حول أصل كلمة "تَبّاتو" التي تعني "البيضاني" بالبولارية/2

لا مراء في أن البولارية تتوفر على عبارات استهجان ذات دلالات سلبية أو قادحة للبيضان مثل : "هول تباتو، هول هور وندو" و"تباتو وُونا جيدو"، إلخ... (ولا شك أنه في المقابل توجد في كلام "البيضان" عبارات مماثلة في وصف "لكور" و"إفلان" على وجه الخصوص). ولست أعرف (ولا غرابة في ذلك لضيق مجالي المعرفي) أي عبارة بولارية تُحيل إلى نار نهب "البيضان"، لكن ربما كنتم تعرفونها أنتم ؟

ولقد شابت عيوبٌ كثيرة صياغتَكم لتصور أو لتمثل "الفوتانكوني" لـ"لبيضان" أولها إنكار تعدد الأعراق والألسن في فوتا وعند "الفوتانكوبي".
(…)

الجزء الثاني : "مُودو حرمة" ، العبودية والأجداد

 

من س... إلى ع.س.ب.

إن مشاركاتكم النيرة لم تنح منحى التاريخ. فحين تذكرون هجمات نهب "الجنجلبي" فذلك حسب علمي لا وجه للمقارنة بينه وبين الإتاوة المعروفة ب"موُدو حرمة" التي كان سكان "فوتا" يدفعونها سنويا لقبائل "البيضان".

وإن عبارة "ما ريوُو رونكا، اند وُوركو وُونا" (حرفيا : فقط إذا استحال الشمال يكون الجتوب ممكنا) لتعبر جيدا عن الآثار الكارثية لهجمات نهب "البيضان" على سكان "فوتا".

كما أن 40 % من سكان البلد الذي تعيشون فيه اليوم ، موريتانيا، ينحدرون من أصول الأرقاء. فمن أين جاء هؤلاء العبيد؟ وهل اكتفيتم، وأنتم تنتحلون شخصية المؤرخ، بمجرد طرح السؤال؟ لم تكتفوا بذلك فيما يبدو، لأنكم أكثر انشغالا باستشراف المستقبل وتأمله أي "برسم آفاق جديدة" للشعوب بدل السرد الموضوعي لوقائع التاريخ.

لكن حين أقرأ ما كتبتم أقول في نفسي إن القدماء منا كانوا على الأقل يعلمون كيف يتعرفون على ممارسات أعدائهم "البيضان". ومثلهم كان الولوف يقولون "نار". فلماذا ؟ ذلك سؤال كان من المفروض أن تنتبهوا إليه وأن يثير في ذهنكم حاسة المؤرخ !!!

إنكم تغرقوننا في سيل من الكلام حول الأسس التاريخية لفوتا. وحسب علمي فإن "الولوف" ومثلهم "السيرير" تعايشوا مع "الفُولْبي" بحيث تقاربت جذور بعض كلماتهم : نيتْ = ندُّو ؛ امبام = امبابّا ؛ ناك = ناجي ، كور = كوركو ؛ جيس (فعل) = جيت ؛ بي = امبيْوَ ؛ فاس = بوكو ؛ جمبار = جامبارو؛ إلخ...

من ع.س.ب. إلى السيد س:

سأحاول الرد على أسئلتكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا. وسأقدم رأيي حول بعض آرائكم وما جزمتم به (مبينا كلامكم بالخط السميك والمائل) :

 "إن مشاركاتكم النيرة لم تنح منحى التاريخ. فحين تذكرون هجمات نهب "الجنجلبي" فذلك حسب علمي لا وجه للمقارنة بينه وبين الاتاوة المعروفة "مُدو حرمة" التي كان سكان "فوتا" يدفعونها سنويا لقبائل "البيضان" .

لقد أصبتم دون شك حين أكدتم أن هجمات النهب الصادرة من "الفيرْلو" (ومثلها الصادرة من الشمال) لا تحمل البعد التاريخي الذي ميّز "المُدُو حرمة". ويبدو لي أنه من الحكمة أن تقارن فترات النهب فيما بينها مع محاولة رصد ما كان من تصور لدى سكان "فوتا" عن هذه الفترات.

هل من السائغ عقلا أن نتصور أن "الفوتانكويي" في الماضي كانوا يقَيِّمون الهجمات التي عانوا منها على أساس لون بشرة المعتدي أو عرقه أو لغته أو ديانته ؟ وأنهم كانوا يحسون بالألم والحزن حين يكون المعتدِي من "البيضان" ، وبالفرحة والبهجة حين يكون من إخوتهم الوافدين من "الفيرلو".

