تتهافت الدول على إبرام عقود امتياز Contrats de Concession مع شركاء خصوصيين ذوي ملاءة مالية وكفاءة فنية تجنبا للاستدانة من جهة وسعيا لتحقيق ما يوفره التسيير الخصوصي للمرافق الاقتصادية من أرباح ومزايا. ونظرا لحجم تمويل الموانئ ولانعكاساتها الاقتصادية تعد من أبرز تطبيقات الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتتم بتعهد المتعامل الخصوصي بتشييد منشأة مينائية يستغلها لمدة محددة تكفي لأن يسترد استثماره وهامش ربحه وعند انتهاء مدة الامتياز يُسلم مفاتيح المنشأة للجهة العامة التي تتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وقد تسندها له أو لغيره وفق شروط تسيير تراعي ما تم إنجازه بالفعل.
وتتحرى الدول في اختيار شركائها الخصوصيين وتضع شروطا تمكنها من اصطفاء مهنيين من ذوي السمعة والقدرة على إنجاز العمل وتسيير المنشأة وجذب المتعاملين ولكلِّ مجالِِ أعلامُهُ المقيدون في قوائم ريادة تتيسر مطالعتها لكل الراغبين.
وأتناول في هذا المقال مسطرة إبرام عقود الامتياز المينائية (1) وأضرب مثلا بتطبيقاتها في دول الجوار الجغرافي (2) قبل أن أعرض للإطار القانوني الموريتاني المنظم للشراكة بين القطاعين العام والخاص (3) وأخلص أخيرا للتعليق على صفقة رصيف الحاويات والمرسى البترولي لميناء انواكشوط، المثيرة للجدل (4).
1.
غالبا ما تنص التشريعات المعاصرة على منح عقود الامتياز بعد مسطرة خاصة يلاحظ أنها تتسم بالشفافية في مناطق سيادة القانون بينما يلفها الغموض ويتطرق لها الشك في المناطق التي لا يحتل فيها القانون مكان الصدارة.. ولأن الشركات الكبرى لا تنجذب للعمل إلا في ظل مناخ مستقر وخاضع لضوابط محددة سلفا فإنها تختار البلدان التي تتعامل معها على أساس مستوى الثقة الذي يتحدد بمدى احترام الالتزامات ومقتضيات النصوص.
وبغض النظر عن رقابة أجهزة متابعة الفساد أدرك كبار المتعاملين عدم جدوائية إقدام الشركات على التعامل بالرشوة والمحسوبية للحصول على صفقات مشبوهة في البلدان الهشة لاحتمال حدوث تغيير مفاجئ يعصف، بين عشية وضحاها، بما تحقق من مكاسب.
وتبدأ مسطرة إبرام عقود امتياز الموانئ غالبا بإعلان عرض دولي تليه المرحلة التمهيدية المتمثلة في فتح العروض أمام المتنافسين والتي تسفر عن منح الصفقة بناء على المعايير المحددة في العروض التي يتم اختيار أفضلها مع تسبيب أسس اختياره.. وبعد التعاقد تتخذ الدول احتياطات خاصة لمواكبة التنفيذ عن طريق رقابة الأشغال للتأكد من التزام المتعامل بالشروط التي تم التعاقد عليها والتي تقتضي غالبا أن يبلغ الإستثمار حجما معينا وأن يتم تشييد المنشآت طبقا لمواصفات محددة وكثيرا ما تعاقدت الدول في ذلك مع مكاتب رقابة مختصة.. وعندما تنتهي الأشغال ويبدأ الاستغلال يكثف الطرف الخصوصي جهوده للاستفادة القصوى من المشروع قبل انقضاء مدة الامتياز بينما تتكفل السلطات بالمتطلبات الأمنية: وإذا كانت الدول تقبل إسناد تسيير منشآتها الإقتصادية للخصوصيين لأنهم أقدرُ على المنافسة وتحقيق المكاسب والأرباح إلا أنها قلما تساوم في الأبعاد الأمنية المرتبطة بالسيادة.
2.
ومن أمثلة الشراكات بين القطاعين العام والخاص في محيطنا الجغرافي: وقع السنغال، سنة 2008، عقد امتياز مع شركة موانئ دبي العالمية Dubai Port World
يتعلق باستغلال ميناء داكار لمدة خمسة وعشرين عاما وتنفيذا له عملت DP WORLD على زيادة العمق البحري عند مرسى الميناء إلى 15 مترا مما مكنه من استقبال حاملات حاويات Porte Conteneurs ذات سعة كبرى (وليست الأكبر) وشُيدت في إطار العقد أرصفة ومُهدت مستودعات جديدة مما انعكس إيجابا على نشاط الميناء الذي تضاعف عدد الحاويات التي تفرغ أو تتم مسافنتها transbordement أو تودع مؤقتا على أرضيته قبل أن يتم شحنها لوجهة أخرى.. وبينما انقضى نصف فترة العقد ترتفع أصوات المجتمع المدني السنغالي مطالبة بتدقيق الحسابات لمعرفة نتائج عقد الإمتياز المذكور.. وما إن تحقق هذا الإنجاز حتى بدأ الطموح يراود السنغاليين ويحدوهم للتطلع لإنشاء ميناء جديد ذي مَراسِِ ذات لجة أكبر عمقا ورافعات أكثر تطورا وبأرصفة أفسح.
وفي سنة 2005 أبرم المغرب عقد امتياز مع شركة APM TERMINALS التابعة لمجموعة A P MOLLER MAERSK الدنماركية لمدة ثلاثين عاما كما أبرمت السلطات المغربية مع APM ومع غيرها عقود امتياز لاحقة بهدف توسعة ميناء طنجة TANGER MED الذي يبلغ العمق عند مراسيه 18 مترا مما يمكنه من استضافة كافة السفن التجارية وأهله لأن يصبح الميناء الأول إفريقيا باعتبار عدد الحاويات التي تُفرغ فيه وقد ساعده موقعه المتميز على مضيق جبل طارق ولكن التحدي، الذي رفعه المغاربة والذي يستحق التثمين، هو تطوير ميناء طنجة حتى تمكن من تقاسم كعكة الملاحة المتوسطية - الأطلسية مع ميناء الجزيرة الإسباني المقابل.
وجدير بالملاحظة أن شركتي موانئ دبي العالمية و APM TERMINALS مصنفتان ضمن شركات الموانئ الرائدة عالميا وأن كلا منهما مدرجة في قائمة الخمسة الأوائل على الصعيد الدولي.
3.
وفيما يتعلق بالإطار التنظيمي في موريتانيا صدر القانون رقم 006-2017 بتاريخ 1 فبراير 2017 المتضمن لقواعد الشراكة بين القطاعين العام والخاص الذي وضع الضوابط التي تحكم شراكة القطاعين ومن أهم ما ينص عليه قانون PPP (وهي اختصار لعبارات Partenariat Public Privé) ما تضمنته الفقرة الأولى من مادته العاشرة:
"تقوم قواعد إبرام الشراكة بين القطاعين على مبادئ حرية النفاذ إلى الطلبية العمومية وعلى مساواة المرشحين في المعاملة وعلى شفافية المساطر.".
كما تنص الفقرة الأولى من مادته 14 على ما يلي:
"يجب أن تلتزم إجراءات إبرام عقد الشراكة بين القطاعين بالمبادئ العامة المبينة في المادة 10 من هذا القانون. وتتأكد اللجنة الوطنية لمراقبة الصفقات العمومية من تقيد اللجنة الفنية للدعم والسلطات المتعاقدة بهذه المبادئ وبأحكام هذا القانون من طرف اللجنة الفنية للدعم والسلطات المتعاقدة".
4.
على الرغم من عدم توفر الظروف الملائمة لإنضاج الإطار التنظيمي وعدم تمهيد سبل التعامل بين القطاعين العام والخاص في موريتانيا تسرعت السلطات - ممثلة في لجنة وزارية تضم الوزير الأول وسبعة وزراء - بتوقيع ما اعتبرته عقد الامتياز الأول المبرم بالشراكة بين القطاعين العام والخاص ويتعلق بالصفقة المعروفة ب"صفقة رصيف الحاويات" التي منحت بموجبها الدولة امتيازا، مثيرا للجدل، في ميناء انواكشوط لشركة تدعى ARISE MAURITANIE S.A لم تكن حتى حصولها على الصفقة معروفة ويبدو أنها متفرعة عن مجموعة اقتصادية سنغافورية الأصل تنشط في دولة الغابون تدعى OLAM لا يعرف عنها التبحر في قطاع النقل والموانئ وإنما اشتهرت بالاستثمار في مجال المنتجات الزراعية ويكاد تواجدها يقتصر على دولة الغابون حيث تتهم باكتساح الصفقات العامة على خلفية توظيفها لعلاقة خاصة مع الرئيس الغابوني عالي بونغو أوديمبا الذي كان ابنه نور الدين في مقصورة قيادة OLAM منذ سنة 2014!
