لا يبدو عالم التنقيب عن الذهب في موريتانيا لامعاً على عكسِ المعدن الثمين، فهو عالمٌ معقّد ومتشعّب ولا مكان فيه للفقراء والضعفاء.
انطلقت صحبةَ صديقِي البَكايْ وِلد الصّالح قُبَيْلَ فجرِ الخميسِ في الثلاثينَ من مايو 2024 من العاصمةِ الموريتانيةِ نواكشوط قاصداً مدينةَ الشَّامي وجوارَها. كنتُ أرومُ تعقُّبَ حكايةِ التنقيبِ السطحيِّ عن الذهبِ وحكاياتِ ناسِه. ذلك المعدنُ النفيسُ الذي شُغِفَت أفئدةُ الموريتانيين باستخراجِه والتجارةِ به منذ سمحت الحكومةُ الموريتانيةُ للمواطنين التنقيبَ عنه سنة 2016.
سِرنا بهدوءٍ في ظلامِ الطريق. ارتأيتُ مصاحبةَ البكاي الذي خاضَ تجربةَ التنقيبِ السطحيِّ عن الذهبِ بالحفرِ في سطحِ الأرضِ بحثاً عن المعدن. كانت طريقُنا شبهَ خاليةٍ في بدايةِ الرحلةِ، فقد سبقَ أن قرّرَت السلطاتُ الموريتانيةُ في أكتوبر سنة 2023 منعَ الشاحناتِ والسياراتِ العاملةِ في مجالِ النقلِ العموميِّ من السَيرِ في الطرقِ العامّةِ بين الولاياتِ بعد منتصفِ الليلِ حتى الساعةِ الخامسةِ صباحاً، فلَم يَعُدْ يُسمَحُ بالمرورِ إلا للسياراتِ الشخصيةِ التي لا تعملُ في مجالِ النقل. لكنّ ذلك الهدوءَ الطويلَ في الطريقِ بدأَ يَتخلّلُه الصخبُ قبيل بزوغِ الشمسِ عند خروجِ الشاحناتِ إلى الطريقِ، حينَ أمكنَني رؤيةُ الشاحناتِ المغربيةِ التي تنقلُ الخضرواتِ والبضائعَ بين المغربِ وموريتانيا ومالي وبقيّةِ دولِ الغربِ الإفريقيِّ. كانت هذه الشاحناتُ تسيرُ مسرعةً أحياناً وتُسابِقُها الشاحناتُ التي تؤمِّنُ احتياجاتِ شركاتِ الذهبِ الكبيرةِ وتَصحَبُها حافلاتُ نقلِ الركّابِ إلى مدينةِ الشامي ونواذيبو، العاصمةِ الاقتصاديةِ في موريتانيا، فكان جُلُّنا في سباقٍ نحو مناجمِ الذهبِ كأنّ الحُمَّى قد أصابَتنا.
وَصَلْنا مدينةَ الشامي مع تسلّلِ خيوطِ الصباحِ الأُولى بعد أن قَطَعْنا مسافةَ مئتين وخمسين كيلاً. وكانت مطاحنُ التعدينِ الأَهليِّ أوّلَ ما استقبلَتنا به المدينةُ، وهي مطاحنُ يَجلِبُ إليها المنقِّبون عن الذهبِ الحجارةَ المستخرَجةَ من آبارِ التنقيب لطحنِها وتصفيتِها بحثاً عن المعدنِ الثمينِ فيها. دَلَفْتُ إلى عالَمِ مدينةِ الذهبِ المثيرِ وتابعتُ المنقِّبين وعمّالَ المطاحنِ المنشغلين في عملياتِ تصفيةِ الذهبِ عن الحجارة.كانت بوارقُ الأملِ تشعُّ من أَعيُنِهم، فحُلمُ الثراءِ مسيطرٌ على المشهدِ ويستوي في ذلك المستثمِرُ والعامل.
اجتاحَت حُمَّى الذهبِ موريتانيا سنةَ 2016 بعد تشريعِ التنقيبِ عنه للمواطنين، على أنّ بعضَهم اشتغلَ في الأمرِ بصفةٍ غيرِ قانونيةٍ قبلَ التشريع. أصبحَ الذهبُ الشغلَ الشاغلَ للمواطنين ويسيطرُ على نقاشاتِهم في سياراتِ الأُجرةِ والمكاتبِ والإعلامِ والمجالسِ الخاصّةِ، فصارَ المرءُ يشعرُ بالغربةِ في مجلسٍ لا يُبدي فيه رغبتَه في الذهابِ إلى "جِنانِ الذهب" أو حين يُبدي عدمَ اهتمامِه بالأَمر. وكلّما فَتَحَت السلطاتُ مناطقَ جديدةً للتعدينِ الأهليِّ تزدادُ وتيرةُ الاهتمامِ وأعدادُ المغامرين الباحثين عن حلمِ الثروة. وحسبَ تقديراتٍ حديثةٍ لشركةِ معادنِ موريتانيا الحكوميةِ، يُنتِجُ القطاعُ اليومَ ما يناهزُ 40 طنّاً سنويّاً من الذهبِ الخالصِ، يُباعُ 25 بالمئةِ منه للبنكِ المركزيِّ الموريتانيِّ، في حينِ يوفِّرُ القطاعُ اثنين وخمسين ألفَ فرصةِ عملٍ مباشرةٍ ومئتي ألفِ فرصةِ عملٍ غيرِ مباشرةٍ من حفّارين وعاملين في المطاحنِ والمقاولين بأصنافِهم وأصحابِ المحلاتِ التجاريةِ وشركاتِ النقل. ويُرجِعُ البعضُ هذا الانهماكَ في البحثِ عن الذهبِ إلى ارتفاعِ معدّلاتِ البطالةِ في موريتانيا، إذْ سَبَقَ وأعلَنَت الحكومةُ الموريتانيةُ أن نسبةَ البطالةِ في البلادِ تصلُ إلى حوالي 37 بالمئةِ سنة 2021، مشيرةً إلى أنّ قرابةَ نصفِ مليون موريتانيٍّ عاطلون عن العملِ، بينما تشيرُ إحصائياتٌ أُخرى غيرُ رسميةٍ أنّ معدّلَ البطالةِ وصلَ إلى 31 بالمئةِ سنة 2023.
ويتجارى الموريتانيون، لا سيّما الشبابُ، منذ 2016 نحو حُلمِ الثراءِ من الذهبِ غيرَ مدرِكين التحدّياتِ والتعقيداتِ التي قد تواجهُهم. إنَّ عملياتِ التنقيبِ السطحيِّ عن الذهبِ عملياتٌ معقّدةٌ، وشبكةُ العلاقاتِ في هذا المجالِ معقّدةٌ كذلك. يحتاجُ الطامحُ إلى الثراءِ في هذا المجالِ إلى ميزانيةٍ ضخمةٍ حتى يستطيعَ أن يكونَ سيّدَ نفسِه، وإلّا وجدَ نفسَه في غالبِ الأحيانِ عاملاً عند أحدِ المستثمِرين أو المقاولين الذين ينظِّمون عملياتِ الحفرِ والطحنِ والتصفية. وتُواجِهُ المجالَ، مع تقنينِه للمواطنين، عقباتٌ كبيرةٌ منها انعدامُ الحمايةِ والتأمينِ من أخطارِ العملِ وضعفِ الوعيِ بالخطرِ الصحّيِّ وضعفِ التنظيمِ الحكوميِّ للمنقِّبين. هذا مع كونِ عالمِ المنقِّبين عالماً معقّداً يجبُ على المرءِ فيه أن يكونَ صاحبَ علاقاتٍ وأن يستعدَّ للدخولِ في المشاكلِ وأن يملكَ صبراً ونفساً طويلاً، وهو أمرٌ قد لا يحوزُه كثيرون من الحالمين بالثروةِ ممّن يَتهيَّبون نزولَ الحُفَر.
بينما كنتُ أستعدُّ للسفرِ إلى المناجمِ أجريتُ حديثاً مع الحسين محمد عمر، وهو باحثٌ مستقلٌ في الاقتصادِ، قال فيه إنّ فوائدَ الذهبِ لموريتانيا عظيمةٌ. ففضلاً عن آلافِ فرصِ العملِ التي تخلقُها صناعةُ التعدينِ، مساهمةً في خفضِ نسبةِ البطالةِ في البلادِ، فإنّ الذهبَ الذي يُعطَى للبنكِ المركزيِّ الموريتانيِّ يدعمُ سعرَ صرفِ الأوقيةِ الموريتانيةِ مقابلَ العملاتِ الدولية. وأفادَ أنَ المبالغَ الواردةَ من بيعِ الذهبِ قُدِّرَت بمئةٍ وأربعةَ عشرَ مليونَ دولارٍ في أَوّلِ ستّةِ أشهُرٍ من سنة 2023. وأضافَ بأن حجمَ الاستثماراتِ الوطنيةِ في التعدينِ الأهليِّ قُدِّرَت بستّين مليون دولارٍ، إضافةً لنحوِ عشرين شركةً عاملةً في المجال.
