"سورياليّ" المشهدُ في روسيا بعد التمرّد الذي نفذتهُ مجموعة "فاغنر" العسكريّة الخاصة ضدّ وزارة الدفاع في البلاد، أمس السبت. الواقعة كانت مُفاجئة وغير متوقعة، وعلى مدى ساعات، إنشغل العالم بـ"إنقلاب عسكري" حصل من دون "إشتباكات عسكريّة واضحة"، فيما قيل أن هناك مناطق وقعت تحت سيطرة المتمردين أبرزها روستوف.
ووسط الأنباء الواردة من كلّ حدبٍ وصوب، قيلَ إنَّ قوات "فاغنر" عقدت العزمَ على التوجه نحو موسكو، إلا أنّ بيلاروسيا دخلت على خطّ الأزمة بشخص رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، وبإتصالاتٍ أجريت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقائد "فاغنر" يفغيني بريغوجن، تحققت الوساطة وجرى تحصين موسكو من السقوط. بعدها، أعلن بريغوجن أنه وحقناً للدماء، طلب من قواته العودة إلى قواعدها العسكريّة، ليُعلن الكرملين إثر ذلك أن رئيس مجموعة فاغنر سيُغادر إلى بيلاروسيا بعد إسقاط الملاحقات الجنائية بحقه، في حين أنه لم يتم مقاضاة المُقاتلين. وعقب كل ذلك، غادرت قوات "فاغنر" روستوك وانتقل قائدها إلى بيلاروسيا.
حقاً، هذا هو مُلخص لأبرز أحداث "التمرد الفاغنري" في روسيا خلال يوم أمس السبت، واللافت أنه انتهى بـ"أقل خسائر" ممكنة. من يقرأ خطاب بوتين عقب ما حصل صباح السبت وقوله إنه سيوقف التمرّد وسيضربه بقوة وسيحبط المساعي لجر روسيا إلى حرب أهلية، سيعتقد أن المعارك ستكونُ بأوجها، لكن ذلك لم يحصل أبداً. كذلك، من تابع مجريات الأحداث، سيصل إلى سلسلة من الإستنتاجات وهي على النحو التالي:
1- في حال كانت "فاغنر" تريد الإطاحة ببوتين، عندها سيكون المشهد مختلفاً تماماً. لو كانت هناك نيّة في ذلك حقاً، لكانت المعارك احتدمت ولكان الجيش الروسي قاتل بشراسة لإنهاء القوات المتمرّدة ميدانياً. لكن ما جرى كان عكس ذلك، فصحيحٌ أنه حُكيَ عن إسقاط طائرات عسكرية للجيش الروسي من قبل "فاغنر"، إلا أنه لم يجر الإعلان عن معارك سوى في فورونيج وروستوف، وبالتالي لم تحصل مواجهات مُعلنة بشكل كامل وواضح في مناطق عديدة أخرى.
هنا، قد يكون هذا الأمر مؤشراً على أنه كان هناك قصدٌ واضح في عدم الإنتقال إلى مرحلة الإستنزاف بين الطرفين، ومن الممكن أن تكون تلك الخطوة مقدّمة لـ"حلحلة" على قاعدة أن الإقتتال الروسي – الروسي لا يُجدي نفعاً، لأن التبعات ستكون كبيرة. هنا، قد يكون هذا الأمر من مصلحة بوتين بالدرجة الأولى، لأنّ الإنغماس في معركة داخلية وسط الحرب ضد أوكرانيا سيعني إنهاكاً أكبر للجيش الروسي.
2- الحربُ على روسيا والصراع المحتدم معها قد لا يحتاجُ إلى مؤامراتٍ ضدّ بوتين من الغرب، فالصراع بين الأقطاب كافٍ ووافٍ لوجود حرب مباشرة ضدّ الرئيس الروسي. كذلك، فإنّ الدول الغربية قد لا تكون بحاجة إلى مجموعة "مرتزقة" روسية لمهاجمة بوتين، لأنها تعلم أن حصول ذلك سيعني إنكساراً لموازين القوى العالمية ودخول عدد من البلدان في صراعٍ كبير سيتخطى حرب أوكرانيا بهدف "نُصرة بوتين"، والدليل على ذلك انخراط الشيشان في المعركة.
إنطلاقاً من ذلك، يمكن أن يكون بريغوجن قد تلقى إشارات بضرورة الإنصياعِ للتهدئة فوراً، فلا مصلحة بالتصعيد، والكفالات البيلاروسية بإنتقاله إليها كافية لإنهاء دوره العسكري وتجنيب مقاتليه أي محاكمة. وفعلياً، لو حصلت أمور عكس ذلك، أي أنه في حال قرّر بريغوجن مواصلة القتال، عندها كان يمكن القول أنّ نظام بوتين مهدد هذه المرة بشراسة لا توصف. لكنه في الوقت نفسه، قد تكون من مصلحة الدول الغربية والولايات المتحدة حصول توترات في الداخل الروسي من خلال حربٍ أهلية، باعتبار أن هذا الأمر قد يؤثر على صمود بوتين ويُودي بنظامه إلى التزعزع الأكبر.
3- في الواقع، فإن ما فعله بريغوجن كان بمثابة ضربة كبيرة في عُقر دار النظام الروسي، فالرجل المذكور تجرّأ على مواجهة الرئيس الروسي وتحدّيه، و"الطحشة" العسكرية باتجاه موسكو ألهبت الأجواء كثيراً. في الواقع، من الممكن أن يكون تقدّم قوات "فاغنر" والخطر الذي أظهرته، بمثابة إنذارٍ كبير لروسيا باللجوء إلى الحلول الأخرى البعيدة عن المواجهة العسكرية، لأنه من الممكن أن يكون الإنهاك في حرب أوكرانيا عاملاً مساهماً في إضعاف البنية العسكرية الروسية داخل البلاد، وبالتالي "تزعزع" بنية الإستخبارات الروسية. هذا السيناريو قد يكون وارداً بشدة، وقد يكون الضعف المتوقع في قوة الردع الروسية هي التي دفعت بوتين إلى التسوية تجنباً لأي تدهورٍ أكبر.