شكّلت "جائحة كورونا" ابتلاء كبيرا واختبارا مريرا للدول والمجتمعات، فكم أربكت من حسابات وشلت من نشاطات وسببت من انقلاب فى سلم الأولويات. وقد أصبح بديهيا أننا مقبلون على مرحلة جديدة سيشهد فيها عالم "ما بعد كورونا" تغييرات عميقة تمس خطط الدول وسياساتها وتنال حتى من معالم العولمة ومميزاتها...
ولذا ينبغى أن نسارع إلى استخلاص الدروس والعبر لبلدنا، من أجل تحويل هذه الأزمة إلى فرصة نغتنمها ليس فقط للتثقيف والتوعية الشاملة وإنما أيضا لإعادة النظر، من جهة الدولة، بمراجعة السياسات وترتيب الأولويات ومن جهة المجتمع، بتغيير المسلكيات وتطوير العقليات.
ولنترجمْ ذلك أولا بالالتفات إلى بديهيات الصحة العامة والاهتمام الجدي بسلامة المواطن بجميع مقوماتها، كخطوة أولى نحو إسعاده...
وإن الارتقاء بالمنظومة الصحية الوطنية وتقوية جاهزيتها لمجابهة أي طارئ يهدد الصحة العامة، وبعبارة أخرى تعزيز "الأمن الصحي" فى بلدنا، لَحَري أن يُصنّف ضمن الأهداف الوطنية الكبرى ويُدرج ضمن الأولويات الرئيسية، إذا ما أردنا حقا توفير الشروط الضرورية لنهضة البلاد.
ومن هذا المنطلق، لم يعد من المقبول الاقتصار على النظر القصير وانتظار الأزمات للتعامل معها، بل يتعين بإلحاح تجديد المقاربات فى شتى المجالات والعمل على صياغة وتنفيذ استراتيجية متسقة، متكاملة وبعيدة المدى للنهوض بالرعاية الصحية ووضع "الأمن الصحي" الشامل موضعه الصحيح فى قلب أولوياتنا الوطنية.
وكما كنت وعدت، فسأتناول هنا جملة من الركائز الأساسية للرعاية الصحية المنشودة، وهي فى الواقع عودة إلى توصيات سبق أن تقدمتُ بها فى إطار ال"مقترحات من أجل إقلاع موريتانيا" :
أولا – اعتماد خطة ناجعة لتعميم الخدمة الصحية الجيدة، ليستفيد منها جميع المواطنين، أينما كانوا
فمن المعلوم، وهو ما تؤكده منظمة الصحة العالمية، أن أداء النظام الصحي فى بلادنا لم يزل يعوقه إلى حد كبير، قصور كمي ونوعي على عدة مستويات ولا سيما الموارد البشرية، وعدم التوازن فى توزيع الوسائل و فى توزيع المهنيين الصحيين (من أطباء وممرضين وغيرهم) على مستوى التراب الوطني. وكما يتضح من الأرقام، فإننا نعانى بشكل صارخ من عدم المساواة فى الحصول على الرعاية الصحية بين المناطق الحضرية والريفية، إذ يتركز أكثر من ثلاثة أرباع الطاقم الطبي الوطني فى ولايات انواكشوط وداخلت انواذيبو وانشيرى . أي أن أقل من ثلث السكان يستحوذ على ثلاثة أرباع الموارد.
وينعكس الضعف الحاصل فى الأداء على مستوى النتائج، إحصائيا. إذ لا تزال البلاد وعلى الرغم من الجهود المبذولة، بعيدة عن استكمال "الأهداف الإنمائية للألفية" لعام 2015 فيما يخص الصحة، ونحن فى 2020. ويتجلى ذلك، على سبيل المثال، في مؤشر إحصائي حمال للمعنى ألا وهو نسبة وفيات الأمهات عند الولادة، والتي لم نُفلح فى خفضها إلى الحد الأدنى المرسوم (حيث تتكبد البلاد أكثر من 500 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة جديدة، بدلاً من الحد المرسوم فى أهداف الألفية لسنة 2015 والبالغ 300). وإنه من غير المقبول أن تستمر "واهبات الحياة" فى دفع حياتهن ثمنا لفشل المنظومة الصحية فى التوزيع العادل للموارد ولفشلها فى توفير مستوى مقبول من العناية الصحية على كامل التراب الوطني.
ويؤشر ما سبق على مدى الهوة التي ينبغي جسرُها، وعلى جسامة التحدى عندما ترفع وزارة الصحة شعارا كمثل : "ضرورة نفاذ الجميع إلى الصحة، وفق المعايير المطلوبة وفى أي مكان من البلاد".
ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف ليس مستحيلا إذا ما تسلحنا بالعزم وأعددنا له الخطة السليمة، ويمكننا فى هذا المجال، الاستفادة من تجربة البلدان المتواضعة التي طورت نظامًا صحيًا ممتازا (حالة كوبا، على سبيل المثال) استنادًا إلى مهارات مواردها البشرية الطبية وخدمات الرعاية الصحية عن قُرب. ولتحقيق ذلك سيكون من الضروري:
أ-تطوير البنى التحتية "للصحة القاعدية" فى جميع أنحاء البلاد وإعادة تأهيل المؤسسات القائمة (المراكز الصحية والمستوصفات) وتشييد المزيد منها فى المناطق التي لم تتم تغطيتها، وتزويدها بالمستلزمات الضرورية. وإن ذلك فى متناولنا، لأن إطلاق ورشات بناء أو صيانة كتلك يمكن أن يتم بإمكانات وسواعد وطنية، وسيصب فى نفس الوقت فى مكافحة البطالة وتحفيز الاقتصاد، شريطة أن يتم تسيير المشاريع وفق القواعد مع الرقابة الفنية السليمة وضمان جودة الإنجاز، دون تحايل أو غش.
وتلك هي الطريقة الوحيدة التى سنحصل بها على شبكة صحية لائقة منتشرة فى مختلف أنحاء البلاد، مع مستوى من العدالة فى توفير الخدمات الطبية للسكان.
ب-إعادة التوازن فى توزيع الموارد البشرية بين مختلف جهات ومدن البلاد باعتماد مقاربة أكثر فعالية لتحفيز الموظفين (لاسيما من حيث الإنصاف فى إدارة المسارات المهنية للممرضين والفنيين والأطباء، وفى التحويلات وفى توزيع علاوات المخاطر والبعد). ولا يمكن أن يتم ذلك أيضا دون ضمان ظروف حسنة وسلامة مُثلى للمهنيين حيثما استقروا. وهذه المقاربة إذا ما انتُهجت بجدية ودون محاباة أو محسوبية، فستُتيح لنا التوصل إلى خارطة صحية مناسبة يُصادَق عليها من قِبل المهنيين الصحيين وتلقى رضى المواطنين.
ج-توسيع قدرات التكوين الأساسي: فمن خلال تطوير التكوين (حتى ولو استدعى ذلك الاستعانة بخبراء أجانب) سنتمكن من سد العجز الحالي (كميا ونوعيا) فى الموارد البشرية للصحة. وستحتاج البلاد إلى تكوين عدد كافٍ من الأطباء والممرضين والفنيىن الصحيين فى السنوات القادمة؛ ولكن أيضا إلى تقديم التدريب الجدي والمستمر لجميع عاملى الصحة كل على مستواه، وخاصة للترقية المستمرة فى مجالات الوقاية الصحية والأساليب العلاجية الجديدة وتدابير النظافة والتطهير والتعقيم، دون أن ننسى التذكير الدوري بالجوانب المتصلة بقواعد وأخلاقيات المهنة ...
ثانيا - تحسين كفاءة سلسلة التزويد : ويتطلب ذلك عقلنة التوريد وتحسين آليات توزيع وحفظ واستخدام الأدوية والمنتجات الصيدلانية، مع السعي إلى الاكتفاء الذاتي -فى مدى منظور- فى مجال الأدوية الأساسية.
أ- وفى هذا الإطار، فإن الخطوة الأولى هي التغلب بشكل نهائي على الضعف فى توفير الأدوية الأساسية، وهو المشكل الذى لم يزل يُطرح بشكل حرج حتى وقت قريب، نظرًا للقدرة المحدودة لشركة "المركزية لشراء الأدوية" -كامك- (المستورد الرئيسي فى هذا المجال)، ولعل العجز المتكرر الذى تعانيه سلسلة التموين الرسمية، هي من بين الثغرات التي تترك الباب مشرعا أمام الاتجار بالأدوية المزيفة والمنتجات المُزورة ذات الجودة المنخفضة.
إن الأمان الصحي للمواطنين يتطلب التغلب على الانقطاعات فى التموين وضمان الحصول على الأدوية والمواد والمستهلكات الطبية فى جميع أنحاء البلاد وبأسعار معقولة. إذ ليس من المقبول أن تشهد الصيدليات والمرافق الصحية، بشكل متكرر، نقصا حادا فى أدوية أساسية يحتاجها مواطنون يعانون أمراضا مزمنة تتطلب متابعة العلاج دون انقطاع.
ولذا، يجب تحسين قدرات المركزية لاستيراد الأدوية (كامك) على الصعيدين الإداري و"العملياتى" من أجل مضاعفة الكميات المعالَجة فى المدى القصير ومواصلة التقدم فى توسيع قدراتها فى إطار استراتيجية تضمن التموين الكافي والدائم بما يتمشى مع احتياجات البلد بأكمله (من أدوية وكواشف مخبرية ومواد استهلاكية ولقاحات وغيرها من المنتجات). وينبغى استحداث آليات للتأكد باستمرار من كفاءة العمليات اللوجيستية (ليس فقط لكاميك وإنما جميع الموزعين) بما يضمن توصيل تلك المنتجات مع حفظها وفق المعايير وفى أحسن الظروف... كل ذلك مع تفادى ممارسات التحايل والتهريب، كي نضمن حصول المواطنين على منتجات طبية آمنة، ذات جودة عالية وبأسعار معقولة، وبالتالى حمايتهم من الأدوية المزيفة وذات الجودة المنخفضة وحتى الخطرة.
ب- ومن المهم أيضا تشجيع إنشاء "مختبرات أو مصانع صيدلية" فى موريتانيا، لتصنيع وتعبئة الأدوية الأكثر شيوعًا (الباراسيتامول، الأسبرين، المضادات الحيوية الأكثر استعمالا) والمضي فى طريق الاكتفاء الذاتي فى مجال الأدوية الأساسية. فمثل هذه الوحدات التي تُنتج الأقراص من مساحيق مستوردة لا تستعصى مبدئيا على القدرات المحلية، غير أنه يُشترط أن تستوفى المعايير الصارمة لصناعة الصيدلة.
ولا تخفى الأهمية الاستراتيجية لمثل هذا المسعى حيث ان الاعتماد الكلي على الخارج فى هذا المجال يشكل مخاطرة غير محسوبة، ونحن نرى أمثلة حية على ذلك خلال الأزمة الحالية حيث اتخذت بعض الدول قرارها السيادي بوقف أو تعليق تصدير بعض الأدوية...
ج- أما فيما يخص محاربة الاتجار بالأدوية المُزورة، فيتعين كما تناولته بالتفصيل فى مقال سابق، تكثيفُ المراقبة والتفتيش والتدقيق المنتظم فى جودة الأدوية المعروضة فى السوق، مع تطبيق ضوابط صارمة وعقوبات رادعة. ولن ينجح ذلك إلا بتفعيل مقاربة متعددة القطاعات يتم فيها التنسيق باستمرار بين الجهات المختصة فى قطاعات الصحة والجمارك والشرطة والعدالة...
ثالثا - تسريع المسيرة نحو تعميم التأمين الصحي للجميع، وإبداع حلول لتمويله بشكل تضامني ومستدام
والمطلوب هنا تسريع الوتيرة واتباع خطوات ملموسة وقابلة للتقييم، وفقا لتوصيات منظمة الصحة العالمية، من أجل ضمان حصول الفئات الأكثر ضعفًا من السكان على العلاجات الطبية والخدمات الصحية، وتوفير تأمين صحي تام وشامل لجميع المواطنين. وبهذه الطريقة، نحمى جميع الأفراد من المخاطر و من العوز الناجم عن المرض.