تركتُ المطاحنَ وذهبتُ إلى مركزِ المدينةِ الصغيرةِ والحديثةِ بحثاً عن سيارةٍ تقلُّني والبَكايَ إلى "المَجاهِر" أي مناجمِ التنقيبِ السطحيِّ عن الذهبِ، فلَم تكُن سيّارتُنا مهيَّأةً للطريقِ الصحراويِّ الذي لا تناسبُه إلا سياراتُ الدفعِ الرباعيّ. وبعد أن اتفقْنا مع صاحبِ سيارةٍ وفي انتظارِ الرحلةِ، توجَّهتُ إلى سوقِ المدينةِ لأشتريَ لثاماً أحمي به نفسي من الغُبَارِ الناتجِ عن التنقيبِ في المَجاهِر. دَخَلْنا محلَّ ملابسَ، ولاحظَ البَكاي أن السوقَ صارَ أقلَّ صخباً وازدحاماً عن آخِرِ عهدِه به. أَلقَى بملاحظتِه هذه إلى صاحبِ محلِّ الملابسِ الذي لم يتردّدْ في الإجابةِ متحسِّراً: "صَدَقْتَ. مدينةُ الشامي ما تلات [لَم تَعُدْ] كيفَ ما كانت. اليومَ أتكد [تكادُ] اتصيد البطّ في مرصتها [ساحَتِها] … لأن المدينة ضيّعها ضعف حال التنقيب وهي أصلاً انتعشت إلا من بركته".
لم تكُن مدينةُ الشّامي موجودةً بشكلِها الحاليِّ قبل 2012، فهي مِن أحدثِ المدنِ الموريتانية. تَبعدُ المدينةُ عن شاطئِ المحيطِ الأطلسيِّ ثلاثين كيلاً، وتقعُ في سهلِ الساحلِ الموريتانيِّ بَهِيِّ التضاريسِ وواسعِ الأُفُق. وُضِعَ حجرُها الأساسُ يومَ التاسعَ عشرَ من مارس 2012 إثرَ اختيارِها عاصمةً للمقاطعةِ الجديدةِ التي تحملُ الاسمَ نفسَه. كانت بدايةُ الشّامي موحشةً، حيث لم يكن فيها منشآتٌ ولم يقطُنْها إلا قليلٌ من السُكّانِ، وقد بُنِيَت فيها مقرّاتٌ للسلطاتِ الإداريةِ ومنشآتٌ صحّيةٌ وتعليميةٌ وشبكةٌ للمياهِ والكهرباءِ وشبكةُ طرقٍ داخلية ومنازلُ وشققٌ سكنيّةٌ، لتكونَ جميعُها نواةَ المدينةِ الجديدة. وعَرضَت السلطاتُ الموريتانيةُ تلك المبانيَ للبيعِ فأقبلَ المستثمِرون والمواطنون على شراءِ أراضيها. كان للذهبِ الفضلُ في انتعاشِ المدينةِ فازدهرَت وأصبحَت قِبلةً للباحثين عن الثراءِ والفرص.
كان سكّانُ الشامي المستحدثةِ أفراداً قلّة، واليومَ بفضلِ التعدينِ الأهليِّ أصبحوا يقدَّرون بالآلافِ، على أنّه ليست هناك إحصاءاتٌ رسميةٌ حديثةٌ للسكّانِ حتّى الآن كحال جُلِّ الإحصاءاتِ الرسميةِ في موريتانيا والتي جعلَت ندرتُها أمرَ كتابةِ هذا التقريرِ معقَّداً. ويشكِّلُ سكّانُ المدينةِ اليومَ حالةً فسيفسائيةً فريدةً: ففيهم السكانُ الأصليّون للمكانِ وهُم الأقلّيةُ، والموريتانيّون من بقيةِ الجهاتِ والمدنِ، وكذلك بعضٌ من أهلِ السودانِ ومالي ودولٍ إفريقيةٍ أُخرى. استقطبَهم جميعاً بريقُ الذهبِ المحاذي للمدينة. ويَشقُّ المدينةَ الطريقُ الرابطُ بين العاصمةِ السياسيةِ نواكشوط والعاصمةِ الاقتصاديةِ نواذيبو، وعلى جنباتِ الطريقِ تنتشرُ المحلّاتُ التجاريةُ متعدِّدةُ البضائعِ في سوقِها المزدهرِ الذي يَحتضِنُ اقتصاداً كاملاً يَعتمِدُ عليه الذهبُ، فتختلفُ أنواعُ البضائعِ من مولّداتِ الكهرباءِ التي يَستخدمُها المنقّبون في عمليةِ التنقيبِ وكذلك أسلاكُ الكهرباءِ وآلاتُ الحَفرِ والفؤوسُ والمطارقُ التي تكسرُ الحجارةَ وخزّاناتُ الماءِ البلاستيكيةُ وخراطيمُ المياهِ ومضخّاتُ الماءِ المستخدمةُ في عملياتِ الحَفرِ والدِّلاءُ التي تجلبُ الحجارةَ التي تُباعُ بحبالِها والأعمدةُ الحديديةُ والبكراتُ التي توضع عند بابِ البئرِ والزيوتُ التي تحتاجُها المولّداتُ والحصرُ والخيامُ التي يحتمي بها المنقِّبون من الشمسِ. هذا مع الموادِّ الغذائيةِ والملابسِ وكلِّ ما يحتاجُه العاملون في القطاعِ في حياتِهم اليومية.
وتنتشرُ في المدينةِ المقاهي والمطاعمُ الشعبيةُ ومطاعمُ الشواءِ، وهي أماكنُ مناسبةٌ لالتقاءِ المنقِّبين وعقدِ الصفقاتِ وتسييرِ الأعمالِ بعيداً عن أتربةِ المناجمِ وصخبِها، وفي المدينةِ أيضاً العديدُ من الشققِ المفروشةِ والصيدلياتِ ومحطاتِ الوقودِ، والأخيرةُ منتشرةٌ ومزدهرةٌ جدّاً لحاجةِ المنقّبين إلى البنزين. وأبرزُ ملامحِ المدينةِ هو سياجُها الكبيرُ المحيطُ بمطاحنِها، حيث يحتلُّ مساحةً كبيرةً وشاسعةً، والعملُ فيه يتواصلُ حتّى ساعاتٍ متأخّرةٍ من الليل.
غادرْنا السوقَ بعد جولتِنا الخفيفةِ ووصلْنا إلى السائقِ الذي سيُقِلُّنا إلى المَجاهِر. رَكبْنا صحبةَ ثلاثةِ منقِّبين، شابّين وسيّدة، وانطلَقْنا في الطريقِ الترابيّ. كان المنقِّبون الثلاثةُ يتحدّثون عن عوالمِ الذهبِ ومشاكلِهم وأحلامِهم. أحدُهم جلسَ بجانبي في المقعدِ المشتركِ، واسمُه "بُلّاَهْ". كلّمَني عن المخاطرِ التي يقتحمُها المغامرون أمثالُه كسقوطِ الآبارِ على العمّالِ، وحَكَى لي عن حادثةِ سقوطِ بئرٍ راحَ ضحيّتَها أحدُ المنقِّبين قبلَ أيّام. وأضافَ أنّ أفضلَ الأماكنِ المسموح بها للتنقيبِ قربَ الشامي هو ما يسمّونَه محلّياً "مجهر المرحوم"، وهو ذاتُه الذي كنّا نقصدُه.
تتكرّرُ الحوادثُ في التنقيبِ دوماً. ومع عدمِ وجودِ إحصائياتٍ رسميةٍ عن العددِ المجملِ لضحايا التنقيبِ عن الذهبِ، إلّا أنّ الكاتبَ الموريتانيَّ محمّد الأمين ولد الفاضل يذكرُ في مقالٍ له يُحدِّثُه دوريّاً في مركز الصحراء للدراسات والاستشارات قائلاً:
"تُوفِّيَ تسعةٌ وسبعون منقِّباً في السنواتِ الخمسِ الأخيرةِ [حتى سنة 2022] … حسبَ هذه الإحصائياتِ والتي هي مجرّدُ جهدٍ شخصيٍّ اعتمدَ على البحثِ في الإنترنت، أي على ما تمَّ نشرُه في المواقعِ من انهياراتٍ في مناطقِ التنقيبِ أدّت إلى وفياتٍ، وهو ما يعني أنّ هذه الأرقامَ ما تزال بحاجةٍ إلى المزيدِ من التدقيقِ، والراجحُ أنها أقلُّ من الرقمِ الفعليِّ لضحايا الانهياراتِ في مناطقِ التنقيب. ثمّ إن هذا الرقمَ لا يشملُ من توفّي في مناطقِ التنقيبِ بسببِ العطشِ أو حوادثِ السَيرِ أو إطلاقِ الرصاصِ في المناطقِ الحدوديةِ، إنه رقمٌ خاصٌّ فقط بمن تُوفِّيَ من المنقِّبين بسببِ انهياراتٍ في أماكنِ الحَفر".
ويموتُ المنقِّبون في الغالبِ جرّاءَ سقوطِ الآبارِ عليهم. وفي السنواتِ الأخيرةِ أصبحَ بعضُهم هدفاً للمسيَّراتِ المغربيةِ حين يتجاوزون الأراضيَ الموريتانيةَ، وتقعُ حوادثُ المسيَّراتِ في بعضِ مناطقِ "الصحراءِ الغربيةِ" التي يَعُدُّها المغربُ جزءاً من ترابِه الوطنيِّ وتُطالِبُ جبهةُ البوليساريو الصحراويةُ باستقلالِها.
قَطَعْنا مسافةَ خمسةٍ وثمانينَ كيلومتراً، كان أقلُّ من ثلثِها مُعبَّداً حتى وَصَلْنا إلى "المرحوم". سُمِّيَ المرحومُ بهذا الاسمِ بعد حادثةِ انهيارِ التربةِ على مُنَقِّبٍ كان يحفرُ هناك وقَضَى نَحْبَه، وبعدَها صار يُقالُ للمكانِ "المرحوم" كنايةً عن موتِ الرَجُل. ولكلِّ مَجهرٍ من مَجاهرِ المنطقةِ تسميتُه الجديدةُ وحكايتُه الخاصّةُ، إذ تنتشرُ التسمياتُ الغريبةُ للمَجاهرِ بين المنقِّبين. فهناك مَجهرٌ يسمَّى "عزرائيل" تعودُ تسميتُه إلى وقوعِ العديدِ من حوادثِ انهيارِ آبارِ التنقيبِ على المنقِّبين. أما التسميةُ الأصليةُ لمنطقةِ ذلك المَجهرِ فهي "التِّماية". وحين هلَّ هلالُ الذهبِ أصبحَت تطلقُ على مثلِ هذه المناطقِ تسمياتٌ جديدةٌ، فأُطلِقَ على مجهرِ التِّماية اسمُ "تَفْرَغ زينة" على اسمِ حيِّ راقٍ في العاصمةِ نواكشوط. ومعنى الاسمِ باللهجةِ الحسّانيةِ، لهجةِ جُلِّ أهلِ موريتانيا، هو "تنتهي وهي جميلة" أي المنطقةُ زاخرةٌ بالذهب.
في الطريقِ مَرَرْنا بسياجِ شركةِ "كينروس تازيازت"، أكبرِ الشركاتِ العاملةِ في التنقيبِ عن الذهبِ في موريتانيا، وهي شركةٌ كنديةٌ تابعةٌ لشركةِ كينروس، تملكُ حقَّ استخراجِ الذهبِ من أحدِ أكبرِ مناجمِ القارّةِ الإفريقيةِ الواقعِ في منطقةِ تازيازت في ولايةِ إنشيري شمالَ البلادِ وتتجاوزُ احتياطاتُه مئتين وعشرين طنّاً. وقد بدأَ العملُ في المنجمِ سنةَ 2007 عندما حصلَت الشركةُ الكنديةُ على رخصةِ الاستغلالِ من الحكومةِ الموريتانيةِ. وفي سنة 2020 بلغَ إنتاجُ المنجمِ أحد عشر طناً ونصف طنٍّ من الذهبِ. أمّا سنة 2023 فقد بلغَ إنتاجُها 17.59 طنٍّ من الذهب. وهناك شركةٌ كنديةٌ أُخرى عاملةٌ في مجالِ التعدينِ، وهي الشركةُ الموريتانيةُ للنحاسِ، لكنّها كما يَشِي اسمُها تستخرجُ النحاس. أمّا الحديدُ فتَستخرجُه الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (المعروفةُ اختصاراً بِاسمِ سنيم)، وهي شركةٌ موريتانيةٌ تعملُ في مجالِ البحثِ عن خامِ الحديدِ واستغلالِه ومعالجتِه ونقلِه وتصديرِه. وتقعُ منطقةُ عملياتِها المعدنيةِ قربَ مدينةِ الزويرات بولايةِ تيرس زمور شمالَ موريتانيا. وتصلُ إيراداتُها إلى 1.37 مليار دولار. وتُسهِمُ في إيراداتِ ميزانيةِ الدولةِ الموريتانيةِ بنسبةِ 14 بالمئةِ بحسبِ آخِرِ البياناتِ التي نَشَرَتها الشركةُ لسنةِ 2023، وتُسهِمُ في الناتجِ المحلّيِ الإجماليِ بنسبةِ 9 بالمئةِ وفي صادراتِ البلادِ بنسبةِ 37 بالمئة. وقد تصدّرَ الذهبُ عائداتِ موريتانيا من العملاتِ الصعبةِ لعامِ 2022 للمرّةِ الثالثةِ على التوالي، فائقاً بذلك صادراتِ الحديدِ والسمكِ التي ظلّت مسيطرةً على التصديرِ عقوداً من الزمنِ. وبحسبِ ما جاء في تقريرٍ عن الوكالة الوطنية للإحصاء والتحليل الديموغرافي والاقتصادي، فإن نسبةَ صادراتِ الذهبِ في الفصلِ الأوّلِ من سنة 2024 بلغَت أكثرَ من 30 بالمئةِ من مجموعِ الصادرات.
وَصَلْنا مَجهرَ المرحومِ وبدأتُ أتلمّسُ ملامحَ التنقيبِ السطحيِّ عن الذهبِ، إذْ آنستُ الآبارَ وتعدُّدَها والكتلَ الحجريةَ المتشكّلةَ والمستخرَجةَ من الآبارِ بطرقِ المنقِّبين التقليدية. يحفرُ المنقِّبون الآبارَ بعمقٍ شديدٍ وينزلُ داخلَها العمّالُ ويَجمعون الأحجارَ في أكياسٍ أو ما يشبهُ الدِلاءَ، بينما ينتظرُهم عمّالٌ آخرون عند فمِ البئرِ فيَمتَحون الدلوَ أو الكيسَ بحبلٍ معقودٍ إلى بكرةٍ مثبَّتةٍ بالبئر. لَفَتَ انتباهي المشهدُ المتكرّرُ لاستعمالِ الأدواتِ البدائيةِ والجهدِ الشاقِّ الذي يبذلُه العمّالُ رغبةً في أن يَجلِبوا ما يُسعِدُهم من المعدنِ الثمينِ. ولَفَتَني منظرُ خيامِهم المنصوبةِ التي تَقيهم الحَرَّ ويسكنونَها ويستريحون فيها من العناء. وكذلك الأكياسُ المترَعةُ بالحجارةِ المعَدّةُ للطحنِ في مطاحنِ مدينةِ الشامي. كان ذلك المشهدُ عجيباً، فالخيامُ والأكياسُ والدِلاءُ والمشهدُ بأكملِه لا يوحي بأنك تسيرُ فوق أرضٍ من ذهب. كان التناقضُ بين المخيّمِ وما يَسعَون إليه واضحاً وجليّاً.
يرى صغارُ المنقِّبين ممّن تحدّثتُ معهم أنّ الفائدةَ الكبرى من التنقيبِ تعودُ على المستثمرين ورؤوسِ الأموال فهؤلاءِ يصمدون أكثرَ أمامَ تحدّياتِ المجالِ، ويديرون العملِ بتوفيرِ اليدِ العاملةِ وإعاشتِها وتجهيزِ الموقعِ بالمعدّات والآليّاتِ اللازمةِ للحَفرِ، يليهم في ذلك الشركاتُ التي توفِّرُ الخِدماتِ الإسناديةَ مثل بيعِ الآليّات. ويأتي موريتانيون كثرٌ إلى مناطقِ التنقيبِ ظانّين بأنّهم سيجدون الذهبَ بيُسرٍ، ولا يأخذون في الحسبانِ أنّ الحصولَ على النتائجِ يتطلّبُ بذلَ الوقتِ والمالِ والجهدِ، فالمواصلةُ في العملِ تعني الخسائرَ الكبيرةَ لمن لا مالَ كافٍ معه. وبهذا تكونُ المقولةُ "لتَجنِيَ المالَ وجبَ أن يكونَ عندك مالٌ" صحيحةً في أغلبِ الحالات. ويتداولُ المنقِّبون في المكانِ قصصاً كثيرةً عن الخيبةِ والعودةِ بخُفَّي حنينٍ من عالَمِ الذهبِ، بعد صرفِ أموالٍ كثيرةٍ بعضُها ببيعِ المنازلِ أو الاستِلاف.
حَكَت لي المنقِّبةُ الكَيْتْ سيد أعمر في حديثٍ معها إحدى قصصِ الخيبةِ بطلُها شابٌّ اسمُه إبراهيم. وَلَجَ الشابُّ عالَمَ الذهبِ قبل سنوات، وفي أوّلِ يومِ عملٍ له في التنقيبِ حصلَ على عشر غراماتٍ من الذهبِ ثم انقلبَ حالُه ولم يحصلْ على شيءٍ نهائياً، فرافقَه الحظُّ العاثر. رَجَعَ إبراهيمُ إلى نواكشوط بنِيَّةِ تمويلِ مشروعٍ جديدٍ لاستخراجِ الذهبِ، فباعَ سيارتَه وأراضٍ يملكُها وأمضى زمناً وهو يحفرُ ولَم يَستخرِجْ غراماً واحداً من الكنزِ فأُحبِطَ بعد زمنٍ من الكدحِ، وكانت نهايةُ قصّتِه أنه هاجرَ إلى أمريكا هجرةً غيرِ نظاميّة متسوّراً الجدارَ الفاصلَ بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، وهي طريقةٌ للهجرةِ راجَت بين الموريتانيين في السنواتِ الأخيرة.
يتعاملُ المستثمِرون والعُمّالُ بطريقتَيْن يدمجونَهما أحياناً. الطريقةُ الأُولى هي أن يكونَ للمستثمِرِ بئرٌ يتأكّدُ العمّالُ أن فيها نسبةً معتبَرةً من الذهب، فيأتون إلى المستثمِرِ ويتّفقُ معهم على نسبةٍ معيّنةٍ، وعلى حسبِ الاتّفاقِ يعملون له مقابلَ 25 بالمئةِ أو 40 أو حتى 50 بالمئةِ من الأرباح. وأحياناً يتّفقُ العمّالُ مع المُستثمِرِ على أنهم يقومون على مؤونةِ أنفسِهم. وأحياناً أُخرى يتّفقون على أن المستثمرَ يقومُ على مؤونتِهم فيشتري لهم خِيَمَ الإعاشةِ وما يتطلّبُه المقامُ من أكلٍ وشرب. أمّا آلاتُ الحَفرِ فتكونُ للمالكِ المستثمِرِ ويقتصرُ دَورُ العمّالِ على استخراجِ الحجارةِ من البئرِ ونقلِها إلى المطاحن. وبعدما يُستخرجُ الذهبُ ويُباعُ يعطيهم المستثمرُ حصّتَهم بعد خلاصِ التكاليفِ المشتركةِ مثل نقلِ الحجارةِ من البئرِ إلى الشامي وتكاليفِ الطحنِ والتصفيةِ ودفعِ الضريبةِ التي تصلُ إلى 8 بالمئةِ لشركةِ معادن موريتانيا، الشركةِ الحكوميةِ المشرفةِ على قطاعِ المعادن. وهكذا يشتغلُ العمّالُ على البئرِ حتى ينتهي غرضُهم منها أو ينتهي غرضُ المالكِ منهم.
أمّا الطريقةُ الأُخرى فتنطوي على مغامرة. ففيها لا يَعلمُ العمّالُ إن كانت البئرُ التي أمامَهم تحوي نسبةً جيدةً من الذهبِ أمْ لا، لكنّهم يغامِرون بالاتّفاقِ مع مالكِها على دفعِ مبلغٍ مسبقٍ يتراوحُ بين ثلاثين ألفاً وأربعين ألفَ أوقيةٍ لكلِّ مِترَيْن يحفرونَهما. وأحياناً يكونُ الاتفاقُ على المِترَيْن وعلى النسبةِ، فمثلاً يحفرون حتى يحصلَ لهم المبلغُ المتّفقُ عليه ومِن ثمَّ يبدأُ الحسابُ بالنسبة.
وقد يتعدّدُ مُلّاكُ البئر. فيمكنُ أن تعودَ الأرضُ لشخصٍ ويكونَ المقاولُ شخصاً آخَرَ والعمّالُ مجموعةً أُخرى مشارِكةً في البئرِ، فيحقّ لصاحبِ الأرضِ 30 بالمئةِ من الأرباح. ولِلمقاولِ الذي يتحمّلُ التكاليفَ نسبةٌ أكبرُ، وهو من يتعاملُ مباشرةً مع العمّالِ كيفما اتّفَقوا، ولكن قد يكونُ العمّالُ أنفسُهم هم أصحابُ القطعةِ الأرضيةِ وهُم من اكتشَفَها والبئرُ لهم وهُم من يعملُ فيها.
ومهما تعدّدَت طرائقُ التعاملِ مع البئرِ، إلّا أنّ العمّالَ في العادةِ أقلُّ الرابحين وأكبرُ الخاسرين. وليس ذلك من الناحيةِ المادّيةِ فحسبُ، فهُم يتحمّلون مشاقَّ العملِ ومخاطرَه ويعرّضون أنفسَهم إلى مخاطرَ صحيّةٍ جمّةٍ أهمُّها أمراضُ الصدر. ففي مقابلةٍ أجريتُها مع الدكتور عبد الله الجيلاني، وهو طبيبٌ موريتانيٌّ وأخصائيُ أمراضِ الصدرِ والجهازِ التنفسيِّ في مستشفى فيرساي بفرنسا، قال لي: "المنقِّبون يحفرون، وذلك الحَفرُ يتسبّبُ بالغبارِ المحمَّلِ بمادّةِ السيليكا، وهي من عناصرِ التربةِ، ودائماً يتعرّضُ لها المنقِّبون، لا سيّما إن لَم تكُن عندهم حمايةٌ، وتوجدُ السيليكا البلوريةُ بشكلٍ شائعٍ في غبارِ المناجمِ، ويُسفِرُ استنشاقُها عن أضرارَ جسيمةٍ على الجهازِ التنفسيِّ مثل تكيّسِ الرئتَيْن وانخفاضٍ تدريجيٍّ في قدرةِ الجهازِ التنفسيِّ ممّا قد يؤدّي إلى فشلٍ رئويّ". ويشيرُ الدكتورُ عبد الله إلى أنّ التعرّضَ للزئبقِ المستخدمِ بكثرةٍ في عملياتِ تصفيةِ الذهبِ مُضِرٌّ بالصحّةِ، إذْ يمكنُ لجرعاتٍ منخفضةٍ منه أن تسبّبَ آلامَ الصدرِ وضيقَ التنفّسِ والسعالَ ونفثَ الدمِ وضعفاً في وظائفِ الرِئةِ. أمّا التعرّضُ لجرعاتٍ عاليةٍ منه يمكنُ أن يكونَ مميتاً أو مسبّباً لضررٍ دائمٍ بالجهازِ العصبيِّ المركزيّ. وأضافَ الدكتورُ عبد الله أن "المنقِّبين يتعرّضون كذلك للعديدِ من الكسورِ الناجمةِ عن غيابِ وسائلِ الحمايةِ، فالمهمّاتُ الثقيلةُ والوضعياتُ غيرُ المريحةِ تسبّبُ اضطراباتٍ في العظامِ والمفاصل".
وفي حديثٍ لبرنامجِ "رأي الخبير" الذي تبثُّه وكالةُ الأخبارِ الموريتانيةُ المستقلّةُ، قال الدكتورُ محمد باب سعيد إنه: "لا يمكنُ تحريرُ أيِّ منطقةٍ استوطنَها الزئبق"، مشيراً إلى أنّ خطرَ الزئبقِ في موريتانيا بلغَ مرحلةَ الانتشارِ العشوائيِّ، مؤكّداً أنه اطّلعَ على نتائج فحوصٍ تُظهِرُ تراكمَه على قصاصاتِ الشَعرِ في محلّاتِ حلاقة. وقد وَضّحَ أنّ التداعياتِ المؤلمةَ قد تَظهرُ في آجالٍ متعدّدة، "وقد تؤثّرُ على الهواءِ والغذاء". وبرأيِه، فعملياتُ معالجةِ الذهبِ خطرةً على البيئةِ، وقد قال عن ذلك: "دون شكٍّ فإنّ حظيرةَ حوضِ آرجين القريبةَ من الشامي أصبحَت في مرمى نيرانِ الخطر".
يتعرّضُ المنقِّبون فعلا ًللأتربةِ مع أنهم يضعون قفازاتٍ وأقنعةً، لكنها غيرُ كافيةٍ للحماية. كذلك يَحفرُ المنقِّبون عميقاً حتى يَستخرِجوا الحجارة. ناهيكَ عن الطبيعةِ الصحراويةِ القاسيةِ للمكانِ والتي تصيبُهم بالأمراضِ، فخِيامُهم هزيلةٌ ولا تَقيهم حَرَّ الصيفِ ولا بردَ الشتاء. وفي حديثٍ سابقٍ مع البَكاي، أَخبرَني أن السببَ الأبرزَ لتَركِه مجالَ التنقيبِ هو المرض. فقد تَرَكَ البَكاي التنقيبَ بعد إصابتِه بآلامٍ حادّةٍ في أُذنِه اليُسرى سبّبَت له الشقيقةَ ممّا أضعفَ حاسّةَ سمعِه كثيراً. وقد حَتّمَ الأمرُ عليه علاجَ سمعِه أشهُراً عدّةً حتى استعادَ عافيتَه. وقال لي البكاي: "الأرضُ قاسيةٌ جدّاً. شديدةُ الحَرِّ صيفاً وشديدةُ البردِ شتاءً، وتسبّبُ أمراضاً عديدةً".
رفيقي البَكاي خريجُ كلّيةِ الحقوقِ ومجازٌ في القرآنِ الكريمِ أيضاً ويُدَرِّسُه حاليّاً. وكانت بدايةُ حكايتِه مع الذهبِ في سنة 2016، حين بدأَت موجةُ الذهبِ الأُولى. وكانت الحكومةُ تَحظرُ البحثَ عنه دونَ إذنٍ من وزارةِ النفط والمعادن. وكان للرخصةِ شروطٌ منها أن تُعطَى لخمسةِ أشخاصٍ يَدفعون عنها ضريبةَ مئة وخمسين ألف أوقية، عِلماً بأنّ الدولارَ يعادلُ حوالي 36,4 أوقية. وتشترطُ الرخصةُ التنقيبَ في نقاطٍ محدّدةٍ ومعدودة. يَستذكِرُ البَكاي أيّامَ التنقيبِ الأُولى ويقولُ إنّه حصلَ على رخصةٍ للتنقيبِ بعد جهدٍ جهيدٍ، فقال لي: "كان دونَها خرطُ القَتادِ بسببِ مماطلةِ الإدارةِ، وقد حَصَلْنا عليها بعد طولِ مماطلةٍ، لكنّ هذه الفترةَ مقتصرةٌ على التنقيبِ بالأجهزةِ الكاشفةِ عن المعادنِ … كانت الدولةُ تأخذُ ضريبةً على كلِّ جهازٍ مقدارُها 750 ألف أوقية. فكانت هذه الإجراءاتُ صعبةً للغايةِ، وخاصّةً أنّ الأمرَ جديدٌ على المجتمعِ ولا تُعرَفُ حقيقتُه، فكانت هذه الإجراءاتُ تقفُ حَجَرَ عثرةٍ للحالمين بتغييرِ واقعِهم البائسِ، وكان الوضعُ السياسيُّ للبلدِ قاتماً".
في تلك الأثناءِ شَكَّكَ بعضُهم في قصّةِ الذهبِ قائلين إنّه مجرّدُ محاولةٍ لتغييبِ الناسِ في أدغالِ الصحاري وراءَ سرابٍ بقِيعةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً. بل ذهبوا إلى أبعدَ من ذلك فزَعموا أنّ الرئيسَ السابقَ محمد ولد عبد العزيز وجماعتَه تواطَؤوا مع شركاتِ التنقيبِ لنثرِ بعضِ أحجارِ الذهب. وشاعَ حينَها في الشارعِ أنّ قصّةَ الذهبِ خُلِقَت لصرفِ الناسِ عن المدينةِ وخاصّةً الشبابُ العاطلون عن العملِ وحملةُ الشهاداتِ. وممّا أَسهَمَ في إثارةِ هذا التشكيكِ أنّ الحكومةَ كانت على عتبةِ استفتاءٍ عامٍّ على تعديلاتٍ دستوريةٍ، كان أهمُّها تغييرَ النشيدِ الوطنيِّ وتحديثَ عَلَمِ البلادِ واستحداثَ نظامِ المجالسِ الجهويةِ. وحسب كلامِ البكاي أدّى ذلك إلى "انقسامِ الناسِ بين مصدِّقٍ ومكذِّبٍ وغيرِه". ومن جانبٍ آخَرَ يَرى بعضُ المطّلِعين على فكرةِ وجودِ الذهبِ السطحيِّ في تلك المناطقِ موضوعيةَ فكرةِ الإلهاءِ التي تقومُ بها السلطاتُ، بدليلِ أنّ الدولةَ تحظرُ التنقيبَ في مناطقَ طالَبَ الكثيرون بفتحِها بلا إجراءاتٍ مقيّدةٍ ومنها مناطقُ أقربُ إلى العاصمةِ من الشّامي، كمقرِّ شركةِ كينروس تازيازت، و"أَجْلَيب الدواس" الذي يقعُ في الشمالِ الشرقيِّ لموقعِ الشركةِ بحوالي أربعةَ عشرَ كيلاً. وفي تلك الأثناءِ أَعطَى محمد ولد عبد العزيز الإذنَ بفتحِ مجالِ التنقيبِ أمامَ المواطنين في تلك المنطقةِ بالذات.
كان البَكاي من الأوائلِ الذين دخلوا في فجرِ اليومِ المُوالي لإعلانِ السماحِ بالتنقيبِ في تلك المناطقِ، وانكَبَّ معه الموريتانيون من كلِّ حدبٍ وصوبٍ هناك يفتِّشون عن الذهب. التَقَى البَكاي وقتَها بعضَ الشبابِ الذين كانوا يعملون في الإماراتِ العربيةِ المتحدّةِ، وبعضَ الوافدين من إفريقيا من أنغولا والكونغو الديمقراطية، جاؤوا جميعاً لمّا سَمِعوا أنّ موريتانيا سَمَحَت بالتنقيبِ الأهليِّ وأعطَت الدولةُ الإذنَ بالتنقيبِ عنه لمن يريد. وحينَها شاعَ أنّ العديد عَثَروا على الذهبِ باستخدامِ جهازِ كاشفِ الذهبِ السطحيّ. ويُذكَرُ أنّ التنقيبَ بدأَ سطحيّاً ومِن ثمَّ وَلَجَ المنقِّبون إلى الأعماق. واجهَت البَكاي ورفاقَه المغامرين الأوائلَ صعوباتٌ عديدةٌ وشديدة. فقد كانت المياهُ الصالحةُ للشربِ غاليةً بسببِ نقلِها من مكانٍ قَصِيّ. قال لي البَكاي: "على ما أذكرُ، كان سعرُ برميلِ ماءٍ بمئتَي لترٍ يتراوحُ بين خمسة عشر إلى عشرة آلافِ أوقيةٍ، وكان عشرون لتراً يُباعُ بخمسةِ آلاف أوقيةٍ، مع أنّ هذه الحالةَ عُولِجَت في مدّةٍ وجيزة. وبعد ذلك أَخَذَ سعرُ الماءِ بالارتفاعِ حسبَ ندرتِه والانخفاضِ قليلاً حسبَ توفّرِه". ومع تطوّرِ التنقيبِ عن الذهبِ زادَت حدّةُ المخاطرِ المحيطةِ بالمنقِّبين بَلْهَ التكاليفِ. فقد انتقلَ المنقِّبون من مرحلةِ "التسطيح" أو البحث عن الذهب على سطحِ الأرضِ، إلى التنقيبِ تحت السطحِ قليلاً ثمّ إلى التنقيبِ عنه في الأعماقِ داخلَ الأحجارِ. بذلك زادَ الأمرُ صعوبةً وارتفعَت التكاليفُ على المواطنين من غيرِ أصحابِ رؤوسِ الأموالِ، فقد كان أغلبُهم يتكلّفون شراءَ جهازٍ للتنقيبِ ومؤونةً تكفي شهراً أو نِصفَه حسبَ البرمجةِ، عدا عن تكاليفِ السيارةِ والخيمةِ التي تَقِيهم الحَرّ. ثمّ ما لبثَ أن سارعَ بعضُهم في نقلِ التجارةِ بين تجمّعاتِ المنقِّبين التي يتنقّلُ أصحابُها بين الفَينةِ والأُخرى بسببِ التهويلِ الذي يَسرِي في الأوساطِ بالشائعاتِ المتكرّرةِ عن وجودِ الذهبِ في أماكنَ معيّنةٍ أكثرَ من غيرِها، وهذا ما يخالفُ الواقعَ غالباً، ومَبنى ذلك أن يجدَ شخصٌ نسبةً لا بأسَ بها من الذهبِ فيَبني غيرُه على ذلك ممّا أحدثَ نوعاً من العشوائيةِ في الترحالِ الكثيرِ وعدمِ الاستقرارِ في مكانٍ واحدٍ للتنقيب.
ومع تطوّرِ التنقيبِ من مستوى السطحِ إلى التعمّقِ في الحَفرِ البدائيِّ على شكلِ آبارٍ، اشتدَّت الخطورة. فقد نجمَ عن ذلك انهيارُ الكثيرِ من الآبارِ على منقِّبيها فماتوا تحت الأنقاضِ لأنّ الحَفرَ متقاربٌ، ولَم تكُن هناك وسائلُ حمايةٍ كافية. عدا عن ضعفِ ثقافةِ الحمايةِ الشخصيةِ عند المنقِّبين. ويبدو أمرُ انهيارِ الآبارِ متكرّراً، وهذا ما تكشفُ عنه تقاريرُ الصحفِ المحليةِ، مثل صحيفةِ الموريتانيّ التي نشرَت خبراً عن انهيارِ بئرٍ على رؤوسِ اثنَيْ عَشَرَ منقِّباً في يناير 2021. وتنقلُ وكالةُ "الأخبار" الموريتانيةُ المستقلةُ وقوعَ حادثٍ مشابهٍ في مارس 2021. ويمكنُ البحثُ في موقعِ وكالةِ الأخبارِ لكشف العددِ الهائلِ لحوادثِ الانهيارِ منذ 2016 وحتى اليوم. تتكرّرُ هذه الحالاتُ لأنّ الحَفرَ متقاربٌ جدّاً فقد يسبّبُ تآكلاً في أعمدةِ الآبارِ ما يعرّضُها دائماً للانهيار. ولا تُطبَّقُ قوانينُ الحمايةِ والمحافظةِ على سلامةِ العمّالِ تحت الأرضِ، فلا وجودَ لرقابةٍ فعليةٍ على العمّالِ في أيِّ مرحلةٍ من مراحلِ التنقيب. ولَم توفِّر الحكومةُ آليّاتٍ للإنقاذِ، فلَم يكُن المنقِّبون يَستنجِدون إلّا بشركةِ التنقيبِ كينروس تازيازت، ولَم تكُن مساعَداتُها تَصِلُ إلّا بعد فواتِ الأَوانِ، وهذا كان قَبلَ تأسيسِ شركةِ معادنِ موريتانيا.
صعوبةُ الأرضِ واضطراباتُها المناخيةُ وكثرةُ الرياحِ والغبارِ تُصعِّبُ عملَ المنقِّبين. فعادةً تؤدّي الرياحُ إلى تَلَفِ خيامِهم وطعامِهم ورَدْمِ الحفر. يقولُ البَكاي: "وهذا ما يسبّبُ تأخّراً في العملِ، فقد كان يأخذُ منّا يوماً ويومَين في إزالتِه، وفي بعضِ الأحيانِ كُنّا نتوقّفُ عن العملِ بسببِ هذه الرياحِ، وكذلك فترةَ الخريفِ أيضاً. فبعد المطرِ مثلاً لا يمكنُ العملُ داخلَ الحفرياتِ لأنها قد تنهارُ على رؤوسِ مَن فيها. وكما أنّ دخولَ المياهِ فيها له التأثيرُ نفسُه فلا بدّ من تفريغِها والانتظارِ حتى تَيْبسَ من أجلِ سلامةِ الأنفُسِ من الهدمِ ومن تماسِّ الأسلاكِ الكهربائيةِ بسببِ الماءِ والرطوبةِ. فالعملُ بدائيٌّ وآليّاتُه محدودةٌ، ولا تتوفّرُ على شروطِ السلامة". وأمامَ كلِّ هذه المَخاطرِ، وبعد تدهورِ صحّتِه، تَرَكَ البكاي التنقيبَ عن الذهب.
عندما وَصَلْنا إلى المَنجمِ، تجوّلتُ مع البَكاي والمنقِّبِ بُلّاه الطامحِ إلى الثراء. أمّا بقيّةُ رفاقِ الرحلةِ فقد ساروا في دروبِهم المختلفة. أصبحَ بُلّاه مرشدي داخلَ المَنجمِ وسَهَّلَ عليَّ التعرّفَ على المنقِّبين وقَبولِهم التصويرَ، فهُم يَنزعون إلى الهروبِ من آلاتِ التصوير.
تتعدّدُ شخوصُ عالَمِ التنقيبِ وقصصُهم ودوافعُهم، فلِكلِّ واحدٍ منهم حكايتُه الخاصّة. ومِن أبطالِ حكايةِ الذهبِ السيّدةُ "امْيايَة بِنْت الدَّاهْ". جاءَت امْيايَة من بلدةِ افْصالةَ الريفيةِ بالقربِ من مدينةِ بُوسْطيلَة شرقَ البلادِ إلى العاصمةِ نواكشوط إثرَ زواجِها بحاكمٍ سابقٍ لمقاطعةِ بوتِلْمِيت شرقَ العاصمةِ. وقد قَضَى معها زوجُها اثنَيْ عَشَرَ عاماً جُلُّها في نواكشوط وفي مدينة بوتلميت. وبعد وفاةِ زوجِها تاجرَت في الذهبِ بين موريتانيا والسعوديةِ، فكانت تَستورِدُ الذهبَ والفضّةَ وتبيعُها في محلٍّ تجاريٍّ لها. وسَبَقَ أن ترشّحَت لبلديةِ افْصَالة، مسقطِ رأسِها. جاءَت السيدةُ امْيايَة إلى الشّامي بحثاً عن الذهب. حَكَت ليَ السيّدةُ قصّةَ الصدفةِ التي قادَتها للتنقيبِ بزهوٍ وفخرٍ بنفسِها. وقد حدّثَتني عن تلك البدايةِ قائلةً: "بدأَت قصّتي مع الذهبِ في رمضان 2020، حين قَدِمَ إليْ قريبٌ لوالدتي وله مَعزّةٌ خاصّةٌ جدّاً عندي وعند الأهلِ كلِّهم، وكان قد تغرّبَ صغيراً في ليبيا وتزوّجَ وأصبحَ له عيالٌ هناك. ولكنّ تجربةَ غربتِه لم تنجحْ ولم يحقِّق العيشَ الكريمَ الذي كان يَرنو إليه".
رَجَعَ قريبُ امياية إلى موريتانيا وقد سَمِعَ عن الذهبِ والأساطيرِ التي تُحاكُ عن ثراءِ أصحابِه، وأخبَرَها بأنّه يمرُّ بضائقةٍ ماليةٍ ويحتاجُ إلى مبلغٍ كبيرٍ يسدّدُ به ديونَه وليوفِّرَ الباقيَ للعملِ في التنقيبِ عن الذهب. تقول امياية: " وطلبَ أن أذهبَ معه ليحصلَ على آبارٍ، أو أرسلَه إلى شخصٍ يمنحُه آباراً للتنقيبِ. ووقتَها لم يكن تنقيبُه مشرَّعاً لكلِّ المواطنين، وكان التصريحُ يَهَبُه الحرسُ الوطنيُ بالعلاقات". وظنَّت السيّدةُ أنها ستحتاجُ إلى إجراءِ بعضِ الاتصالاتِ بمعارفِها فاتّصلَت ببعضِهم. وبعد عدّةِ اتصالاتٍ حصلَت على ترخيصِ خروجٍ لها وللشابِّ ولعاملٍ معها، إذ كانت البلادُ تعيشُ حالةَ إغلاقٍ عامٍّ بسببِ جائحةِ كورونا. وقد وَصَلَت في البدايةِ إلى مَجهرِ "محمد سالم" لغرضِ الاستطلاعِ فحسب. وكانت كلّما شاهدَت خندقاً أو ردماً تقفُ عندَه وتتأمّلُه، ويخبرُها قريبُها الشابُّ "هنا يقولون فيه ذهب". تُواصِلُ امياية الحديثَ قائلةً: "في الرابعةِ صباحاً، نادَت الصافراتُ التحذيريةُ بالناسِ للخروجِ، فقد كان المنقِّبون يعملون في الليلِ ويغادرون المكانَ في الصباحِ، لأن المكانَ غيرُ مرخَّص. وأمضيتُ ثلاثةَ أيّامٍ بين الشامي والمجهرِ، وقد كانت مدّةُ تصريحِ خروجي أسبوعاً واحداً فقط". وبعد عدّةِ اتّصالاتٍ أُخرى، وجدَت امياية شخصاً وَهَبَها ثمانيةَ أمتارٍ في مَجهرِ محمد سالم دونَ أن تدفعَ فلساً، وعشرةَ أمتارٍ في مكانٍ اسمُه تيرن. واشتَرَت وجماعتُها المعدّاتِ اللازمةَ للتنقيب، وتَرَكَت قريبَها في المجهرِ وذهبَت إلى نواذيبو. وقد اتّصَلَ بها الشابُّ بعد أيّامٍ ليخبرَها أن المكانَ خالٍ من الذهبِ، إذْ كان مستعجِلاً على الحصادِ حتى أنه كان يَحفرُ بيدَيْه.
عادَت اميايةُ إلى المجهرِ مرّةً أُخرى لكنّها كانت محرَجةً من وجودِها في أماكنِ التنقيبِ عن الذهبِ، فقد كانت ترى الأمرَ غيرَ لائقٍ بالنساء. وقد ضحكَت وهي تخبرُني بذلك قائلةً: "كنتُ أستخدمُ اسماً مستعاراً هو فاطمة فال، لأنه من العيبِ بالنسبةِ ليَ الوجودُ في عالَمِ التنقيبِ عن الذهب". لَم تكُن اميايةُ المنقِّبةَ الوحيدةَ. ومع عدمِ وجودِ إحصائياتٍ حكوميةٍ لعددِهنّ، إلّا أنّ المنقِّبةَ الكَيْتْ سيد أعمر أكّدَت لي أنّها تُقدِّرُ عددَ النساءِ المُنقِّباتِ في الشّامي بمئةٍ تقريباً. وهناك نساءٌ أُخرَياتٌ لَسْنَ بمُنَقِّباتٍ، لكنّهن يأتِين إلى أصحابِ الآبارِ ويَطلُبْنَ منهم بعضَ الرملِ والحجارةِ التي يُخرِجونها عَلَّهُنّ يُصادِفْنَ ذهباً فيها. والفئةُ الثانيةُ بعضُهنّ موريتانيات و أغلبُهنّ غير موريتانيات. أمّا امياية فقد كانت تغادرُ المكانَ كلّما جاءَت إليه للاطمئنانِ على قريبِها. فسافرَت إلى نواكشوط، ولكنّ الشابَّ اتصَلَ بها متأثراً حزيناً وقد أخبرَها بأنّها ذَهَبَتْ وتَرَكَته، فقالت له: "أنا قادمةٌ إليك وسأمكثُ هناك. سأصبحُ منقِّبةً حتى تجدَ ما تريد". وعندها فقط قرّرَت أن تنسجمَ مع الوضع. وبعد القرارِ اتصلَت بشخصٍ سبقَ أن استدانَت منه مليونَيْ أوقيةٍ فأعطاها ثمانمئة ألف. وبدأَت تعملُ في التنقيبِ، فأجّرَت بيتاً في الشّامي بعد أن كانت تَبيتُ في مكانِ التنقيبِ في مَجهرِ محمد سالم أو مَجهرِ السّاكنةِ. وقد كانت المناطقُ الأُخرى مغلقةً بسببِ بعضِ المشاكلِ بين المنقِّبين.
تَحدثُ القلاقلُ والمشاكلُ بين المنقِّبين عادةً بسببِ الصراعِ على الأرض. يَتّهمُ المنقِّبون بعضُهم بعضاً بالسطوِ على الأرضِ أو تجاوزِ الحَفرِ في باطنِ الأرضِ حتى الوصولِ إلى بئرٍ لمنقِّبٍ آخَرَ لأَخذِ ذهبِه أو بالأحرى "ذَهَبِه المحتمَل". وهناك ظاهرةٌ يسمّونَها "التْكوليب" وهو مصطلحٌ شعبيٌّ عند أهلِ التنقيبِ وله دلالاتٌ مختلفةٌ منها أخذُ شيءٍ بوجهٍ غيرِ مشروعٍ. وهذا هو أصلُه في بدايةِ الأمرِ، إذ كان بعضُ العمّالِ يَدخُلون إلى آبارِ التنقيبِ ليَأخُذوا منها شيئاً خلسةً في غفلةٍ من أهلِها، أو يتجرَّؤون على المغامرةِ في أماكنَ لم تُخوِّل لهم الدولةُ التنقيبَ بها، فيَتسلّلُ إليها بعضُ المنقِّبين في أوقاتٍ معيَّنةٍ كالليل. ومن ثمّ تطوّرَ الأمرُ وأصبحَ مصطلحاً يُستخدَمُ في أمورٍ أُخرى، كالدخولِ في أماكنَ غيرِ آمنةٍ، كأن يَدخُلَ أحدُهم في بئرٍ آيلةٍ للسقوطِ أو يعطيَ الإذنَ لغيرِه بالأخذِ من أعمدةِ البئرِ القائمِ عليها بعضَ الأحجارِ. وفي الأخيرِ ظلَّ المصطلحُ يدورُ في المعنى نفسِه، كلُّ ما هو غيرُ مأذونٍ فيه لضررِه أو لاحتماليةِ الضررِ فيه.
حدّثَتني المنقِّبةُ الكَيْتْ سيد أعمر عن بعضِ تفاصيلِ الاحتكاكاتِ التي تَحدثُ بين المنقِّبين قائلةً: "بالنسبةِ لِما يحدثُ على أرضِ الواقعِ من احتكاكاتٍ، فهي مداخلاتٌ بسيطةٌ تحدثُ حين يَتجاوزُ العمّالُ أحياناً وهُم تحت الأرضِ في الأنفاقِ أرضَ غيرِهم. ويَتفطّنُ العمّالُ في الأماكنِ المجاورةِ إلى أنّ شخصاً ما دَخَلَ إلى حيّزِهم فيَخرُجون إلى السطحِ ويُعلِمون المقاولَ بما حَدَثَ. وأحياناً تُحَلُّ المشاكلُ بين أصحابِ الأراضي والمنقِّبين أو تتصاعدُ حتى تحلَّها شركةُ معادنِ موريتانيا".
