهدف إلى صون التراث وتثمينه ووضع آلية ثقافية وفقا لأسس مرجعية مضمونة تضمن خلق جو ملائم يتسم بالوئام والتفاهم والاحترام المتبادل بين جميع مكونات المجتمع وتتبنى تطوير كل أشكال التعبير الدالة على التعدد الثقافي كوسيلة إثراء وغنا اجتماعي يجب المحافظة عليه.
إن من شأن تلك البرامج ـ والحديث فيهاـ أن يفرض تغييرا جذريا في طريقة تفكير الحكومات بشأن استثمار الثقافة واستغلال كل جهة من جهات الوطن بنكهتها الخاصة سواء من جهة اللغة أو الازياء أو الفنون أو المعمار واستثمار المعطى الخاص بالموريتانيين عموما والمتمثل في النقاء والطيبة الذي بدأنا نفقده للأسف بسبب الحداثة وما يترتب عليها.