تمثل الانتخابات أساس شرعية الحكومات والقادة السياسيين ، حيث تعكس شفافيتها الاحترام الذي تكنه الدول لشعوبها وتلهمهم التطوع والمشاركة السياسية الواعية والمسئولة. ونتيجة لذلك أصبحت الانتخابات النزيهة وذات المصداقية القابلة للتحقق الوسيلة الأكثر فعالية لتمكين المواطنين من إسماع صوتهم والمشاركة في صنع القرار ، ودعامة صلبة لبناء دول وحكومات قوية وشرعية مرتكزة على أسس ديمقراطية قابلة للحياة . ولتحقيق هذه الأهداف التي أصبحت من مقومات أسس الدولة الديمقراطية الحديثة اتجهت العديد من الدول الغربية في بداية القرن العشرين إلى تفويض إدارة الانتخابات إلى إدارات حكومية تابعة في الغالب لوزارة الداخلية ، ثم أصبحت هذه المهمة لاحقا من اختصاص لجان تختلف تسمياتها وطرق تشكيلها وصلاحياتها والمهام الموكلة إليها بحسب طبيعة النظام السياسي القائم في كل بلد . كانت وزارة الداخلية والسلطات البلدية في الديمقراطيات الغربية القديمة هي المسئولة عن إدارة الانتخابات ، وبمرور الوقت أصبحت اللجان الانتخابية في عدد من البلدان تشرف على الانتخابات التي تديرها الحكومة . تتكون هذه اللجان بشكل عام من قضاة وممثلين عن الأحزاب السياسية ، على غرار ما يسمى بالنموذج الفرنسي أو "النموذج المختلط " . ومع تزايد الوعي المدني لدى المواطنين في ظل قيام أنظمة سياسية ديمقراطية حديثة ، شهد العالم تدريجيا ظهور لجان انتخابية مستقلة ، مهمتها تنظيم الانتخابات بطريقة محايدة ومهنية . هذه اللجان غير خاضعة لوصاية السلطة التنفيذية وتمثل اليوم النموذجالأكثر شيوعا في مجتمعات الحداثة وما بعدها . لم يكن مسار تطور إدارة الانتخابات في موريتانيا استثناء أو بعيدا عن مسار التطور التاريخي لإدارة العمليات الانتخابية بل كان مشابها تماما لأساليب الإدارة الانتخابية التي جربتها دول عديدة منذ العصر الحديث . وقد تزامنت مباشرة الدولة الموريتانية لإنشاء إدارة حكومية تختص بتنظيم الانتخابات مع بداية المسلسل الديمقراطي في التسعينيات من القرن العشرين . وكانت وزارة الداخلية آنذاك مسئولة عن جميع جوانب الإدارة الانتخابية ولعبت بالكامل الدور الرئيسي والحاسم في تنظيم العملية الانتخابية في موريتانيا . كانت " مديرية تعزيز الديمقراطية والمجتمع المدني " بوزارة الداخلية مسئولة بشكل خاص عن تنظيم الإحصاء الانتخابي والعمليات واللوجستيك وكذلك مركزية النتائج . تتكفل باختيار وتدريب كادر مكاتب الاقتراع ، وهي مسئولة عن قضايا الاعتراف والتشغيل وتمويل الجمعيات والأحزاب السياسية . كما كانت مسئولة عن إعلان النتائج الأولية للانتخابات بينما النشر النهائي من مسئولية المجلس الدستوري . ومنذ سنة 2006م تأسست في موريتانيا لجنة وطنية مستقلة للانتخابات غير دائمة ( CENI ) ليس من صلاحياتها تنظيم الانتخابات بل هي مسئولة حصرا عن الإشراف والرقابة على الانتخابات . ولهذه الغاية كانت تتمتع بسلطة إصدار أمر قضائي وإذا لزم الآمر التعليق في حالة انتهاك السلطة الإدارية للأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات . وفي ضوء نتائج الحوار الوطني سنة 2012م ، وإصدار