بدأَت اميايةُ وفريقُها الحَفرَ من جديد. وأصابَهم الإحباطُ بعد أن وصلوا ثمانيةَ أقدامٍ ولَم يجدوا أيَّ شيء. وكان قد مضى شهران على خطوتِهم الأُولى نحوَ الذهب. وفي أيامِ العيدِ فُتِحَت منطقةُ "تفرغ زينة"، ولكنّ فريقَ اميايةَ لم يَجِدْ فيها مكاناً، إذْ سرعانَ ما اكتظّت بالمنقِّبين. وعندَها قصدَت اميايةُ رجلاً اسمُه الحسين ولد التّْلاميد يُطلِقُ عليه المنقِّبون لقبَ "عمدة أكْرافيَ". وتلك التسميةُ أَتَته من المَجهرِ أو المَنجمِ الذي ينقِّبُ فيه وهو "مجهر أكْرافيَ". وسألَته أن يوفّرَ لها آباراً في أماكنِ الذهبِ، لكنّه ردَّها بالتسويفِ، فعرفَت بأنّ عليها أن تشقَّ طريقَها لوحدِها. ودخلَت في معاركَ مع منقِّبين آخَرين حتى تنتزعَ لنفسِها أرضاً في المكان. ومِن قبيلِ ذلك أنّها وجدَت مكاناً أرادَت استطلاعَه والحَفرَ فيه فقابلَها رجلٌ قالَ لها: "لماذا تحفرين هنا؟ هذه أرضي". وقد أحسّت من كلماتِه أنّه يخاطبُها بلهجةٍ غيرِ لهجةِ أهلِ البلدِ فقالت له: "أنت لا تعرفُ الأرضَ لأنّك لا تنطقُها بشكلٍ صحيح. هذه أرضُ أجدادي". وتَستذكِرُ امياية الحادثةَ وتعلّقُ قائلةُ: "خاطبتُه بنبرةٍ عنصريةٍ شريرةٍ … وأصبحتُ أقولُ له أنت مِن غينيا. على أنّه كان موريتانياً بالفعل". تقول اميايةُ بأنّ نظرةَ الجميعِ لها تغيّرَت بعد أن تمكّنَت من انتزاعِ الأرض. ومِن أحاديثي مع المنقِّبين استشففتُ أنك في عالَمِهم هذا، لا بدّ أن يكونَ لك صلةٌ بأهلِ النفوذِ وإلا فقد تُظلَمُ أو يُعتدَى عليك ويُهضَمُ حقُّك، أو تكون مستعدّاً للمشاكلِ والصراعِ، فهو عالَمٌ لا يَرحم.
تَركّزَ عملُ المنقِّبةِ امياية على بئرٍ واحدة لمدّةِ شهر. وصرفَت كاملَ المبلغِ الذي أَتَت به وأضافت عليه مبالغَ أُخرى تكبَّدَت إثرَها خسائرَ جمّةً. ولكن مع الوقتِ بدأَت الظروفُ تتحسّنُ، فاستخرجَت وفريقُها ما يقاربُ ثمانمئة غرامٍ من الذهبِ، مقارنةً مع نتائجَ أقلَّ في مَجاهرَ متفرّقة. ولكنّ الخسائرَ لَم تفارِقها وفريقَها، إذْ تقول: "عندما فَتَحَت الدولةُ منطقةً جديدةً تسمّى "الشكات" في ولاية تيرس زمور، أصرّت جماعتي على الذهابِ إليها، وذهبوا وبقيتُ وحدي. لكنّي صرفتُ على ذلك المشروعِ والرحلةِ الكثيرَ من الأموال. ولَم تكُن تجربةُ 'الشّكات' مفيدةً، تكبّدتُ فيها الخسارة". واليومَ ما تزال اميايةُ تواصلُ العملَ في مجالِ التنقيبِ. تقفُ وتقعُ وتربحُ وتخسر. تضيفُ قائلةً:"الحُلمُ ما يزالُ يحدوني بواقعٍ أفضل".
ويحدثُ أن تكونَ خسائرُ المنقِّبين أكثرَ ممّا يحلُمون بجَنْيِه. فعالمُ الذهبِ ليس مثلَه برّاقاً. لكن يتجاهلُ المنقِّبون الجددُ قصصَ الخسائرِ ويَلهَثون وراءَ قصصِ النجاحِ، ولا سيّما قصصِ الحظّ. ومِن تلك القصصِ قصةٌ حدّثَتني عنها اميايةُ عن رجلٍ كانت عنده نسبةٌ من بئرٍ يحفرُها، لكنه لم يكن يملكُ الإمكانياتِ ولا وسائلَ النقل. وكان يجاورُه رجلٌ آخَرُ اتّفقَ معه أن يعطيَه ما يأكلُ به هو وعمّالُه من حانوتِه، على أن يكونَ لصاحبِ الأرضِ نصيبٌ من رَيعِ البئر. وذهبَ المُستثمِرُ إلى رجلٍ آخَرَ في مدينة الشامي وطلبَ منه أن يزوّدَه بالوَقودِ ومعدّاتِ الحَفر وغيرِ ذلك. وبعد مرورِ زمنٍ طويلٍ لَم يَحصُلْ له ما أرادَه، فقال له صاحبُ الحانوت: "أنا لم أَعُدْ أريدُ منكَ شيئاً ولا حتى نسبةً، وعمّالُك لا تُرسِلْهم إليَّ بعدَ اليوم". فظنَّ أنه يمزحُ معه، وعند وقتِ العشاءِ رجعَ له وقال له: "العمّالُ ينقصُهم الفطورُ غداً"، فردَّ عليه: "والله لن أعطيَهم أيَّ شيء". وبعد ساعةٍ قال الرجلُ مجدّداً لصاحبِ الحانوت: "أعطِني بعضَ البسكويتِ، فعشاءُ العمّالِ لا يروقُني الليلة"، فرفض. وذهبَ الرجلُ إلى كثيبٍ بقربِه واتّكأَ عليه حائراً يحدِّثُ نفسَه عن المصيرِ الذي ينتظرُه. وقد بَقِيَ عندَه حتى ساعاتِ الليلِ المتأخّر. وبحثَ عنه العمّالُ حتى وَجَدوه فقالوا له: "لقد وَجَدْنا شيئاً لا يمكنُ أن يبيتَ في هذا المكان". فأخبَروه باكتشافِهم لكمّيةٍ كبيرةٍ من الذهبِ لا يمكنُ أن يَبقى في المكانِ، اتّقاءً لأَعيُنِ بقيّةِ المنقِّبين. فتَبِعَهم إلى المكانِ فوجدَ الذهبَ واضحاً. وظلَّ يبحثُ عن سيارةِ نقلٍ حتّى وجدَ واحدة. وقد كان وزنُ الذهبِ يصلُ إلى ثلاثةِ كيلوغراماتٍ صافيةٍ من الذهب. ومثلُ هذه القصصِ تُسِيلُ لعابَ الشبابِ المغامرِ الساعي إلى الثراءِ وتحفِّزُهم على الانخراطِ في مجالِ التنقيبِ عن الذهب. ويَذهبون دون أن يكونَ لديهم إدراكٌ بصعوبةِ القطاعِ أو متطلّباتِه.
يُطالِبُ المنقِّبون السلطاتِ بتوفيرِ سبلِ الحمايةِ والأمانِ والتنظيمِ في المَجاهرِ، وتهيئةِ الأرضِ بشكلٍ أفضلَ وتخفيضِ الضرائبِ المفروضةِ عليهم. ويطالِبون بأن يُجروا هُم المسحَ النهائيَّ لأماكنِ توفّرِ الذهبِ في الأراضي المسموحِ فيها بالتنقيبِ لإطلاعِهم عليها، فهذا الأمرُ تختصُّ به السلطاتُ المعنيةُ حصراً. ويُجمِعُ المنقِّبون الذين تحدثتُ معهم على أن قطاعَهم له بالغُ الفائدةِ على الاقتصادِ المحلّيِّ، لكنّهم يحتاجون إلى عنايةٍ أكبرَ ويتأسّفون على خُفوتِ وهجِ الذهب. وذلك الخُفوتُ لاحَظَه رفيقُ رحلتي البَكاي أيضاً عند عودتِنا إلى مدينةِ الشامي بغرضِ المَقيلِ قَبلَ المغادرةِ إلى العاصمةِ نواكشوط في المساء. إذ قال لي: "يبدو أن قطاعَ الذهبِ ليس على ما يُرامُ، فالشامي ليست كما عهدتُها، حركةُ الناسِ خفيفةٌ جدّاً وحتى الإقبالُ على هذا المطعمِ ضئيلٌ، عكسَ ما كان عليه".
بدأَت قصّةُ الذهبِ في موريتانيا كالحُلم. راقَ طموحُ الثراءِ الموريتانيين بسببِ القصصِ والأساطيرِ التي يتداولونَها عن العثورِ على هذا الكنزِ الثمين. وساعدَت قصصُ تغيّرِ أحوالِ من ربحوا منه على استِعارِ حُمَّى الذهبِ بين الشباب. وهي أخبارٌ كان بعضُها حقيقياً، لكنّها تأتي بدونِ سياقٍ وبالكثيرِ من التضخيمِ والتزييف. وقد وجدَت أساطيرُ الذهبِ شعباً يطحنُه الفقرُ ويتوقُ لتحسينِ حالِه المادّيِّ والهروبِ من طغيانِ البطالةِ وانعدامِ الفرصِ، دون أن يَعِيَ جُلُّهم أنّ المرءَ يحتاجُ إلى "الذهب" ليُخرِجَ الذهب. فأكبرُ الرابحين هُم رؤوسُ الأموال. والقطاعُ ليس سهلاً على الفقراءِ والمعوزين.