وما يفهم من فحوى سؤالكم هو أنه مهما كان الألم الذي يحدثه مثل هذه الاعتداءات، فإن الهجمات الوافدة من "الفيرلو" كانت أكثر تقبلا من هجمات "البيضان" وأقل ضررا من "المُدُو حرمة".

وتلاحظون أنني قلت إن » الهجمات الوافدة من "الفيرْلو"« (…) ولعلكم فهمتم أنني لم أنسب هجمات النهب لـ"انجيجلْبي" وحدهم إلا لسببين. لأن خؤولتي التي أحمل اسمها تمنحني امتيازا مريحا يمكنني من الإقدام على أن أنسب إليهم كل مضار الكون دون خشية أي شكل من أشكال الانتقام. ولأنّ تقاربُ موسيقى الألفاظ بين "انجيجلْبي" و"انجاينجول" (النار) كان بالإمكان أن تُوفر لمختص في اللسانيات مولعٍ بالتلاعب السيّئ بالألفاظ، الأداة َ التي استخدمتم لإثبات صلة الأرحام والتقارب اللغوي بين "تباتو" و"سفارْ".

 "إن عبارة "ما ريوُو رونكا، اند وُوركو وُونا"(التي تعني : لمّا تعذّر الوصول أو المقام في الشمال تم توطّنُ الجنوب) لتعبر جيدا عن الآثار الكارثية لهجمات نهب " البيضان" على سكان "فوتا".

يبدو لي أن معنى هذه العبارة أوسعُ من مجرد التعبير عن آثار هجمات النهب (الغزية). إذ هي في الوقت ذاته تعبر عن شعور بخسارة لا يمكن تعويضها عن الاعتراف بالعجز وعن حنين جماعي عميق (إلى الشمال).

إن هذه العبارة توحي بخسارة أرض لا ندري ما إذا كان اسمها "ريوُو" يعني جهة الشمال أو علامة الأنوثة ("ريوبي" المفرد و "ديوبُو") أو مزيجا صوفيا بينهما.

وهي تعبر كذلك عن اعتراف بالعجز عن الرجوع إلى الوراء (الشمال) والرضا بالعيش في "وُورْكُو" (الجنوب) رمز الذكورة ("كوركو" تجمع على "وُورْبي"، الذي ينظر إليه بصفته مهْجرا، ومنفى، وأرضا لمن لا أرض له، لا تحدها الحدود لأننا لا نعرف بالضبط ما إذا كانت تعني الضفة اليسرى للنهر أو الحد الجنوبي لمنطقة "جيري فوتا".

كما توحي هذه العبارة بالحنين إلى عصر ذهبي (مجال فضائي غير محدود، مراتع خصبة واسعة، مواشي وافرة من البقر، وبحيرات و"داليات" كثيرة الأسماك) ما زال إلى اليوم يسكن المخيلة الجماعية لـ"لهالبولارنْ".

أمّا عبارة "ما ريوُو رونْكا، اند وُوركو وُونا" فتجسد جملة من المشاعر والمعاينات الناتجة عن الآثار التاريخية والبشرية لعدة عوامل (تجَفُّفُ المناطق الوسطى من موريتانيا الحالية، والاضطرابات المناخية المختلفة، وندرة الموارد البيئية، والنزاعات بين الجماعات المتنافسة). ومن بين هذه العوامل شكل زحف البربر (ثم العرب) في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثامن عشر، عنصرا حاسما في أغلب الحالات.

ونحن لا نعرف أي شيء عن الظروف التي سبقت زحف فبائل البربر إلى وسط موريتانيا وجنوبها. و إذا لم نكتف بشكل سطحي بالرواية السِلْمية لتاريخ العلاقات بين أوائل "السوانك" و"الولوف" و"السرير" و"الفلّان" وغيرهم من الجماعات التي لم تصل إلينا أسماؤها (لأنها انقرضت أو ذابت في مجموعات جديدة)، فمن المتوقع جدا أن تكون هذه العلاقات قد عرفت بعض النزاعات التي تمت تسويتها أحيانا بالعنف والدماء وطرد المهزومين إلى أقطار أو آفاق أخرى.

وما نعرفه هو أن نشأة دولة "التكرور" في "والو"، ومملكة "كادياكا" وجماعات "السونينكو" في كيدماغة وطّنتْ السكان السود على ضفتي النهر ومكنت نسبيا من استقرار العلاقات مع الإمارات التي نشأت في تلك الفترة. وقد كانت موازين القوى بين "فوتا" وإمارات البراكنة والترارزة متأرجحة، حيث لعبت "فوتا" دورا هاما وربما رائدا في المنطقة وذلك ابتداءَ من فترة "كولي تنكللّ" وانتهاء بانقضاء فترة حكم "ساوا لامو"، وكذلك خلال أول فترة "الماميات".

ومما نعرفه كذلك أن النزاعات الكبرى في المنطقة كانت دائما بين تحالف أطراف متعددة من الشمال والجنوب ومن مناطق جغرافية مماثلة (حيث تحالف المرابطون ومملكة التكرور ضد إمبراطورية غانا؛ وكذلك تحالفت القبائل العربية ومملكة "دينياكي" (أهل تنكلل) و"ابراك" في "والو" ضد تحالف "التوروبي" في فوتا و"التوبنان" في "والو" وقبائل الزوايا في الترارزة في حرب "شرببه"؛ وثورة "التورودو" في سنوات 1770 التي انتهت بانتصار طرف الزوايا تلك المرة.
وتبدأ فترة الانهيار مع الذين جاؤوا إلى الحكم بعد "ساوا لامو". في تلك الحقبة أضعف البلادَ صراعُ أمراء "دينيانكوبي" على السلطة مما أدى بأطراف هذا النزاع إلى اللجوء إلى حلفاء من الخارج ("جولوف" إمارات "البيضان" ومجموعاتهم القبلية، "كادياكا" : المستعمر الفرنسي في "سان لوي"، إلخ...

ويشكل جزء كبير من "المُدُو حرمة" تعويضا يدفع مقابل الدعم المسلح الذي قدمته بعض مجموعات "البيضان" لآخر المنتصرين في هذه الصراعات الفتاكة. ويسدد هذا التعويض على حساب السكان في شكل إتاوة سنوية .

وقد دفع استغلال بلاد "فوتا" بهذه الطريقة سليمان بال ورفاقَه في حركة "التورودو" إلى العمل على تحقيق أهدافهم الثلاثة : إنهاءُ "المُدُو حرمة" الظالم الذي شكل رمزًا لإذعان القادة، لا إذعان الشعب؛ والإطاحةُ بمملكة "دينيانك" وإقامةُ دولة ذات قيم ومرجعيات إسلامية؛ واستعادةُ مجد "فوتا" الضائع.

إلا أن للتاريخ من الطرافة أحيانا، ما يلقن درسا من الحياة في أسلوب ساخر. ذلك أن بعض أفراد قبائل "البيضان" الذين كانوا مكلفين بجباية "المُدُو حرمة" لم يغادروا "فوتا" بعد هزيمتهم، بل استوطنوها واستمروا يسمون أنفسهم بنوع من الاعتزاز باسم "الحُرْمَانُكُوبَي" (رجال الحرمة) الذي اقترن بالعار زمانا. وفي أقل من قرن أصبح هؤلاء "البيضان" من "الهالبولارنْ" ومن "الفوتانكوبي"، لهم من العز والشرف، ومن التقدير والاحترام ما لأعرق السلالات في البلد.

 "أنتم تغرقوننا في سيل من الكلام حول الأسس التاريخية لفوتا. وحسب علمي فإن "الولوف" ومثلهم "السيرير" تعايشوا مع "الفُولْبي" بحيث تقاربت جذور بعض كلماتهم : نيتْ = ندُّو ؛ امبام = امبابّا ؛ ناك = ناجي ، كور = كوركو ؛ جيس (فعل) = جيت ؛ بي = امبيْوَ ؛ فاس = بوكو ؛ جمبار = جامبارو؛ إلخ..." .

بإمكان أي شخص بالغ لا يفقه شيئا في اللسانيات أو أي طفل يعرف كيف يبحث في الانترنت أن يكتشف وحده ذلك. يكفيه أن يستنطق محرك البحث "كوكلْ" ليحصل منه على الجواب التالي : »"الولوف" تعايشوا أولا مع البربر (…)، رفقة "الفلان" ومجموعات "المانْدينْغ" و"السوانك" و"االسيرير"« .

أعرف أن قصدكم كان أن تبينوا لنا علاقة القربى الوثيقة بين هذه اللغات الثلاث. ولكنكم مؤهلون أكثر مني لإدراك أن اللغات مدينة للأرحام تماما كما هي مدينة للجوار. وسواء كان الارتباط مبنيا على علاقات القربى أو علاقات الجوار فإن اللغات يأخذ بعضها من بعض حاجته. إلى درجة أن عبارة "المُدُو حرمة" (وقد نسيتم التذكير بذلك) التي هي عند "الفوتانكوبي" رمز للسيطرة والظلم، لا تنتمي إلى اللغة البولارية أصلا. ولكنها عربية/بربرية بلا ريب، حيث يعني "المدّ" وحدة قياس وتعني "الحرمة" الإتاوة. وتلك إحدى طُرَف العلاقات بين الشعوب، التي يتحفنا بها التاريخ أحيانا من حيث لا ندري.

أما في ما يخص التعايش بين "الفلان" و"السيرير" فمن الصعب أن أغفر لكم أنْ ذكّرتموني بالعلاقة بين هاذين الشعبين. إن قريتي، قبل أن تعرف اسمها الحالي، كانت تسمى "تونتي". وكان يسكنها "السيرير" حسب الروايات المحلية. كما كان "سابين"، وهو آخر رؤسائهم قد أحيا جزءا من أراضي "والو" وتملكها (بحق الفأس والنار). ثم جاء أجدادي من "الفلان" إلى عين المكان في القرن الرابع عشر أو الخامس عشر وسكنوا بجوار "السيرير". ثم تنازع الفريقان لأسباب لا أرغب في الحديث عنها. وبعد ذلك نزح "السيرير" وانتهى الجوار والتعايش.

 "كما أن 40 % من سكان البلد الذي تعيشون فيه اليوم ، موريتانيا، ينحدرون من أصول الأرقاء. فمن أين جاء هؤلاء العبيد؟ وهل اكتفيتم وأنتم تنتحلون شخصية المؤرخ بمجرد طرح السؤال ؟".

إن الجزء الأخير من سؤالكم مثيرٌ، لا من حيث معناه الظاهر بل بما يضمره في ثناياه. وإذا كنت فهمت ما تقصدونه فإن من يعترض على فرضيتكم المتعلقة بتصور أو صورة "البيضان" في أذهان "الفوتانكوبي"، أو يقترح تأويلا لمعنى هجرة "الفلان" إلى "الوُورغو" مخالفا لتأويلكم، لا يمكن أن يكون له قلب رحيم لأنه عاجز عن إثارة أبسط الأسئلة حول العبودية. كان ينبغي أن تجدوا معايير أفضل للإقصاء، كأنْ يكون مثلًا معارضُكم مؤرخا فاشلا أو خبير لسانيات عاجزا.

أيمكن لبشر مثلي يعيش في القرن الحادي والعشرين أن لا يتساءل مطلقا عن أصل استرقاق جزء كبير(وأترك لكم مسؤولية النسبة التي جزمتم بها) من سكان موريتانيا ؟ ربما لم أطرح السؤال أكثر مما فعل آخرون. وربما لم أُثِره بنفس التعصب والحدّة التي طرحه بها بعضهم، لكنني بكل تأكيد ساءلت نفسي عنه، لا بصفة من ينتحل شخصية المؤرخ، بل بطبيعة بشر له إحساس إنساني بالظروف التي عانى منها جزء من البشرية. ولأبوح بالحقيقة كلها، لا بد أن اعترف أن قضية العبودية هي التي طرحت علي نفسها... حين صفعني والدي على الخد لما ناديت أحد أصدقائه ومن هُمْ في سنه بلقبه دون أن أقرنه بلفظ "بابا" (الأب)، لأنني كنت أعرف أنه "ماكودو" (عبد).

كان عمري حينئذ 12 أو 13 سنة. ولم تزدني صفعة أبي علما بقضية العبودية، إلا أنها علمتني أن قواعد الأدب لها الأولوية في بعض الظروف على المنزلة الاجتماعية. لكن بعد خمس أو ست سنوات اتضحت لي العلاقة بين الصفعة الأبوية وقضية العبودية، لمّا اكتشفت الواقع الأليم الذي يعيشه المنحدرون من أصول الاسترقاق (وأغلبهم أرقاء حتى الآن) وما يعانونه يوميا من الاحتقار والتهميش.

بعد ذلك شاركت في نزاع بين شباب "الماكودو" وشباب "التوروبي". وبطبيعة الحال اخترت الانحياز لأحد الفريقين.وليست بقية القصة مهمة، لأنها بعضٌ من حياتي الخاصة.

من أين جاء هؤلاء العبيد؟ سأكون كذابا إن زعمت أنني لم أفهم المعنى الدقيق لهذا السؤال. فطريق الوصول إلى معرفة أصول 40 % من المنحدرين من الرقيق، انطلاقا من أصل كلمة "تباتو"، طريق محفوف بمعالم بارزة لا يضل معها الأعمى طريقه. والجواب بَدَهِيٌ : العبيد ومن تفرعوا عنهم منحدرون من الجماعات الزنجية الموجودة في غرب إفريقيا. لكن مهما كان هذا الجواب بديهيا فغالب ظني أنه لا يرضيكم. لرُبّما كنتم تفضلون أن أقول إنهم من السّبي الناجم عن هجمات النهب (الغزية) التي نظمها "البيضان". لكن ذلك لا ينطبق إلا على جزء قليل من هؤلاء العبيد.

مع أنه كان يجب أن يطرح السؤال بصيغة أخرى، أي أن نتساءل أولا عن أصل العبيد في مجتمع "الهالبولارنْ". وهل هم من أصول "السوانك" أو "البيضان" أو "الولوف" أو "السيرير" أو "السونغاي" أو "البامانا" ؟ فعلى المرء أن يبدأ بنفسه ، حتى لا تحجب عنه عيوبُ الناس عيوبَه.

إن العبيد في مجتمع "الهالبولارنْ" جاؤوا من الخزّان البشري الهائل الذي شكلته شعوب غرب إفريقيا طيلة قرون. وإن مجرد سرد الأسماء العائلية لـ"الماكوبي" و"الريمايبي" (عبيد مؤبدين) يوحي مباشرة بالمجموعات العرقية التي ينتمون إليها ("البامانا" و"السوانك" و"المالينك" و"الخاصونكي" وحتى "الصنوفو").

ففي منتصف القرن التاسع عشر ونهايته، أدى انحسارُ ثم توقفُ المتاجرة بالعبيد مع الأمريكيين إلى ازدهار النخاسة في غرب إفريقيا وفي الصحراء. وقد وُجِدت مقاولات عسكرية/تجارية ترسل كتائب ومجموعات مسلحة لتموين أسواق النخاسة في مواسمها المعتادة. وكانت باماكو عاصمة دولة مالي حاليا، تشكل، وهي قرية صغيرة في تلك الفترة، إحدى أهم نقاط النخاسة.

ولست أريد إزعاج أحدٍ إذا قلت إن قوات "الفوتانكي" التابعة للحاج عمر (في السودان) وقوات "السوفاس" التابعة لألمامي ساموري توري (في غينيا وساحل العاج وليبريا والسودان إلخ...) لعبت دورا بارزا في ازدهار هذه التجارة التي كان محركها الأساس جلب المنافع وتوفير الحاجات من الخيل والسلاح ومعدات الحرب.

وفي نهاية القرن التاسع عشر بيع آخر أفواج العبيد في جميع أنحاء غرب الصحراء (لاسيما "فوتا"). وتبينُ أهم مناطق نشاط تجار العبيد (السودان وغينيا وساحل العاج) سببَ كثرة تردد الأسماء العائلية من أصل "البامانا/الماندينك" في أسماء الأرقاء في مجتمع "السوانك" و"الهالبولار" وربما تفسِّرُ ترددَ لقب "الساموري" في مجتمع "البيضان".

وقد التحقت هذه الأفواج بمجموعات العبيد القدماء الذين كانوا في المنطقة ومن بينهم أفراد من أصول الزنوج في غرب الصحراء، يوجدون أساسا في "آدرار" وفي المناطق الشمالية.

وأصول العبيد في مجتمع "فوتا" هي الأصول ذاتها التي ينحدر منها الأرقاء في المجموعات العرقية الأخرى. لذلك لم يكن لهجمات النهب (الغزية) ولا للحروب، دور كبير في انتشار العبيد بالمقارنة مع الجمع الغفير الذي دخل عن طريق أسواق النخاسة إلى المناطق السودانية الصحراوية ومناطق الغابات.

 " لكن حين أقرأ ما كتبتم أقول في نفسي إن القدماء منا كانوا على الأقل يعلمون كيف يتعرفون على ممارسات أعدائهم "البيضان". ومثلهم كان الولوف يقولون "نار". فلماذا ؟ ذلك سؤال كان من المفروض أن تنتبهوا إليه وأن يثير في ذهنكم حاسة المؤرخ !!! ".

لنبدأ أولا بعبارة "نار". لمذا "الولوف" يطلقون على "البيضان" اسم "نار"؟ لا أعرف شيئا عن ذلك، وأنتم كذلك. فأنا مثلكم لا أعرف إلا ما نقلته الرواية الشعبية للتاريخ وتلك أداة هشة لا تُمَكّن من التحليل التاريخي على أسس متينة.
(…)

ولا أستطيع أن أصدر حكما بشأن قدرة القدماء على التعرف على ممارسات أعدائهم "البيضان"، لأنني لا أعرف عن أي القدماء ولا عن أي الممارسات تتحدثون. إلا أن العداء الوراثي الذي تفيده عبارتكم »أعدائهم "البيضان"« باطل علميا ، ولا أساس له تاريخيا، وغير مقبول أخلاقيا ومنحرف سياسيا.

إن الإفراط في البحث تحت الرماد وفي أنقاض التاريخ ومتاهات الأحكام المسبقة التي لم تُبْنَ على دليل فضلا عن عدم التسامح المتبادل، كلها عوامل قد تُسْقِطَ عليك أنت وعلى أمثالك في الفريق المقابل التعريفَ الذي وضعه "كارل و. دوتش" للنزعة القومية : » مجموعة من الناس يتفقون على أخطاء وقعوا فيها بشأن أجدادهم وعلى أخطاء اتفقوا فيها على كراهية جيرانهم « .

أنتم أحرار في تمجيد الأجداد، أما أنا فليس التمجيد من هوايتي ولا تؤرق مضجعي أرواح السلف. كما أن أجدادي كسائر الناس متعددون من حيث اختلاف أعراقهم (إن صح هذا التعبير)، وأنا مدين لتعدد الأجيال في سلالتي لاسيما أجدادي من "الفولبي"/"الهالبولارنْ". إنني مسؤول من جهة عن موروثهم ومتأثر من جهة أخرى بجزء كبير من هذه التركة. وبما أنكم تعالجون القضية من زاوية المشاعر فلتعلموا أنني لم أرثْ وجدان الأجداد ولا عواطفهم، ولم أرث أحقادهم ولا عداواتهم أو صداقاتهم، باستثناء خؤولة طيبة ضاربة في أعماق الزمن تربطني بكل "السيرير" في "السين" و"السالوم" وفي العالم. رحم الله السلف !

 " إنكم أكثرُ انشغالا باستشراف المستقبل وتأمله أي "برسم آفاق جديدة" للشعوب بدل السرد الموضوعي لوقائع الماضي " .

لا يمكن أن تعتبروني مؤرخا من الدرجة الثانية وتتهموني في الوقت ذاته بالاهتمام الزائد بالمستقبل. لكن لا تثريب عليكم، فلا تعارض عندي بين الموقفين.

لست أعرف ما هو التاريخ حقيقة، لكنني أعرف ما ليس من جنس التاريخ، حسب رأيي. وليس من التاريخ إنكاءُ الجراح التي تراكمت من عهد نوح، ولا إنكارُ الأنساب وطمسُ الأصول المتعددة. وليس من جنسه كذلك إعادة الكتابة التاريخية بحثا عن تاريخ يوافق الهوى وتلمُّسًا لما يخدم الواقع المعيش. وما أبعد أن يكون التاريخ معلقةَ فخرٍ تُمَجّد الهوية أو تختلقِ الأساطير الكاذبة.

وإذا قدر لي أن أخيّر، فإنني اختار التاريخ الذي نكون نحن محركه وموضوعه في الوقت نفسه، التاريخ الذي نُسَطره بأعمالنا وبعرقنا ودموعنا. ذلك هو التاريخ الرائع المفيد، إذا نحن استطعنا كتابة دون أن نأسر الحاضر في أقْبِيَة الماضي، وإذا أبعدنا هواجسنا ومخاوفنا القديمة عن التدخل في تحديد معالم وآفاق مستقبلنا. إن التاريخ هو أن نتخيل الأفضل وأن نُحلِّق بأحلامنا وتطلعاتنا إلى فضاء الأمل في المساواة والحرية والعدالة الحقيقية.

إذن نعم، لعل الحق معكم. أنا أعيش على أرض وفي أزمنة تؤوي بلادي فيها كثيرا من المكونات العرقية والقبلية التي « ينجذب بعضها إلى بعض ، لكنها لا تختلط ولا تتمازج ». وإني لأحلم بزمان وببلاد فيهما تكون كل مكونات الأمة « منجذبة بعضها إلى بعض ، ومختلطةً متمازجة ».

عبد الله سيري باه

ترجمة: محمد عبد الله ولد البوصيري

ثلاثاء, 01/03/2022 - 12:32