كنت أطالع في بعض نسخ معجم لغوي للعلامة أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي المتوفى سنة 875هـ، كان قد عمله بعد أن أنجز تفسيره القيم الموسوم: الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وقد كنت أنوي الاشتغال على تحقيقه، فجمعت عدة نسخ منه، وكنت دائما في مطالعتي لتلك العينات من المخطوطات، أتحين الفرص لأكتشف بعض النوادر في بداية المخطوطة أو في نهايتها، وقد كان لي ذلك وفي عدة مطالعات، وحتى لا تذهب تلك النوادر قررت أن أدون بعضا منها في مقالات، تفيد القارئ المتبصر، والذي لا تتوفر له تلك المطالعات لصعوبة قراءة المخطوطات، وعدم توفرها أصلا في أوقات معينة، وفي أماكن مختارة، فقد عانينا نحن المهتمين بالمجال وما زلنا نعاني من عدم توفر تلك المخطوطات في مكتباتنا، فقد بات ملاكها يضنون بها على القارئ لسبب أو لآخر، والسعيد من استطاع أن يحصل على ذلك.
ومهما يكن من أمر فإنني طالعت كثيرا من تلك المخطوطات في مكتبات متعددة، وحصلت على معلومات كثيرة تفيد القارئ مما هو جيد ونادر، فما كان مني إلا أن عقدت العزم على نشر بعض ذلك التراث الضائع، فأرجو أن يفيد، ويستفاد منه، ففيه من الحكم وإرشاد القارئ الشيئ الكثير.
ولقد قرأت هذه المقطوعة في نهاية نسخة معجم الثعالبي، ولم تنسب إلى شاعر بعينه، كما أنها لم تبعث إلى شخص معين. وهي جميلة في مضامينها، سهلة في لغتها، دالة على تبدل أحوال الإنسان، قيلت في الزمان البعيد، حيث كانت أحوال الناس تسير على هذا المنوال، ويظهر أن بعض علماء الصوفة المتبصرين قد قرؤوها، ومن أولئك الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبي القاسم النهاوندي البغدادي، فقد شكا أهل زمانه، وقال: " كيف في زمننا هذا - في القرن الثامن - وما أهله إلا كما قيل:
لَمْ يَبقَ فِي النَّاسِ مَوثُوقٌ بصُحْبتِــــــــــه ولاَ امرُؤٌ مَرضِي إذا اخْتُبِـــــــــــــــــــــــــــــــــرَا
ولاَ أَخُو ثِقَةٍ يُرتَجَى لِنَائِبَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ ولا لِسِرٍّ إذَا اسْتَوْدَعْتَه سَتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــرَا
مَا إِنْ تَرَى غَيرَ ذِي الوَجْهَينِ قَدْ طُوِيَتْ مِنهُ الضُّلُوعُ علَى غَيرِ الـــــذِي ظَهَرَا
يَلْقَاكَ يُظْهِرُ وُدًّا زَائِدًا فَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإِذَا مَاغِبْتَ عَادَ عَدُوًّا مُبْـــــــــــــــــغِضًا أَشِرَا
لَهُ لِسَانَانِ فِي فِيهِ يُدِيرُهُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمَا يُهْدِي لِمَنْ شَاءَ مِنْهُ شَهْدًا أَوْ صَبِرَا
مَوَاصِلٌ لكَ مَا دَامَتْ تُواصِلُـــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ مِنْكَ الأَيَادِي وَإِنْ أَمْسَكْتَهَا هـَــــــــــجَرَا
وَإِنْ بَدَتْ مِنْكَ يَوْمًا زَلَّةٌ خَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطَأً عَنْ غَيرِ عَمْدٍ تَرَاهُ حَيَّةً ذَكَـــــــــــــــــــــــرَا
يَسْعَى إلَى كُلِّ مَنْ يَلْقَاهُ عَنكَ بِـــــــــــــــــمَا يَرَاهُ مُفْتَرِيًا مَا لاَ يَكُونُ يَــــــــــــــــــــــــــــــرَى
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ مِثْلِهِمْ أَبَــــــــــــــــــــــــــــدَا فَالمَرْءُ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ حَذِرَا
وهكذا فإن هذه القصيدة التي ذكرها الجنيد، تنضم إلى نادر ما تكتبه النساخ في نهاية المخطوطات، فرحم الله السلف وحفظ الخلف، ولله الأمر من قبل ومن بعد.