محنة العطش في انواكشوط منحة الربانية للفقراء، باعة الماء بالوسائل البدائية، باعة الصهاريج الصغيرة على عربات الحمير، والقنينات المتفاوتة الأحجام يحملها الكادحون على المناكب، والرؤوس..
كلُّ البضاعات، وكل المهن يتصاعد سعرها حتى ختان البنات، والتغزل الكاذب بمحاسن القبائل، والمجموعات، وكل التجار يستفيدون، وكل المضاربين يربحون، وتنثني تحت ثقل المعاناة أعناق البسطاء.
تواصلي أيتها الأزمة العظيمة، لا تتوقفي حتى يذوق رجال مر ما صنعوا..واصلي عزفك الجميل، أسمعينا أغنية العطش، تعطيشك يسقينا، ويطعمنا، ويكسونا نحن أمةالبائسين..
امتد أيها الطابور طويلا أمام أعرشتهم، فما أحلى أن نشاهد الطلب يشتد على باعة الماء المهملين على عرباتهم المتهالكة، وما أعظم أن نراهم يضيقون وقد شبعوا من كثرة الزبناء، رغم الارتفاع المتسارع لثمن براميلهم الصدئة، التي كان طالبوها اليوم يعافونها أمس، ولا يرضون أن تشرب منها كلابهم، ولا أن تنظف بها مراحيضهم..
ما زلت أذكر ذلك الحادث المفزع على طريق الأمل، مقابل بحيرة ألاك..كان الفصل صيفا، وقد جفت البحيرة وصوح نبتها ورعي الهشيم، وتلفعت الأشجار بلون الرماد، كأنها ناجية من حريق..
ضحايا الحادث عشرات الجمال السمينة، تناثرت على جنبات الطريق في مشهد مؤلم..
رأيت أسرابا من الطيور المختلفة على الأشجار ترقب المشهد، ومجموعات من الكلاب الهزيلة تراقب من بعد..تتحين خفة مرور السيارات..
سرحت قليلا ثم قرأت المشهد بعاطفة أخرى، غير تلك التي خلقها هذا الموت القاسي، والخسارة الكبيرة لتاجر الإبل وصاحب الشاحنة..
قرأت أن لله عز وجل عيالا آخر، ضعيفا، لا حيلة له إذا قست الطبيعة سوى الاستسلام للموت البطيء..
سخر الله التاجر، والشاحنة، والعمال، ليجلبوا إلى الذئاب الجائعة، والكلاب الهزيلة، والطيور العاجزة، وخلق آخر كثير من النمل، والحشرات وغيرها، مائدة عظيمة حقا، قد اكتنزت لحما، وقد طبقت شحما، أنزلها إليهم بلا حمالين، ولا متربحين، ولا مضاربين، ولا منتحلي صفات أعمال خيرية لإغاثة المنكوبين، هبة ربانية مجانية، لا منَّ فيها..
فهل رأيتم كيف انفرجت أزمة بأزمة، وانزاح كرب بكرب، وولى موت بموت!؟.