القانون الأساسي 027- 2012م المٌؤَرَخ 12 أبريل 2012م ، تَقَرَرَ إنشاء لجنة انتخابية وطنية مستقلة جديدة ودائمة (CENI ) يٌعْهَدٌ إليها تنظيم الانتخابات ومقرها في نواكشوط . يمنح القانون الأساسي الجديد هذه اللجنة صلاحيات كاملة لإعداد وتنظيم ومراقبة العملية الانتخابية بأكملها ، بدء من مرحلة المصادقة على السجل الانتخابي وصولا إلى الإعلان المؤقت للنتائج وإحالتها إلى المجلس الدستوري للإعلان النهائي . اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات هي سلطة جماعية جديدة برئاسة لجنة توجيهية يعين أعضائها على إثر مرسوم من رئيس الجمهورية وبناء على اقتراح من الأغلبية والمعارضة . يجب أن تستوفي الشخصية المقترحة لعضوية اللجنة التوجيهية للجنة الوطنية المستقلة للانتخابات مجموعة من الشروط نذكر منها :
- أن يكون الشخص المقترح حاصل على تكوين أولي لمدة ثلاثة سنوات على الأقل بعد البكالوريا في التعليم أو لديه خبرة مؤكدة لا تقل عن عشرين عاما في الفئة " أ " أو ما يعادلها ، ويفضل أن يكون قد تقاعد .
- أن يكون معروفا باستقلال الرأي والاستقامة الأخلاقية والحياد
- أن لا يكون قد شغل خلال السنوات الخمسة الماضية من مسيرته المهنية منصبا رفيعا في الإدارة ، على وجه الخصوص وزيرا ومن في حكمه كالوالي والحاكم وأمين عام دائرة أو تابع للقوات المسلحة أو قوات الأمن ...ألخ
تتمتع اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات CENI باستقلالية تامة ولا تتلقى أي تعليمات من أي سلطة أو مؤسسة عامة أو خاصة إلا أن هذه الاستقلالية التامة لم تحل دون تقصيرها في الإدارة الحكيمة والمسئولة لكل العمليات الانتخابية التي أشرفت على تنظيمها منذ صدور القانون الأساسي 027-2012م . فإذا كانت اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات قد نجحت في إنجاز بعض المهام التقليدية الموكلة إليها مثل تحديد التقويم الانتخابي وتحديد مراكز الاقتراع ومواقعها ، إصدار الإيصالات المؤقتة والنهائية لإعلانات الترشح ، مَرْكَزَةٌ وإعلان النتائج الانتخابية البلدية والبرلمانية ، فإنها قد فشلت في تنفيذ العديد من المهام الحساسة التي من دونها لا يمكنها المراهنة على كسب ثقة واحترام المواطنين الموريتانيين . فمن أهم الانتقادات التي أٌخِذَتْ عليها بعد إصدار القانون الأساسي 027 - كونها تٌوصَفٌ بالإختلالات ونقاط الضعف التالية :
- عدم إصدارها تقريرا نهائيا ، وبصفة دورية ، حول انتهاء مهامها بعد كل عملية انتخابية Rapport de la Fin du Mandat تٌسَلِطٌ فيه الضوء على الانجازات التي تحققت أثناء مأموريتها ، والخروقات الانتخابية التي حصلت والمشكلات الرئيسة التي تنطوي عليها إدارة الانتخابات وتعيين الدروس المستخلصة من تجربة اللجنة واقتراح توصيات أو مبادئ توجيهية قد تساعد في انجاز مهامها مستقبلا .
- التبعية وعدم الاستقلالية التامة عن المديرية العامة لدعم العملية الانتخابية ( DGAPE ) التابعة لوزارة الداخلية إذ أن هذه المديرية تنافس CENI في بعض صلاحياتها وتحتكر على نحو ما جميع الخدمات والهياكل الإدارية المشاركة في تنظيم الانتخابات .
- غياب التخطيط الاستراتيجي والعملي للانتخابات البلدية والبرلمانية هذا فضلا عن الانتخابات الرئاسية الماضية
- عدم الاهتمام بمراقبة تمويل الأحزاب السياسية ونفقات الحملات ، إذ أن الأحزاب السياسية المهيمنة على المشهد السياسي الموريتاني تتلقى تمويلات لا تعبأ CENI بمعرفة مصادرها ، كما أن شراء الذمم نهارا جهارا لم يمثل قط مصدر قلق لهذه اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات .
- عدم الشفافية فيما يتعلق بشراء المعدات والتكنولوجيا المستخدمة في الانتخابات ، فعملية التعبير عن العطاءات Les offres غير معلومة للجمهور واللجنة لا تعبر عن تلك العطاءاتبواسطة إشعار عام لضمان حصول البائعين على فرصة عادلة لتقديم عطاءاتهم التنافسية .
- عدم التدخل لتمكين كل المرشحين من الوصول إلى وسائل الإعلام الوطنية المتاحة
- إهمال التوعية وإرشادات التربية المدنية للمواطنين أثناء المواسم الانتخابية : فمن شأن هذه التوعية تحسيس المواطنين بأهمية الانتخابات، كونها تحفزهم على التعبير عن آرائهم والمشاركة في عملية صنع القرار ، وأنها الخيار المناسب للقضاء على النزعات القبلية والجهوية والعرقية وخطابات الكراهية والعنصرية التي يمتطيها الكثير من المرشحين أثناء الحملات الانتخابية لتعزيز حظهم في الرئاسة أو إيصال مرشحي حزبهم لقبة البرلمان ومقار البلديات والمجالس الجهوية ...
- غياب التنسيق المحكم بين CENI ومنظمات المجتمع المدني أثناء عمليات الانتخابات مما ينعكس سلبا على جودة أداء هذه اللجنة وانحسار ثقة المٌنْتَخِبين بها .
- توصف اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات بعدم الشفافية بخصوص الإعلان عن ميزانيتها وكيفية صرف الأموال المتاحة لها في حين أن هذا الإجراء خاصية مميزة لكل مؤسسة تتبنى سياسة الحكامة الرشيدة و تٌؤْمِنٌ بإمكانية الخضوع للمسائلة والتدقيق .
- تتأثر أنشطة اللجنة بالتجاذبات السياسية بين الأحزاب وتتغاضى عن بعض خروقاتها في وقت يطلب منها أن تكون سلطة مضادة لأي قوة سياسية لا تنسجم ممارساتها مع القيم والمبادئ والآداب المٌوَجِهَة لعمل اللجنة CENI
تثير هذه الإختلالات التي تعاني منها حاليا اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات CENIإحساسا خاصا بضرورة إعادة إصلاح شاملة لهذه اللجنة من خلال توحيد الجهود واعتماد مقاربة شمولية لإيجاد مسارات حلول جديدة تحافظ على المكاسب التي تحققت في ظل المأمورية المنصرمة لهذه اللجنة ، ولكن في نفس الوقت تفضي إلى إصلاح الإختلالات وسد أوجه التقصير والعجز التي ما زالت تعاني منها سواء على مستوى إستراتيجيتها في إدارة العمليات الانتخابية أو على مستوى الإشراف والتنظيم والمراقبة الجادة لهذه العمليات . إن إصلاح هذه الإختلالات المذكورة سالفا ينسجم مع أهداف مشروع الإصلاح السياسي الشامل الذي تبشر به وتعمل على تنفيذه القيادة السياسية الحالية للبلد ، كما أنه كفيل بإعادة بناء الثقة بين الجمهور وهذه اللجنة وسيؤهلها لأن تقوم بجدارة بالمهام الموكلة إليها كلما دعت الحاجة إلى ذلك .
الدكتور سيدي محمد يب احمد معلوم
خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات