نعى الناعى لى خبر وفاة الشيخ الوالد يحيى بن الشيخ أباه بن الشيخ سيدي صبيحة يوم الأربعاء وهو أمر هزنى وأفزعنى لأن موت العلماء الربانيين موذن بخراب البلدان ومشير إلى الفناء الأبدي كما تتصوره كل الأدبيات التى تتحدث عن فضل العلماء ومكانتهم الراسخة في مجتمعاتهم والأمة بصورة جمعاء.
حقا رحل الشيخ يحيى في هدوء العارفين العاملين بمقتضيات المصير المحتوم حيث الرحيل إلى دار الخلود والنعيم المقيم بما بثوا من معارف وما اكتسبوا من قيم رمزية مؤداها العمل الشرعي النافع وخلاصاتها اليقين بالمصير في أبهي تصوراته وتجلياته... حقا رحل من قرأته وسمعت من أخباره ما تناقله الرجال جيلا عن جيل من أعلام الأمة وأعيانها وما بثه من علم طارت به عنقا مغرب إلى كثبان رملية بعيدة عن أي ضوضاء وأزيز للمدينة حيث تتعانق المصالح والدعة والترف مما يذكى نفوس الآدميين حول أي الوسائل أنسب والسريعة إلى العلياء والمجد دون مراعاة لأي عارض أو أمر قد يصعب عصا الترحال نحو الخلود والمقام الصوفي الآسر لمن رغب في الآجلة على العاجلة.
حقا تميز الشيخ يحيى بمميزات نادرة وهو المتميز في كل الأشياء المشار إليه بالبنان في كل فضيلة وعلياء مما يمكن عده وليس حصره في التالى:
▪ كان مجتهدا حين غاب الاجتهاد في بلاد المغرب الأقصى وبقي الناس أسرى للمتون وحفظها دون النظر إلى دلالتها المعرفية العميقة حيث النظر في القواميس والمعاجم اللغوية باعتبارها أساسا لكل تجديد ولكل محاولة جادة في سبيل بناء الانسان العام. ولم يقف نظره عند هذا البعد بل كان متقنا لعلوم القرآن مؤلفا متمكنا في أسانيده ورجالاته مما بثه في القلوب قبل العقول.
▪ ذاكرة قوية وحدس معرفي نادر في سياقنا حيث كان حافظا للمتون متمكنا من غرائبها وعجائبها مما مكنه من أن يكون راوية للتراث الاسلامي على اختلاف مشاربه وألوانه وتعدد مضامينه، عارفا بكل تمفصلات الحركة الشعرية الأدبية وما خلفت من تراث ثري ظل يدرس في محضرته الذائعة الصيت .
▪ بناء معرفي ناضج للانسان المعاصر بالأخذ بزمام الأمور في بناء النهضة المفقودة، حيث ساهم في هذا البناء من خلال الألق والتميز الذي تميزت به محضرته فى آليات التدريس ونوعية المادة المقدمة فيها وطبيعة من تخرجوا منها.
▪ حضرة صوفية مبتعدة عن كل مطلب دنيوي لا تتبنى أي غلو أو تطرف وهو أمر ينبع تماما من طبيعته وتعاليه عن كل أمر قد يمس من الانسانية في انسانيتها العميقة حيث يتساوى الجميع في طلب المعالى. تختلط فيهاالعلوم الظاهرة والباطنة لتكتمل المعانى والمعارف السامية بين النظري والتطبيقي في مزاوجة بين العلوم نادرة الوقوع في تراثنا.
حقا رحل عالم من أعلام الأمة الاسلامية حافظا لمتونها مدونا لها و عاملا بهاحين يندر العالم المثالي الموسوعي في كل الأشياء... حقا رحل من كان ينبوع صدق دافق للفكر الانساني الراقي في تعامله وتعاطيه مع كل مستجد طارئ يحتاج الفتوى من غير إجحاف ولا مواربة ليُعلم القول الفصل وليُسلم به بين النخبة الثقافية العالمة في هذا المجال. هي الدنيا فى تجاربها المرة تعلمنا أن الفناء سر الوجود وأن كل من عليها فان مهما بلغ مقامه ودرجاته في العلياء وإن بقي الذكر الحسن والفعل الجميل لعلماء الأمة مما يمكث في الأرض علما ثابتا يبث في الأمة المولعة بأخذ أسباب التقدم والرقي إلا أعالى المجد والتوفيق على قول ابن العربي: (اعلم أن التوفيق هو الباعث المحرك لطلب الاستقامة والهادي إلى طريق السلامة، ما اتصف به عبد إلا اهتدى ولا فقده شخص إلا تردى وأردى، فمبدؤه يعطيك الإسلام، وتوسطه يعطيك الإيمان، وغايته تعطيك الاحسان) ابن العربي، رسائل بن عربي، تحقيق سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي، ص. 264 وهي مرحلة بلغها الشيخ العالم المربي للأجيال الجامع لأبناء المجال دون تفريق إلا بالتقوى والعمل الحسن.
حقا رحل الشيخ يحيى مودعا تلالا وكثبانا رملية عرفته قارئا للقرآن لا يفتر عن الذكر والدعاء الصالح فيها منفقا من غير خشية فقر مما ظهر عيانا في دوحة علم وشرف بلغت الشأو والمكان البعيد مما يبقي ويمكث في الأرض فياضا في واد ذي زرع لا يتبدل ولا يتغير إلا أن يرث الله الأرض ومن عليها، ستبقي ذكراك باقية واضحة المعانى والدلالات تسير بها الركبان في مشارق الأرض ومغاربها حيث طائر الفينيق معبرا عنها وحزينا لرزء حل بالديار والمكان. فعلى روحك السلام و لتنعم بما أعد الله للمتقين من نعيم لا يزول ورحم الله السلف وبارك في الخلف.
الدكتور بابه ولد أحمد ولد الشيخ سيديا