يعتبر التاريج السجل الحافظ والناظم لتقلبات الأمم وانهيار الدول وتداول الأيام ، وفق تحولات عميقة فى مجراها ومؤثرة فى وقوعها لاتكاد العبرة تخلو من أبسط صورها، ابان رسم لوحته المهيبة ، على أرضية المعمورة انطلاقا من فعل إنسانى داخل "بيئة" يحدد هو نفسه تحركه فيها ؛ فبعد الاستقرار البشرى وعندما إكتملت الحاجات أو كادت أن تكتمل إنبثق الفكر الفلسفى معلنا عن إيذان فجر جديد ليخلص الانسان من براثين الأسطورة وجشع القلق المجسد خلال العلاقات العشوائية للإنسان مع الآخر بطريقة بهيمية لاتحتكم إلى عقل منطقي مؤسس ، إذ جائت الفلسفة فى ثوب شمولي حاوية كل المعارف فى جيوبها المتشعبة ، وهذا ما سنحاول الحديث عنه فى هذه المعالجة ، أي علاقة الفلسفة بالعلوم وعلى وجه الخصوص علم التاريخ معرجين فى ذلك على ما تم تسميته بفلسفة التاريخ محاولين تحديد مسألة الأسبقية ، أي أيهما أولا التاريخ أم الفلسفة ؟ وهل يمكن ان يستغني التاريخ عن الفلسفة ؟
عندما هبط الإنسان على الأرض بدأت أولى ملامح التاريخ تتجسد شيئا فشيئا على أرضية المعمورة ، عبر مراحل تدريجية حاول الإنسان فيها أن يكتشف ذاته ، وذلك عبر ثورات طبيعية بيئية عظيمة جعلت الإنسان يخرج تلقائيا من الكهوف التى حبسته طيلة فترات طويلة ، فعندما تراجع الجليد الذى كان يغطى سطح الأرض بدأ الانسان فى الخروج متخلصا من ثقافة الكهف القديمة التى جبل عليها فخلال تلك الفترة استطاع فيها ان يكتشف النار ويطهو طعامه بنفسه لنفسه ، حيث بدأ بعد هذه المرحلة بالذات بالقنص والجنى ، والجمع والالتقاط ، لتلي هذه المرحلة حسب ما عبرته عنه العلوم الجيولوجية والآركيولوجية ، اكتشاف الزراعة التى غيرت مجرى حياة الانسان عن طريق أول تساؤل طرحه حول نفسه " وهو كيف أقهر العالم ببطون خاوية ؟" حيث بدأ فعليا بالزراعية التى أحدثت ثورة عظيمة وعلى إثرها تم اكتشاف الكتابة 3200 قبل الميلاد وهنا يبدأ التاريخ الانساني انطلاقا التقيد والتدوين ، فبدأ الإنسان يسجل فى سجلاته عدد محاصيله الزراعية ، واسماء ملوكه ودوله وتقلبات أحواله ، وأنماط أفعاله ، وطبيعة معاشه ، وسلوكاته ، وحروبه ، واتفاقاته ؛ فكانت أول اتفاقية مدونة فى التاريخ القديم هى اتفاقية " قادش " لتبدأ بعد ذلك قيام الحضارات العظيمة التى حفظها التاريخ ضمن الذاكرة الجمعية ، الحضارة الفرعونية ، والبابلية ، والرومانية ، والفينيقية ، والهندية والصينية .. ولم تكن الكتابات التاريخية يومها على أسس منهجية أو طريقة واضحة شأنها فى ذلك كل البدايات المشتة لأي علم لم ترتسم معالمه بعد فى ظل ولادة قيصرية لم تتطور إلا بعد تطور الحضارات وتشكل الأمم وقيام الدول ، فكان هنالك مؤرخون داخل كل مجتمع يدونون ويسطرون تاريخهم بنوع من إضفاء المجد الذاتى المشفوع بالانتمائية ،
أما الفلسفة فكانت حديثة النشأة بالمقارنة مع التاريخ ، فحسب ماهو معلوم أن الفلسفة ظهرت فى اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد على يد فلاسفة عظماء وذلك بعد أن تحققت لهم الأساسيات وضرورات الحياة ، على أرضية بحر إيجيه ثم أثينا فبدؤا يبحثون فى المسائل الجزئية والكلية عندما طرح هذا السؤال " ماهو أصل الكون؟ " فبدأوا بالإجابات وتعددت من "انكس ماندر " "وانكس مانس" وطاليس نفسه ، وفلاسفة الطبيعة الأوائل ، ثم ماقام به بعد ذلك سقراط عندما أنزل الفلسفة من السماء بساؤله عن ماهو الانسان ؟ ، وما طوره بعد ذلك ماركس عندما سحب اهتمامهم إلى الاقتصاد ، والمادية الخرقاء والطبقة البلوريتارية وماتعانيه ، وقبل ذلك ما قام به هيغل وافلاطون عن السياسة ، والحروب الكلامية التى خاضها السفسطائون " فيورباخ " على ملكية الحقيقة وأنها نسبية ، وما عبر عنه ديكارت حول العقل (ومسح الطاولة )، كل هذا وذاك كان يعبر بامتياز عن تطور بشرى وتحول جذرى فى تاريخ البشرية نحو الاكتشافات فسميت الفلسفة بذلك أم العلوم نظرا لتعدد اهتماماتها واختلاف مشاربها ، فبحث الفلاسفة فى الأخلاق ، وفى الاجتماع البشرى ، وفى الدولة ، والسياسة ، وفى الاقتصاد ، حتى أسست لموطئ قدم للعلم الذى كان جنينها فى مرحلته الباكرة وذلك عن طريق تساؤلاتها وتتبع تمفصلات الظواهر ، كما بحثت فى علم التاريخ فظهر مؤرخيون عظام من أمثال هيرودوت
حيث كان من اعظم مؤرخي اليونان القديم الذي حاول أن يكتب التاريخ اليونانى وامتدت كتاباته حتى طالت شمال إفريقيا وجنوب الصحراء ، غير أن علم التاريخ نظرا لأبوته وأسبقيته بدأ يتطور منهجا وعملا مستقلا بذاته ، حيث أخذه مؤرخوا العرب فنحتوه على طريقة نهجهم فى علم الحديث وكان من اعظم مؤرخي العرب الذين اخضعوه لذلك المنهج " البلاذورى " فى فتوح البلدان والطبرى فى "تاريخ الممالك والرسل " والمسعودى في" مروج الذهب " وما أطرأه بن خلدون على هذا العلم بعد أن أحدث منهجا جديدا يخالف فيه علم المحدثين والناقلين فى مقدمته عندما اتخذ طريقة "العدل والتجريح" التى كانت تستخدم فى علم الحديث إلا أنه طورها وفق اخضاعها لقانون العقل وذلك عندما قال "( عندما تكون النفس فى حال من الاعتدال فى تلقى الخبر ، أعطته حقه من التمحيص والنظر ..وقد عد أهل النظر من المطاعن فى الخبر ، استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لايقبله العقل )
ثم بدأ منهج هذا العلم يتطور مع المدرسة الحولية على يد "فرناند بروديل " "وبول فاين" "ولوسيان فوفر " عندما احدثوا تواريخ بطيئة وأخرى سريعة ثم تواريخ راكدة على طريقة برودل ، ثم ما ذهبت إليه المدرسة المنهجية على يد " سنبوس "
وبما أن الفلسفة تبحث فى نطاق واسع لاتعتمد على منهج محدد فى بحثها فكلما أخذ التاريخ فى رسم منهجه فإنه بذلك يحقق شرط " الإنفصال" والاستقلالية رغم إزعاج الفلسفة المتكرر وذلك بتساؤلاتها المزعجة ، فالفلسفة فى كل فن تفرض ذاتها كما يقال ضمن طرح اشكاليات جوهرية ، وهو ما جعل جل الباحثين يستخدام لفظة " فلسفة التاريخ " وهي ماتحدث عنها "هيغل" عندما عرف التاريخ بأنه "مستقبل البشرية الحرة" ، ففلسفة التاريخ تبحث عن أصل الكون ونهايته وبداية الانسان وأسباب وجوده وعلته ، وغاية وجوده ، وتبحث عن تشكل الكون وتاريخه ...
وعندما أصبحت الفلسفة تفرض ذاتها فى مرحلة تاريخية انفصل عنها العلم التجريبى الذى يعتمد على الملاحظة والتجربة وإعادة الفرضية ، جائت الابستملوجية التى استطاعت الفلسفة أن تذلل التاريخ -وبعض العلوم الاجتماعية - بها جاء مفهوم جديد ، وهو العلوم الانسانية التى اطلقها "جون استوارث ميل "وغيره ووضع "ميشل فوكو" بعضا من مناهجا كاستخدام علم الآثار فى البحث عن الحقيقة ، وجدت الفلسفة نفسها أمام انفصال جديد مع العلوم الاجتماعية والتاريخية عندما ظهرت مبادئ جديدة فى هذه العلوم
حيث أصبحت مصادر التاريخية ثلاثية الشكل ، إذ تم تحديد معالمها كالمصادر "الأثرية " فكما يقول ريمون آرون "أن الحقيقة التاريخية هي بناء ما كان موجودا واندثر انطلاقا مما بقى كأثر " أو الشفوية" وهى الروايات القابعة فى المخيلة الذهنية للشعوب التقليدية التى عدلت عن الكتابة فى بعض مراحلها ثم المصادر "المكتوبة" وهى عبارة وثيقة أومعطى حي عاصر صاحبه الحدث فكتب عنه ، وقد أصبح التاريخ فى هذا المنحى أقرب إلى العلمية من بعض العلوم لولا إماءات وضاءة لاتخلو من التشكيك والتشويه لهذا العلم فى هذه الأبيات التى يقول صاحبها .
وما كتب التاريخ فى كل ماروت
لقارئها إلا حديث ملفق
نظرنا إلى أمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
ولكن هذا الإدعاء مردود على صاحبه ، فكما يقول بن خلدون ( التاريخ فى باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع واسبابها عميق ، فهو جدير فى الحكمة عريق ؛ من أن يعد فى علومها وخليق ، إذ يطلعنا على حقائق الماضين من الأمم فى حياتهم ، والأنبياء فى سيرهم ، والملوك فى سياساتهم ، لكى تؤخذ العبرة وتتم الفائدة ) .
وبالتالى أصبحت المسألة التشكيكية بالحقيقة التاريخية بادية إلا أن الحقيقة هي مابينها بن خلدون عن التاريخ وفوائده ورغم تقدم هذا العلم وانفصاله تارة عن الحقل الفلسفى إلا أن جوانب منه محدودة يطغى عليها الجانب الفلسفى كالبحث عن تاريخ الكون وتشكله ، وهي حقيقة يقرها الواقع ومنطق الأشياء البسيطة .
الباحث فى العلوم الإنسانية:
أبهاه عبدالله بودادية