من تاريخ الكادحين: بطل صيحة المظلوم وسينفونية بتهوفن الخامسة (الحلقة 8)

بقلم بدن ول عابدين

تعقيبا على ما كتبت البارحة، عن الذكرى الأولى لصدور العدد الأول من "صيحة المظلوم"، وصلني تعليق أثلج صدري من أحد كبار المحررين في الصحيفة يومها، حضر الاحتفال الذي حدثنا عنه سابقا وعاش العذاب والحرمان، عرف السجون، خرج منها شامخ الرأس عزيمته لا تلين. أتذكر أن المغفور له بإذن الله محمد سالم زين وكان زعيماً وقائدا بارزاً وهب حياته، أفنى نعيم شبابه خدمةً لوطنه، تميز بالتضحية والصدق والإخلاص حدثني عنه قال: "لما خرج الرفيق فاضل الداه من بيله (وهو سجن رهيب في لكصر) كنتُ أول من اتصل به لأقدر معنوياته المرتفعة خلال وجوده داخل زنزانات النظام وما سمعنا عنه من صمود وهو يواجه جلاديه شُلت أيديهم، أسكنوه في أقفاص لا يعادلها ضيقا وسوءً إلا ما ذاقه وهو حرٌّ طليقٌ أثناء العمل الشاق الذي كان يقوم به في "غبة الطباعة" الخباء يخرج منها مختنقا يتصبب عرقا. واستطرد المغفور له محمد سالم زين طيب الله ثراه: دخل علي الرفيق فاضل الداه وهو باسمُ الثغرِ وضاح المحيى يحمل مظروفا فتحه أمامي وقال: "هذه شهاداتي جميعها وكانت يومها من أفضل ما يحصل عليه الموريتانيون ومن جامعات شهيرة، أُمزقها تمزيقا لأتفرغ بكل طاقاتي، سواد ليلي وبياض نهاري، وأضع نفسي تحت تصرف شعبي ووطني متفرغًا لخدمة المظلومين... أنا من الثوار" انتهى الاستشهاد.

هذا الشاب المثقف الرفيق فاضل الداه تَقلدَ، بعد أن وضعت "الحرب أوزارها"، وظائف سامية في الدولة: وزيرا للطاقة والمياه ثم نائبا لوزير الخارجية عمل ممثلا دائما لموريتانيا لدى الجامعة العربية وسفيرا في مصر والسودان واليمن والعراق وسوريا والأردن ولبنان والمغرب ومستشارا لرئيس الجمهورية ومديرا عاما لمؤسستي الإذاعة الوطنية وجريدة الشعب وعُين بعد التقاعد أمينا دائما لمجلس جائزة شنقيط لعدة سنوات. النص الذي وصلني من الوزير فاضل ول الداه تعقيبا على ما نشرتُ أنقلُه لكم حرفيا:

"رغم الفرح بذلك الحفل البهيج وخاصة بالمشوي الذي كان بالنسبة لنا أندر من "الكبريت الأحمر"، ورغم تواضع التكريم الذي ناله زميلنا يسلم فما زلت أذكر أنني شعرت وقتها بشيء من الغيرة من الزميل المحظوظ ولا أدري هل شعر بقية الرفاق بنفس الشيء وأسروه في أنفسهم، وتفسير ذلك أن السباق والتدافع بالمناكب يومئذ لم يكن مثل ما هو اليوم حول من يتبوأ المنصب الأعلى أو يمتلك السيارة الأفخم أو البيت الأجمل، بل حول من يُقدّمُ للشعب أنفع وأجلّ الخدمات..

فقد رأيت ما كنا نعاني من شهية لأكل اللحم ونحن مع ذلك أصحاب وظائف ودخول تخلوا عنها طواعية وقد كان بإمكانها أن توفر لهم شيئا من رغد العيش ولكنهم فضلوا الجوع والمعاناة الشديدة إعلاءً لمصالح الشعب..

نسيت أن أقول إن التكريم الذي ناله يسلم كان عادلا ومنصفاً. فالمجهود الذي يقوم به يفوق ما نقوم به جميعاً شدة وعناءً. فبينما نستطيع نحن أن نتمدد ونحن نكتب أو نملي أو نصحح يبقى هو جالساً طول الوقت ساعات وساعات وهو ينْقُرُ بإصبع واحدة على الآلة حتى يتم إنجاز الجريدة في جو من الضيق والكرب لا يماثله إلا نقرات الموسيقار بيتهوفن وهو ينجز السيمفونية الخامسة وقد أغلق على نفسه غرفة ضيقة خوفاً من مالك العقار الذي يدق عليه كل دقيقة يشتمه ويهدده بالطرد إن لم يدفع إيجار الغرفة..

وكانت طرقات هذا المالك البخيل للباب هي التي قلدها الموسيقار بنقرات على البيانو سماها ضربات القدر تصويراً لمعاناته الشديدة.." انتهى الاستشهاد.

 

إليك يا صيحة المظلوم أهديها

                       تحيةً يملأُ الإعجاب مُهْديها

   

أعود إلى قصة رائعة الشاعر أحمدو عبد القادر وكنتُ وعدتُ القراء والمتابعين الكرام بسردها فأذكر أنه بعدما أنهينا مراسيم حفل الذكرى الأولى لصيحة المظلوم طلب الشاعر أن نأذن له بيوم يدخُلُ فيه جوّاً ملهماً لقرض الشعر بالطواف حول بعض الحدائق الغناء في المدينة والتمتع بمنظرها الخلاب وعبق أزهارها الفاتنة، ليُساعده ذلك على مهمته. سلك الشاعر طريق جمال عبد الناصر، توجه نحو البحر سيرًا على الأقدام، مرّ أمام المستشفى الوطني عرج يسارا، اقترب من أكواخ "الكبة"، أرجع النظر كرتين، لفت انتباهه مشهدٌ غير مألوف! أحد الأكواخ التي كنا نستخدمها لتصفيف صيحة المظلوم لم يعد قائما في مكانه، عصفت به هوج الرياح ورمت حُطامه أشلاءً متناثرةً على مدِ البصر! أما المحتويات فسلمت بأعجوبة، كنا لا نتركها احترازاً فوق أرضية الكوخ بل تكون عادةً في صندوق حديد موصد، نحفرُ له غارًا يتوسط أرضية الكوخ ونُواريه التراب ثُم نبسط الفراش فوقه و نُكملُ ديكور التمويه.

عاد إلينا الشاعر قبل أن يُتٍم نزهته العاثرة لكنه أنقذ كنزا يُمثل صيدا ثمينا للعدو المتربص. ومن هذا المشهد البائس ولدت رائعة الشاعر تحيةً لصيحة المظلوم:

إليك يا صيحة المظلوم أهديها

  تحية يملأُ الإعجاب مهديها

يا شعلةً تغمُر الآفاقَ مشرقةً

فوق المنابر تُعليها و تُذكيها.

تجدون نص القصيدة كاملا مرفقا بهذا المقال.

أما صيحة المظلوم فقد ظلت عصيةً على القبض عليها رغم ما بذل النظام من جهود لتوقيفها. فبعد صدور العدد الأول من "الصيحة" سجّلَ الإدعاء دعوى ضد مجهول "إكْس" وهو حسب الدعوى "فرد أو مجموعة من الأشخاص يكتبون منشوراتٍ يوزعونها في عموم التراب الوطني تدعو إلى الفوضى وقلب النظام ليس لهم عنوان معروف". وما أصعب أن تُطاردَ مجهولاً ليس له عنوان.

 

                              بدن عابدين

اثنين, 08/02/2021 - 11:31