يبقى أن تمويل التأمين الصحي للجميع يتطلب إبداع حلول مستدامة تقوم على أسس التضامن الاجتماعي والاستمرارية، كي يتم التكفل بالمواطنين الأكثر فقرا. ويمكن التفكير فى العديد من الحلول الممكنة، إلا أن مناقشتها ومن ثَم التوافق عليها، أمر أساسي لإنجاحها. وعلى سبيل المثال، ودون الدخول في تفاصيل مطولة، إذا أردنا التكفل المجاني بنصف السكان الأكثر احتياجا (حوالي 2 مليون نسمة بمعدل 48 ألف أوقية قديمة كاشتراك سنوي لكل فرد لدى الصندوق الوطني للتأمين الصحي)، فيمكن اعتماد تمويل مركب ذى شقين :
أ- ضريبة خاصة على بطاقات شحن الهاتف وفواتير الاتصالات والانترنت، فنفرض نسبة مئوية على كل بطاقة شحن يتم بيعها وكل فاتورة اتصالات. وقد يقول قائل إن ذلك سيزيد كلفة الاتصال بما قد لا يتحمله المواطن البسيط. إلا أنه فى الواقع، إذا ما اتُّخذت إجراءات مصاحبة للحد من الممارسات المجحفة بالزبناء ومشاكل الرصيد ورداءة الخدمة وتشديد الرقابة على كل التجاوزات التى تعطى الانطباع للزبون أنه مجرد "بقرة حلوب" لشركة الاتصال؛ إذا ما اتخذت إجراءات مصاحبة كتلك فإن الضريبة المذكورة وإن انعكست على تسعيرة ساعة الاتصال إلا أن الكلفة الحقيقية للمواطن لن تكون أعلى، وفوق ذلك فائدة التأمين الصحي لا شك أكبر...
ب- ضريبة إضافية على التحويلات المالية للعملة الصعبة نحو الخارج: بفرض نسبة ضئيلة على كل دولار أو يورو أو أي عملة أخرى يتم إخراجها من البلد، سواء لأغراض شخصية أو لعمليات تجارية.
على أن يغطى كل ذلك سنويا 96 مليار أوقية قديمة، وهو المبلغ الكافى لتمويل اشتراك مليوني شخص فى التأمين الصحي... وبالطبع، هذا فقط سيناريو من بين طيف واسع من الحلول الممكنة.. ولن تعوزنا حلول التمويل الذاتي، إذا ما نحن اجتهدنا لإبداع أساليب مبتكرة.
رابعا - التطوير المستمر للمستشفيات والمنشئات الصحية الموجودة.
ولن يتأتى ذلك إلا بتغييرات عميقة، مع اتخاذ العديد من الإجراءات، وعلى رأسها : اعتماد وتطبيق ميثاق جدي لاحترام حقوق المريض وكرامته، تحسين جودة الاستقبال وفوق ذلك جودة الرعاية والعلاجات، والقضاء تماما على الممارسات الفوضوية ومظاهر الإهمال التى يعلم الله وحده كم راح ضحيتها من مريض مسكين.. على أن يتم إدراج ذلك كله فى منهاج للتطوير المستمر وفق "نُظُم الجودة" القابلة للتقييم والتدقيق.. ولم لا، أن تتنافس المستشفيات للحصول على شهادات الجودة ذات الصلة...
كما سيتعين اعتماد توزيع أمثل للموارد، وضمان توافر الأدوية بشكل أفضل وكذلك التجهيز بالمعدات الطبية الحيوية، وصيانة وسائل ومعدات المستشفيات والمراكز الصحية... وبخلاصة، تعزيز استقلالية المستشفيات وإمدادها بالوسائل والموارد الضرورية بما يخولها صلاحياتها كاملة، لكن فى نفس الوقت مع ما يقتضيه ذلك من مسؤولية وخضوع للتقييم و المحاسبة على أساس جودة الأداء ومدى تحقيق الأهداف.
ونفس الكلام حول المسؤولية واحترام المعايير والتقييم والمحاسبة على أساس جودة الأداء، ينطبق أيضا على العيادات الخصوصية.
وهذه الأخيرة تحتاج تأطيرا حازما ومتابعة جدية لتحقيق تكامل متوازن مع المؤسسات العمومية.
فكما يعرف الجميع، فإن ما شهده قطاع الصحة الخصوصي من نمو ملحوظ (على وجه التحديد فى المراكز الحضرية الكبيرة: انواكشوط، انواذيبو وكيفه)، إنما كان فى الواقع على حساب منظومة الصحة العمومية التي كان يتم الاستحواذ على مواردها البشرية (من مهنيى الصحة الموظفين لدى الدولة) من قبل العيادات الخاصة.
ومعلوم أن هذا الوضع، الذى استمر عقودا، قد أسهم إلى حد كبير فى التدهور النوعي لخدمات القطاع العام. وهكذا، إن نحن أردنا الحفاظ على منظومتنا الصحية، فإنه يتعين وضعُ حد لاستحواذ الخصوصيين على الموارد العمومية والقضاءُ على المنافسة غير الشريفة واعتمادُ تنظيم محكم وضبطٌ أكثر فاعلية للقطاع الخاص، مع ضمان تكامل حقيقي بينه وبين القطاع العام.
خامسا- توفير خدمات طوارئ حقيقية مزودة بآليات الإنقاذ والإخلاء، بحيث يمكنها التدخل بفعالية وبأسرع وقت ممكن فى المواقف الحرجة: وإن توسع وتمدد منطقة نواكشوط يتطلب تخصيص طائرة مروحية واحدة على الأقل لعمليات الإخلاء، بالإضافة إلى طائرة إخلاء طبية صغيرة للإغاثة من المناطق النائية (الحوضين على سبيل المثال)، بالإضافة طبعا إلى زيادة أعداد سيارات الإسعاف وضمان جاهزيتها مع تغطية كافة المناطق.
ومن الواجب أيضا توسيع وتحسين خدمات الإنعاش والعناية المركزة وتجهيز المصالح المعنية بشكل سليم، لتصبح أكثر فاعلية حتى نوفر لمواطنينا الكفاءة وسرعة النجدة، والأمان من خلال جودة الرعاية فى مصالح الانعاش، لا سيما فى تلك اللحظات الحرجة التي يعتمد فيها إنقاذ الأرواح على مستوى تلك الكفاءة والفعالية.
كما يجب أن تكون العلاجات والرعاية الطبية فى الحالات المستعجلة مشمولة بالتغطية من طرف الصندوق الوطني للتأمين الصحي، ويجب أن لا تخضع بأي حال من الأحوال لدفع مالي مسبق من قبل المريض.
سادسا- اعتماد إطار للحكم الرشيد فى قطاع الصحة
لقد عانى القطاع من تراكمات سوء التسيير، أضف إلى ذلك، ما عرفه من ضعف فى الإطار التنظيمي والتشريعي وتسيب على مر السنين... ولولا ذلك الترهل فى الحكامة، وما نتج عنه من غياب الرقابة والتفتيش، لما كان فى حالة من الضياع سمحت للقطاع الخاص أن يمارس تنافسا جائرا وغير نزيه مستنزفا مقدرات الصحة العمومية.
وإنه إن كانت ثمت عبرة نستخلصها من الأزمة الحالية، التى رأينا فيها المنظومات الصحية الأقوى وسائلَ والأحسن تنظيما وتسييرا والأكثرَ شفافية، تهتز وترتبك وتخشى الانهيار أمام صدمة الجائحة، فإن أول درس يجب أن نستوعبه قبل غيره هو أن ننتهج من الآن فصاعدا مقاربة جديدة للرعاية الصحية وللأمن الصحي الشامل تتسم بالصلابة والتماسك، ويبدأ ذلك أولا بالتغلب على المحسوبية والفساد والرداءة بما يسمح بتطوير منظومة صحية وطنية تتعزز باستمرار، وتقوم على القسط ورُشد الحكامة وفق مبادئ واضحة، نذكر منها :
أ- ضمان الإدارة الرشيدة للموارد المخصصة للصحة والتركيز على البحث عن كفاءة أفضل للنفقات، عبر توجيهها إلى أحسن أوجُه الصرف، مع تفعيل للرقابة المالية والتفتيش الدوري.
ب- تعزيز الأخلاقيات الطبية من خلال دورات ودروس أكثر إلهاما وحيوية حول أخلاقيات المهنة فى مدارس الصحة وكذلك فى كلية الطب. إن أخلاقيات وقواعد المهنة تعني أيضًا احترام أوقات العمل والواجبات والمهام التي يتلقى الطبيب راتبه مقابلها. إنها أيضا محاربة الاختلاس والاستخدام غير المشروع لوسائل الدولة، وغرس "حرمة المال العام" كقيمة مقدسة، وحفظه من أيادي العابثين، وحماية أدوات وتجهيزات العمل والحرص على صيانتها. كما يجب القضاء على الممارسات السلبية مثل "مغادرة العمل" والتغيب الغير مبرر فى المؤسسات العمومية.
ج- تطوير التكامل بين العيادات الخاصة والمؤسسات العمومية، ومواجهة ورفض المنافسة غير الشريفة، والتعاون بينها جميعا على أسس أخلاقية.