نهضة الأمة: الأسس والأسئلة والإشكالات وسبل الانطلاق.. 

اقتضت سنة اللـه في خلقه صعود حضارات وأفول أخرى، والأمة التي تسقط أو يتراجع عطاؤها قد تندثر وتصبح جزءا من التاريخ لكنها قد تسترجع مكانتها إذا أخذت بشروط النهضة وبمقوماتها..

فما هي النهضة ؟

عرفها هشام جعيط بأنها تلك الحركة الضخمة الهائلة التي تولدت إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر في المجال الشامي وامتدت حتى أواخر هذا القرن (العشرين).

أما الدكتور جاسم سلطان فقد عرفها بأنها أفكار حية تتنزل على بيئة ركود تثير هذه البيئة وتفعلها. 

ويمكن أن نحاول تعريفها بأنها اتخاذ خطوات جادة وفق خطة علمية لتصحيح اختلالات معينة في مسيرة أمة لاسترجاع مجد ضائع أو بناء مجد جديد يغطي جميع مجالات الحياة وفق مقتضيات العصر بما يجمع خيري الدنيا والآخرة.

 

كيف بدأت نهضة الأمة في العصر الحديث؟

يذهب بعض المؤرخين إلى أن بداية النهضة كانت مع الحملة الفر نسية، بل ويذهب بعضهم إلى أن كل التيارات على اختلاف مشاربها سواء كانت قومية أو يسارية أو دينية قد تأثرت بمبادئ الثورة الفرنسية التي حملها غزو بونابارت لمصر، وإن كان بعض المؤرخين يستثني الحركة الوهابية من التأثر بالحملة الفرنسية لأنها ظهرت 40سنة قبل الثورة الفرنسية (1 ).

ولابد هنا من التنبيه إلى أن الحركة الوهابية أو السلفية قد يصعب تصنيفها، حسب تصوري، حركة نهضة وإنما يمكن النظر إليها بصفتها حركة إصلاح ديني، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما جاءت به من أفكار، ينصب تركيزها على العقيدة دون الاهتمام كثيرا بالمجالات الأخرى التي لا يمكن الحديث عن نهضة حقيقية دونها كالبناء السياسي والحريات والجوانب العلمية والتقنية واحترام الاستقلال الفكري لطوائف الأمة.

أخذت النهضة أبعادا أدبية ولغوية واقتصادية وسياسية واجتماعية. 

هناك نهضتان: نهضة لغوية وأدبية انطلقت من الشام وسميت إحياء ونهضة تنويرية جمعت إلى جانب الإحياء اللغوي والأدبي، الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكانت انطلاقتها  في مصر.. ( 2 )

إن الحديث عن النهضة يقتضي طرح سؤال كبير هو: لماذا لم تنهض الأمة رغم أنها قادرة على ذلك، ولعل أبرز سؤال معاصر حول النهضة هو ما طرحه المفكر شكيب أرسلان حول الموضوع الذي حوله إلى كتاب نشر سنة 1930 وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ 

جاء الكتاب ردا على رسالة وجهها محمد بسيوني عمران من جاوة (أندنوسيا) بتاريخ 21 ربيع الأول 1348هـ إلى رشيد رضا لعرضها على أرسلان.

جاء في مقدمة الرسالة: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإن من قرأ ما كتبه في المنار وفي الجرائد العربية العلامة السياسي الكبير أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة المختلفة المواضيع، عرف أنه من أكبر كتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار وصاحبه في خدمة الإسلام والمسلمين، وإني أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما الشريف في خير وعافية — كما أرجو من مولاي الأستاذ صاحب المنار أن يطلب من هذا الأمير الكاتب الكبير أن يتفضل علي بالجواب عن أسئلتي الآتية؛ وهي:

ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو) من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معًا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). 

جاء في مقدمة رد شكيب أرسلان : )إن الانحطاط والضعف اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب للغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطرًا.وبالإجمال حالة المسلمين الحاضرة ولا سيما مسلمي القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح، لا ترضي أشد الناس تحمسًا بالإسلام وفرحًا بحزبه، فضلًا عن غير الأحمسي من أهله(.

ذهب بعض المفكرين إلى أن أرسلان صاغ إشكالية النهضة بتعبير وصاغ بعض المفكرين هذا السؤال كل بطريقته كما بين ذلك زكي الميلاد عندما قال: (إن تساؤل روجيه غارودي: لماذا الحضارة الأوروبية استمرت والحضارة الإسلامية انقطعت؟ يحدد الكلمات الدلالية في تفسير هذه القضية في كلمتي (الاستمرار والانقطاع)، وفي تساؤل الدكتور البوطي: لماذا تحجرت الحضارة الإسلامية وازدهرت الحضارة الغربية؟ تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي (التحجر والازدهار)، وفي تساؤل الدكتور جعيط: لماذا تمدن الآخرون وتأخرنا نحن؟ تحدَّدت الكلمات الدلالية في كلمتي (التمدُّن والتأخُّر)، وفي تساؤل هاشم صالح: لماذا تقدمت أوروبا وتأخر غيرها؟ تحددت الكلمات الدلالية في كلمتي (التقدم والتأخر). ( 3 )

هل من مقومات لنهضة الأمة؟

مقومات النهضة والحضارة كثيرة منها ما هو عام مشترك بين البشر والأمم ومنها ما هو خاص بأمم دون أخرى، فالمقومات العامة تشمل الإنسان والأرض والوقت فهذا متاح للجميع، أما المقومات الخاصة فتتعلق بالتاريخ والتراث والبناء الحضاري والثقافة بما فيها الدين وهذه المقومات لأمتنا منها النصيب الوافر.

ولم أر في عيوب الناس شيئا ** كنقص القادرين على التمام

مسألة المقومات هذه تعرض لها مالك بن نبي في خماسيته المعروفة: الإنسان والتراب والوقت   وتفعيل هذه الثلاثية يستلزم حركتين للعقل عند مالك بن نبي  : فكرة ناظمة  أي الفكرة الدينية التي 

يعبر عنها بالروح الدينية التي يشرحها بقوله: "ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء".

 والفكرة الدينية هذه عرفها علي عزت بيقوفتش بأنها تطلع الإنسان للتسامي على المادة بحثا الحرية والكرامة أو البحث عن الآخرة والجمال ووصفها أيضا التسامي الأخلاقي.

وأهمية البعد الديني والأخلاقي في بناء الحضارات أنه بمثابة الكابح الذي يمنع الإنسان من البطش والطغيان. فقد يتمكن الإنسان من بناء حضارة مادية علمية متينة كما هو الحال في عصرنا الحاضر لكن غياب الوازع الديني والأخلاقي عن هذا البنيان الحضاري أعاد الإنسان إلى عهد قانون الغاب حيث يأكل القوي الضعيف دون رحمة كما نشاهد اليوم.

هل نهضت الأمة ؟

الحديث عن نهضة الأمة يقتضي التفريق بين منظورين للنهضة، النهضة بمفهوم " التنويريين" الذين يريدون اتباع الغرب فكرا وقيما وثقافة ومناهج في الحياة ويسعون أيضا لإلغاء التراث أو على الأقل التشكيك فيه مع التفاوت في الطرح، والنهضة من منظور "التراثيين" الذين يسعون لإحياء تراث الأمة بدينها وثقافتها وتاريخها ويرفضون التسليم للقيم الغربية مع تفاوت في الطرح والتفاصيل أيضا.

إذا ألقينا نظرة سريعة على تاريخ الأمة المعاصر يمكن أن نلاحظ أن ما يسمى بالنهضة لم يتجاوز في أحسن الأحوال حراكا فكريا عالج بعض الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون أن يجد ترجمة حقيقية على أرض الواقع من بناء نهضة علمية ونظام سياسي مؤسسي ولا حريات ولا بنى تحتية ولا تأمين حياة كريمة للسكان، بل الأدهى من ذلك هو ما نشاهده من تراجع عن تباشير النهضة وانكفاء الأمة على نفسها وانشغالها إما بحروب أهلية مدمرة أو حروب باردة ذات طابع "فكري" تقتل الإبداع وتصرف الناس عن الأولويات الحقيقية هذا مع استباحة الأعداء للأمة حيزا ترابيا ووصاية فكرية وسيطرة سياسية وأمنية وهيمنة اقتصادية.

ويمكن أن نقول إجمالا إن تجربة الأمة خلال ما بعد الاستعمار كانت إما فشلا ذريعا أو هدما وترديا على جميع المستويات سواء تولى الأمر القوميون أو الإسلاميون أو اليساريون أو الليبراليون مع الحاجة إلى بعض التفصيل حسب كل حالة، هذا على الأقل بالنسبة للمنطقة العربية. ولا ننكر نجاح دول في مجالات معينة مثل ماليزيا وتركيا وباكستان وأندونوسيا.

يحدد الدكتور جاسم سلطان أربعة أشياء لا بد منها للحديث عن ثمار حقيقية للنهضة:

- إنتاج هوية مشتركة: وهذه مسألة مهمة عند تعدد الأعراق والمذاهب والطوائف لأن هذه الهوية المشتركة هي مطية السلم الاجتماعي والعمل المشترك. 

- الانتقال بالعلم من الاستهلاك إلى الإنتاج أي وجود مردود عملي في الحياة.

- اتساع سبل العمران: حقوق الانسان، النظام السياسي...

- تحقيق الاكتفاء الذاتي: من الغذاء ووسائل الدفاع عن النفس...

فأين الأمة من كل هذا ؟

لماذا لم تنهض 

أشرنا آنفا إلى رسالة شكيب أرسلان التي حدد فيها سبب تأخر الأمة وتقدم غيرها دون الدخول في تفاصيل الأسباب التي ذكرها. ومع أن الظروف تغيرت كثيرا بعد ما كتبه المفكر شكيب فإن تلك الأسباب ما زالت قائمة لكنها تعززت بأسباب أخرى.

ويمكن إجمال بعض أسباب ترهل النهضة أو فشلها فيما يلي:

- أزمة فكرية حادة تتجسد على أكثر من مستوى مثل: تدني الوعي بمفهوم الأولويات، والانشغال بأمور هامشية على حساب القضايا الكبرى مع خلل كبير في التصورات.

- الاستعمار (الاستخراب)  بأشكاله المختلفة 

- احتلال إسرائيل لفلسطين وغيرها من البلدان العربية

- الاستبداد ونظم الأحكام الجمهورية الفردية التي أشبعت الناس شعارات وادعاء للثورة دون ثمار حقيقية وآل بها الأمر إلى توريث السلطة للأبناء.

يذهب الدكتور جاسم سلطان إلى أن الرموز الكبيرة- البطل المنقذ-  في مراحل النضال العربي خذلت الجماهير فولدت التنظيمات ذات التوجهات المختلفة التي آل أمرها إلى العجز وردود الأفعال : (لقد عاش العالم العربي الإسلامي حالما بالبطل المنقذ وتشبث برموز كبيرة عبر مراحل النضال العربي في سبيل الاستقلال ، ولكنها خذلته ، دعا صلاح الدين والمعتصم فلم يستجيبا له، يمم بعدها وجهه شطر فكرة التنظيم المنقذ، وولدت التنظيمات الشيوعية والقومية والإسلامية ، وانضم الناس وخاصة الشباب إليها باعتبارها سبيل الخلاص، فأصبحت هي بذاتها بحاجة لمخلص، ودخلت دائرة العجز وردود الأفعال، فامتصت طاقات الشباب ولم تنتج فيهم حراكا، ومن رحم الإحباط غيرت الجماهير وجهتها لفكرة المجتمع المنقذ، وساعد على توليد العالم الافتراضي بتنوع مدخلاته وحركة الحرية فيه وسرعان ما انتقل من عالم افتراضي إلى عالم حقيقي...).  ( 4 )

 

فالدكتور جاسم هنا يرى أن تجربة النضال العربي سواء من خلال "البطل المنقذ" أو من خلال التنظيمات كلها فشلت في بناء نهضة حقيقية أو في تغيير أوضاع الأمة إلى الأفضل لذلك توجه الناس إلى مرحلة "المجتمع المنقذ".

أما برهان غليون في قراءته لأداء بعض الأنظمة العربية فقد ذهب إلى أن الحركة القومية حرمت نفسها من منبعين عظيمين للتطور والتغيير، منبع الفكر وحرية الفكر، ومنبع التنمية الاقتصادية والتصنيع السريع المتكامل والضروري وجزم بانهيار النظام القومي بعد هزيمة 67: 

(..بيد أن النظام القومي العربي الذي استند بشكل رئيس إلى العمل السياسي ونهل من قيم القومية والحرية الوطنية والعداء للاستعمار وللإمبريالية واستمد منها أكثر مشروعيته، حتى صارت السياسة نهضة والنهضة سياسة، بدا في الوقت ذاته شكوكا في المبادرة العقلية والإيديولوجية، يفضل برقيات التأييد وإظهار الولاء على الحرية الفكرية والنقد البناء وإحياء القيم المبدعة والإنسانية المستمدة من الحاضر أو من التراث، بل ميالا الى محو كل ما سبقه، وخاصة مكتسبات النهضة الفكرية الأولى، كما بدا ضعيف التقدير لأهمية العوامل الاقتصادية ومشاكل الاستقلال الاقتصادي والتنمية. ولم يقبل من الفكر والإيديولوجيا الا ما يدعم مركزه السياسي ولم يقم في مجال التنمية إلا بما يقوي من مركزه الاجتماعي ويحفظ له قاعدة الولاء التقليدية أو الجديدة، فبنى نظامه الفكري على الدعاية الإيديولوجية الضيقة وأشاد اقتصاده على تنمية برغماتية فاقدة للهدف البعيد وللاتساق الذاتي. وكان لابد له أن يمحور ذلك كله حول بناء شخصية القائد أو الزعيم ورعايتها. هكذا حرمت الحركة القومية نفسها من منبعين عظيمين للتطور والتغيير، منبع الفكر وحرية الفكر، ومنبع التنمية الاقتصادية والتصنيع السريع المتكامل والضروري. وما أن ضعف مركز الزعيم الأول وتأثرت سطوته نتيجة للإخفاقات التي واجهها في صراعه السياسي للانفصال السوري المصري  سنة 61 وحرب اليمن وهزيمة 67، حتى فقدت هذه الحركة زخمها ومصدر تقدمها، وبدأت تظهر تناقضاتها وآل الأمر الى الصراع على الزعامة بسبب الانقلابات وكان ذلك إعلانا بانهيار النظام القومي ونهايته، وبانهيار هذا النظام عدنا الى عصر الأزمات المفتوحة).  ( 5 ) 

 

  أما الشيخ محمد الغزالي فقد أرجع المسألة إلى تباعد المسلمين عن معرفه وفهم توجيهات دينهم في ميادين السياسة والاقتصاد وعلوم مجتمعهم، وإلى فقدان العبادات لروحها وسقوط الأخلاق من على عرشها، والى انتشار العصبيات وتأثيرها العنيف على الدعوة الإسلامية، إلى جانب محاولات النفخ في الرماد من خارج العالم الإسلامي، بهدف تحقيق وترسيخ هذا التأخر والتخلف عن سائر الأمم مما أدى الى ضياع أجيال ضحيه هذا العجز. ( 6 )

وينبه الشيخ الغزالي أن من أسباب تأخر الأمة أيضا ما أسماه الفكر الديني المغشوش الذي يتعصب لرأيه، ويهاجم كل من خالف هذا الرأي ويصفه بأنه خارج عن السنة؛ ويذكر أن زعيم السلفية الأسبق في مصر الشيخ حامد الفقي حلف بالله أن أبا حنيفة كافرٌ، ومثل لهذا النهج أيضا بمحاضرة أُقِيمَت في مقر السلفية في حي الزيتون بالقاهرة تحت عنوان: أبو حامد الغزالي الكافر.

أما المفكر عبدالحميد أبو سليمان فيرجع التدهور الذي أصاب أوضاع الأمة إلى غفلة المسلمين بعد عهد النبوة عما قرره القرآن من مبادئ ثابتة لإقامة أنظمة المجتمع السليم ومؤسساته الحيوية، وما حث عليه من وجوب الاجتهاد والتجديد متى اقتضت الضرورة ذلك، وهو يرى أن أبرز تلك المؤسسات هي مؤسسات الشورى، أداة الأمة في حكم نفسها بنفسها، ولكن الممارسة التاريخية أفرغت هذا المفهوم من محتواه القرآني، واستبدلته بتصور سلطاني اختزلته في النصح وجعلته بمثابة المكرمة التي يتفضل بها الحاكم على من يشاء..

 

كيف السبيل إلى النهوض؟

بعد إعادة التشخيص ومحاولة إدراك أسباب الانتكاسة التي تعانيها الأمة لا بد من طرح أسئلة علمية موضوعية لعل منها: لماذا نحن هكذا وكيف السبيل إلى الخروج من حالة التردي هذه.

