اعتاد الموريتانيون على الترحال السياسي، وعلى تغيير المواقف بسرعة الضوء، فتاريخ البلد حافلٌبمثل هذه الأحداث بدءاً من حزب الشعب إلى PRDS ، ومعظم عِليّة القوم لايجد غضاضةَ في تغيير موقفه مع تغيير الحاكم في بلد سجل -حتى الآن- أكبر نسبة للانقلابات في الدول العربية، حيث وصلت إلى أربعة عشر انقلاباً (نجحت خمسة منها وكان الفشل من نصيب التسعة الباقية) .
كان أول رئيس للبلاد قد نبّه باستغراب في مذكراته إلى ظاهرة "التصفاك" لدى النخبة في وطنه،حين هاجمته بعد أقل من اثنتين وسبعين ساعةً من الانقلاب عليه، والواقع أن هذا التغيّر السريع في المواقف يمكن فهمه في إطار علاقة القوم بكل ما حولهم والذي تحكمه نظرة مبنية على التّرحال المزمن،حيث فرض نمط الانتجاع على الموريتانيين سلوكاً معيناً تُغيَّب فيه مفاهيم عديدة مثل الاستقرار والولاء...
لقد ظلت الموالاة بأغلبية لمن يحكم هي السمة البارزة للحالة السياسية في البلد، ورغم ذلك فإن الولاء مربوط بالكراسي أكثر من ارتباطه بالأشخاص، وهو الأمر الذي صدم ولد الطايع في أول مقابلةله مع قناة العربية بعد الانقلاب عليه، فقد بدا منزعجاً من سرعة تغيير مواقف أغلبيته بعد عقدين من تمجيد إنجازاته من خلال الشعر بنوعيه الفصيح والعامي.
ومنذ تأسيس الدولة الموريتانية (1960 إلى انقلاب 2008) لم يكن "التصفاك" يثير إشكاليةً لأنه كان يسير ضمن نسق واحد هو تمجيد التغيير الجديد وترسيخ سلطة صاحب الإنقلاب الذي لم يعد هناك من ينافسه -على أقل- خلال فترة تحكّمه في مقاليد السلطة.
بعد حوالى خمسة عقود من إنشاء الدولة الموريتانية حدثت تغيرات كثيرة بعضها مرتبط بالتطور الهائل الذي حدث على مستوى العالم، والبعض الآخر له علاقة مباشرة بماحدث على المستويين الإقليمي و الداخلي، حيث ارتفعت نسبة الوعي بشكل ملحوظ، وزادت حِدة المخاطر التي تهدد المنطقة ماجعلها محط اهتمام دول كبرى خصوصاً بعد الاكتشافات الهائلة من النفط والغاز والذهب. هذه المتغيرات فرضت على عسكريي موريتانيا تبني إستراتيجات جديدة في الانقلابات قائمة على إقحام السلطة التشريعية فيها وهو ماحدث مع الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله.
إننا أمام متغيرات جديدة ستنتج ماسميناه بظاهرة " التّصفاكْ المزدوج"، فولد عبد العزيز الذي ظهر بقوة خلال عقد ونصف من الزمن، أوهم الرأي العام أنه كان ومازال يتحكم في خيوط اللعبة عبر ترويج خطاب الاستمرارية، ومن خلال استيلائه على أموال طائلة، وحتى عبر عودته المستفزة إلى الوطن وكذاحديثه عن المرجعية بأسلوب أربك النخبتين العسكرية والمدنية اللتين اعتادتا على التصفيق الأحادي، ولعل هذا ماجعل بعض النواب الموالين لغزواني في العلن يراسلون عزيز عبر تطبيق وايتساب بحسب مواقع محلية.
والظاهر أن إزدواجية "التِّصْفاكْ" للمّحُمدَيْن راجعة بالأساس إلى تخوف البعض من المنهج الإصلاحي الذي اتبعه غزواني، فنشر تقارير محكمة الحسابات للعن أخاف الكثير من الموالاة وجعلهم يتمسكون بالرجل الذي غضّ وسيغض الطرف في المستقبل -إن أتيحت له الفرصة- عن تجاوزاتهم.
هذه الإزدواجية هي التي جعلت غزواني يعتمد على مستشارين تم اختيارهم على عدة معايير من أهمها القدرة على مواجهة العملاء المزدوجين les agents doubles، ويتخذ من الجنوب رأس حربة في المواجهة غير المعلنة بينه وبين خصمه الجديد، فتولي بعض الضباط المحسوبين على منطقة بعينها تأمين منصة الاحتفال بالذكرى 59 لعيد الاستقلال يعكس هذا التوجه بوضوح، كما أن استخدام أطر الترارزة في تنظيم المبادرات الدائعمة لغزواني يظهر أن الرجل استغل التاريخ وحتى الجغرافيا السياسية في مواجهة رفيقه دربه المصر على الرجوع إلى السلطة عبر كل البوابات حتى ولوكانت مغلقة.
إشكالية "التصفاك" المزدوج بهذا المنطق تضع موريتانيا في مفترق طرق غاية في الخطورة، وأعتقد أن المواجهة غير المباشرة هي التي ستمنح الرئيس السابق هامشاً أكبر للمناورة، وقد يتحول التصفاك المزدوج إلى تصفاك أحادي إذا لم يضع الرئيس المنتخب حداً لوهم رفقيه الآخذ في التحول إلى حقيقة.
د. أمم ولد عبدالله