وبغض النظر عن المستفيد من صفقة رصيف الحاويات بميناء انواكشوط وعمن يقف وراءها يبدو أن الغموض يكتنفها مما رشحها لأن تكون ضمن الملفات المشمولة في جدول أعمال لجنة تحقيق برلمانية خاصة.
ويبدو من أوراق الصفقة وملابساتها أنها خرقت قانون PPP حيث تمت دون إعلان مناقصة كما لا يخفى أن إجراءاتها اكتملت في وقت قياسي مُريب لا يعدو سبعة عشر يوما عدا من مبتدئها وحتى منحها الذي صدر عن لجنة وزارية تضم بالإضافة للوزير الأول سبعة وزراء أصدروا قرارهم (الصورة) يوم الجمعة 5 أكتوبر 2018 !! ومن المثير للاستغراب أن قرار المنح غير المرقم لم يذكر في حيثياته دعوة للمنافسة وإنما استند على اجتماع لجنة وزارية أورد أنها التأمت يوم 18 سبتمبر 2018 وعلى مذكرة مفاوضات ذُكر أنها وُقعت في اليوم الموالي (بتاريخ 19 سبتمبر 2018)!! وإلى محضر اجتماع مجلس الوزراء في دورة انعقدت بتاريخ 27 سبتمبر 2018 ذكر محضرها منح عقد امتياز متعلق بمستودع حاويات ورصيف بترولي بميناء انواكشوط دون ذكر للأسباب ودون تحديد للمستفيدين!! ومن اللافت أيضا أن اللجنة الوطنية لمراقبة الصفقات العمومية أجازت الصفقة يوم ورودها عليها أي بتاريخ 3 أكتوبر 2018 - كما يبدو من محضرها رقم: 49/CNCMP/2018، بيومين قبل صدور قرار اللجنة الوزارية!!
وبينما تشرئب أعناق الرأي العام الوطني إلى اللجنة البرلمانية رغبة في أن تشفي الغليل وترفع اللبس المتعلق بعقد امتياز استثنائي حظي بتيسير كبير وعناية خاصة!! وعلى الرغم من كون العقد أبرم على عجل إلا أن آثاره قد تكبل ميناء انواكشوط على مدى ثلاثين عاما.
والملاحظ أن هذا الامتياز أقرب، من حيث ملابسات إبرامه، لصفقات التراضي التي تضم غالبا بندا متعلقا بالخصوصية Clause de Confidentialité، بعكس عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص المحكومة بضوابط قانونية ترتكز على العلنية والشفافية..
وإذا ثبت أن خروقا بالغة اكتنفت إبرام عقد الامتياز المذكور فمن المشروع التطلع لإلغائه وإعلان مناقصة دولية لاختيار شريك مؤهل لإنشاء واستغلال ميناء موريتاني جديد يمكن أن يشكل منارة (Phare) في المنطقة وأن ينافس ميناءي داكار وآبدجانه على كعكة باماكو..
إن من المؤسف أن نلاحظ أن موريتانيا على الرغم من شواطئها الممتدة لا تملك منشأة مينائية قادرة على استقبال السفن البحرية الكبرى لأن العمق على مستوى مراسي ميناء انواكشوط لا يعدو أحد عشر مترا (11) أما ميناء المنطقة الحرة المغلقة فلا يعدو العمق عند مرساه تسعة أمتار (9) وبالتالي تمر طرق الملاحة البحرية بعيدا ولا تتجه إلى برنا إلا السفن الصغرى أو المتوسطة ولذلك السبب من المشروع أن نطمح في موريتانيا إلى تشييد ميناء كبير وقادر على المنافسة والإستحواذ على نصيب كبير من الواردات المتوجهة لجمهورية مالي المجاورة (التي لا تتوفر على منفذ بحري) مما يتطلب علاوة على تشييد الميناء التفكير في مد طريق باتجاه مالي يمكن أيضا تشييده بالشراكة مع القطاع الخاص.
ولكن قبل هذا يتعين أن تدرك السلطات الموريتانية أن من واجبها أن تباشر العمل على تفعيل نصوص القانون لأنه لا مُعوَّل على مستثمر يقبل العمل في دولة لا تحترم نصوصها.