لماذا لا نتعلم من اليابانيين مثلا ومن تجربتهم في التعامل مع نتائج هزيمتهم المريرة خلال الحرب العالمية الثانية؟ .

 لم يشغل اليابانيون أنفسهم بلعن الأمريكيين ولم يتحدثوا عن المؤامرة وإنما طرحوا على أنفسهم أسئلة ثلاثة – حسبما بين الدكتور جاسم سلطان- أسست لعمل جاد مكنهم من كسب الرهان – رهان التقدم العلمي.

سأل اليابانيون أنفسهم : 

-       لماذا يكرهنا العالم ولم يتعاطف معنا؟ هذا السؤال منبعه السلوك الاستعماري الياباني المتوحش ونفور الشعوب التي استعمروها منهم. 

-       أين كنا حين كانت هذه الأمم تصنع القنابل النووية ؟ هذا السؤال يفهم منه أنهم غامروا في الدخول في حرب مع أمريكا وهي دولة نووية في حين لم يكن لديهم سلاح ردع، ولذلك هزموا.

-       أين كانت مؤسساتنا التي كان يجب ان تنبهنا على خلل الثقافة وخل المعرفة؟ 

هناك بعض التشابه وبعض الاختلاف بين حال اليابانيين وحال العرب والمسلمين. فكما تعرض اليابانيون لآلة التدمير الغربية تعرض العرب لها أيضا لكن الفرق أن اليابانيين كانوا دولة غازية استعمرت شعوبا وحاربت دولا كبرى بينما العرب والمسلمون لم يغزوا غيرهم في العصر الحديث وإنما كانوا ضحية، حوربوا بصور متعددة وزرعت في أرضهم إسرائيل.

وعن الكره فأظن أن سبب كره الغرب للعرب والمسلمين ليس لأنهم أصحاب أهداف توسعية وإنما لأنهم أصحاب رسالة وعندهم قابلية لبناء حضارة وعندهم قيم تناقض في كثير من أوجهها قيم الغرب ولو تفطن عقلاء الغرب لقيم المسلمين لوجدوا أن التعايش معها متاح لأنها تقوم أساسا على العدل وتكريم الإنسان وتكريمه بغض النظر عن دينه. 

ولكن يمكن للعرب أيضا أن يطرحوا أسئلة مشابهة:

-       كيف تمكنت إسرائيل من بناء ترسانة نووية فتاكة وعجزنا نحن عن ذلك؟

-       لماذا نجحت باكستان في إنتاج سلاح نووي لتوازن الردع مع الهند وعجزنا نحن؟

-       لماذا لم نستفد من الهزائم المستمرة 48 ، 67 ، نكبات حروب الخليج وآخرها الغزو الأمريكي للعراق؟

-       لماذا تزداد الأمة ترديا وتخلفا في كلل المجالات الاجتماعية والتنموية والعلمية والصناعية والحريات بينما تتقدم الأمم الأخرى حتى تلك التي كانت تعاني أكثر من العرب؟ 

-       أين العقل العربي ومؤسساته من كل هذا؟

-       أين مناهج التنسيق المنتج بين المسلمين؟ وهل نجحت مؤسسات التنسيق الإسلامية الرسمية والشعبية في تحقيق أهداف ملموسة تخدم الأمة؟

بعد طرح هذه الأسئلة لا بد من التخلي عن الروح السلبية التي يرى مالك بن نبي أنه يتحقق بالتخلص من أمرين: الانتظار الأول والانتظار الثاني. 

الانتظار الأول الذي تمثله "الدروشة الدينية" التي يظن صاحبها أن المشاكل ستحل بإطالة السبحة وانتظار معجزة ما ..

الانتظار الثاني: الذي يتمثل في سلوك بعض الذين يؤمنون بالديمقراطية وينتخبون شخصا لتأدية خدمة عامة فإذا قصر ينتظرون الدورة الانتخابية القادمة لمعاقبته بعدم التصويت له وينتخبون شخصا آخر بدلا منه.. وهكذا لا يكون لهم أي تأثير في النهاية سوى الورقة الانتخابية.

فكم عندنا من "الانتظارات" اليوم؟؟ أظنها كثيرة...

أما الشيخ محمد الغزالي فيرى أن نهضة الأمة لن تكون إلا بما أسماه الشهود الحضاري ويقصد به وجود الأمة فكراً أو علماً وثقافة بكل ما تحتمله هذه المفاهيم من معاني في ساح الحياة، فالإسلام كما يقول الشيخ " لا يستعيد أمجاده الأولي إلا إذا استعادت أمته فقهها في علوم الأرض كما تستعيد فقهها في علوم السماء وإلا إذا جودت شئون العمران كما تجود التفسير والحديث. إن هذه المعارف الضرورية لبناء الأمم وإقامة الحضارات فرائض مؤكدة، أسبق في حياة المسلم من نوافل الأذكار، والقراءات فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة.

 

ومن أهم ما نحتاج إليه لتسهيل طريق النهضة والبناء هو نقلة كبيرة في التصور، حسب تعبير الدكتور جاسم سلطان، فلكل شخص مثلا تصوره للإسلام وبعض الشباب يتصور أن الحزام الناسف والتفجير في المساجد هو السبيل الأفضل لإقامة الدين.

نحتاج اليوم إلى حلف فضول يضم جميع القوى الحية والتيارات والمذاهب الفكرية والاجتماعية والسياسية تكون مهمته استخلاص الدروس من عثرات ونكبات الأمة خلال القرنين الماضيين وما قبلهما سواء كان مصدرها داخليا أو خارجيا ووضع تشخيص صحيح لحال الأمة تمهيدا لبناء نهضة متكاملة تشمل الأبعاد الفكرية والنظام السياسي بما فيه الحريات وكرامة الإنسان وحقوقه والبناء التنموي المتكامل. ومن أهم ما ينبغي التركيز عليه هو التوقف عن هدر الطاقات في الصراعات الفكرية (الباردة) التي أشغلت الأمة عن أولوياتها وعن مواجهات المخططات الخارجية.. فلو كانت مناهج المغالبة والمبادلة الصفرية التي مآلها التخطئة المطلقة بين التيارات والمذاهب تؤول إلى نهضة لكانت الأمة بنت أعظم حاضرة.

كفانا انتظارا فلم يعد هذا عهد القائد المخلص خاصة بعد فشل تجارب "القادة" في العصر الحديث، بل وفشل تجربة التنظيمات الحزبية والحركات السياسية حسب قراءة بعض المحللين..

آن لنا أن نستبدل تراكم الفشل بتراكم النجاح وليت حال أجيال الأمة يكون:

نبني كما كانت أوائلنا ** تبني ونفعل مثلما فعلوا 

ولما لا تكون: نفعل فوق ما فعلوا..؟

النهضة اليوم تحتاج إلى التمسك بالمبادئ وإلى بناء المؤسسات وإشراك الجميع في عملية البناء.

وهذا التوجه لا يلغي تأثير القادة فلا يمكن لعمل مثمر وناجح أن ينجز إلا بقائد قوي متبصر لكن قوة القائد اليوم إنما تكمن في قدرته على حماية نظام المؤسسات وإشراك الجميع في مسار النهضة دون التطلع إلى مكاسب فردية أو تمجيد شخصي..

إن سقوط الأمة وفشلها في النهوض وتخليها عن رسالتها الحضارية لم يكن نكبة لها فحسب بل كان نكبة وكارثة لكل الإنسانية وفقا لما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: "ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين": (لم يكن انحطاط المسلمين أولاً، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعد، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيراً، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم.. هي مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم منها...والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث، ولم يقدره قدره، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه). ( 7 )

 

 

المراجع

( 1 ) محمد حيفان   مفهوم النهضة السؤال وتاريخية الوعي. متون العدد 3  2009

( 2 ) محمد حيفان   مفهوم النهضة السؤال وتاريخية الوعي. متون العدد 3  2009

( 3 ) زكي الميلاد: سؤال النهضة  لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟  مجلة الكلمة العدد 85  1435هـ 2014

( 4 )  جاسم سلطان  كتاب  "لحظة الإقلاع وتساؤلات المرحلة" 

( 5 ) برهان غليون، اغتيال العقل العربي

( 6 ) محمد الغزالي، سر تأخر العرب والمسلمين

( 7 ) أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

 

والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع

جمعة, 15/07/2022 - 11:22