لقد كتبتُ مع بداية العام 2018 سلسلة من المقالات عن فرصة 2019، وكنتُ من الذين حثوا المعارضة على ضرورة التحضير المبكر والجيد لانتخابات 22 يونيو الرئاسية، وذلك من أجل استغلال الفرصة التي ستتيحها تلك الانتخابات للوصول إلى الرئاسة، ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فلا أخفيكم بأني كنتُ من الذين استبشروا ـ بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات ـ بفوز المرشح المحسوب على النظام.
قد لا يستوعب البعض هذا الموقف والذي قد يبدو متناقضا في ظاهره، ولرفع اللبس فأذكر بأن الحالة الموريتانية في انتخابات 2019 كانت تتشابه كثيرا مع الحالتين المصرية والتونسية في فترة الانتخابات التي تم تنظيمها من بعد ثورات الربيع العربي. لقد فاز محمد مرسي رحمه الله في أول انتخابات تم تنظيمها في مصر من بعد الثورة، وكنتُ من الذين دعموه عن بعد، ولكن ما حدث بعد ذلك جعلني أتساءل: ألم يكن من مصلحة مصر وديمقراطيتها المتعثرة أن يفوز أحمد شفيق بالرئاسة؟ الراجح أن فوز أحمد شفيق وهو ابن الدولة والنظام كان سيجنب مصر الانقلاب الذي قاده السيسي، فأحمد شفيق يعرف كيف يحمي نفسه من فلول نظام هو أحد أبنائه، وكان فوزه سيمكن في نفس الوقت من تحسين حال مصر على المستوى الديمقراطي ..صحيح أن ذلك الفوز قد لا يحقق طموح ومطالب الثوار، ولكنه مع ذلك كان سيسير بمصر في الاتجاه الصحيح، وكان سيطور ـ وبشكل آمن ـ من ديمقراطيتها.
فاز محمد مرسي وارتكب بعض الأخطاء لنقص في التجربة، وتآمرت عليه الدولة العميقة، وتم في نهاية المطاف الانقلاب عليه، وكان في المحصلة أن جاء الرئيس السيسي وأدخل مصر في نفق لا أحد يعرف متى ستخرج منه، وأصبح المصريون في عهده يتمنوا عودة حسني مبارك والذي كانوا قد أسقطوا نظامه من خلال ثورتهم.
كاد نفس الشيء أن يحدث في تونس التي فاز برئاستها من بعد الثورة المنصف المرزوقي وهو من خيرة المناضلين العرب. كانت الفترة التي قاد فيها المرزوقي تونس فترة مليئة بالمشاكل والاغتيالات، وكانت أكثر سوءا من الناحية الأمنية والمعيشية من فترة السبسي الذي سيأتي من بعده، والذي يصنف بأنه أحد رجالات الأنظمة السابقة في تونس.
إن المتأمل الفطن في الحالة المصرية والتونسية من بعد ثورات الربيع العربي لابد وأنه سيدرك مدى أهمية فوز مرشح محسوب على النظام بشرط أن يكون ذلك المرشح يحمل مشروعا إصلاحيا جديا، فمثل ذلك المرشح سيكون هو الأقدر على قيادة مرحلة انتقالية تكرس مبدأ التناوب السلمي على السلطة، وسيكون كذلك هو الأقدر على إحداث تغيير آمن يشكل بداية حقيقية لانتقال ديمقراطي آمن.
الظاهر ـ وهذا ما يمكن قوله الآن وبكل اطمئنان ـ بأن الحالة الموريتانية هي أشد تعقيدا من الحالتين المصرية والتونسية بعد الثورة، ومن الراجح بأنه لو كان الفائز في انتخابات 22 يونيو 2019 أحد المترشحين المحسوبين على المعارضة لواجه ذلك المرشح الفائز من المشاكل والمكائد والأزمات المفتعلة أكثر مما واجه محمد مرسي في مصر والمنصف المرزوقي في تونس بعد فوزيهما في الانتخابات الرئاسية في بلديهما. ولو كان لمرشح فائز أن يسلم من حملات التشويش القادمة من جهات داخل النظام لسلم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وذلك لأنه من جهة هو الصديق الأقرب والأكثر وفاء للرئيس السابق، ومن جهة ثانية فهو رجل المؤسسة العسكرية.
على الرغم من تلك الميزات المطمئنة التي يتمتع بها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني فإن أيامه الأولى في الرئاسة لم تسلم من حملات تشويش ومن محاولات إرباك قادمة من جهات داخل النظام، وربما تستمر تلك الحملات في الفترة القادمة، ولذا فإنه قد أصبح من الضروري جدا أن يدفع بعنوان جديد للنزال السياسي في المرحلة القادمة.
إن الصراع السياسي في الأشهر القادمة يجب أن يخرج عن فضاء الصراع التقليدي بين الموالاة والمعارضة، وذلك حتى يستجيب لضرورات المرحلة، والتي لا شك أنها تحتاج إلى الكثير من اليقظة، وإلى مستوى عال من النضج السياسي.
إن الصراع السياسي في الأشهر القادمة يجب أن يكون بين طائفتين : طائفة تعمل على تكريس مبدأ التناوب السلمي على السلطة، وحماية المسار الديمقراطي من أي عملية إرباك قد تعود به إلى الوراء، وطائفة أخرى ستحاول أن تربك المشهد وأن تشوش عليه من أجل تهيئة الظروف للالتفاف على أهم مكسب ديمقراطي حصل عليه الموريتانيون بشق الأنفس، ألا وهو مكسب التناوب السلمي على السلطة.
إن رفع أي عنوان آخر للصراع السياسي في الأشهر القادمة، حتى ولو كان في إطار الصراع التقليدي بين الأغلبية والمعارضة سيكون دليلا على عدم النضج السياسي، وعلى عجز لدى النخب في القدرة على فهم حساسية وخطورة اللحظة السياسية التي تمر بها بلادنا في أيامها هذه.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل