هل سقطنا في اختبار التاريخ؟

"ليس كل ما يُلَمع ذهبا"

 

لا توجد أمة مضطربة في مسارها ومرتبكة في تسيير شؤونها إلا كان وحده التاريخ "القلق" مصدر الاضطرابات والعثرات والاخفاقات التي تعتريها. 
يقول الدكتور جمال ولد الحسن (1959-2001) "..إن "الواجب المعرفي" يفرض نفسه على النخبة المثقفة ويلزمها التعاون والتعاضد والتناصر على معرفة المجتمع ماضيا وحاضرا، وإن هذا الواجب المعرفي هو شرط أساسي للتحكم ولو بحظ ضئيل في مستقبله. ويضيف ولد الحسن أن شروط التحكم في صيرورة المجتمع، والسعي إلى تطوير الحقل الوقفي في استقلاله عن الحقل المعرفي، تكون في تشجيع وتطوير الدراسات التي تفقه أكثر في الواقع على مستوى جميع مناحي الحياة".
على العكس من الالتزام بإملاءات "الواجب المعرفي" كما خصه الدكتور، فإن النخبة المتعلمة في "المنكب البرزخي" قد انصرفت عن مدارات المعرفة والثقافة ومشاغلها إلى مجرد السياسة النفعية في أسوء تحامل على السياسة نفسها.
مرت أكثر من ستين عاما على نشأة الدولة "المدنية" من رحم اللادولة، ولا يبدو المنكب على خير السوية من خلال سلوك نخبه المضطرب وأقوالهم المتناقضة وأفعالهم الشاذة، وبما يشف عنه واقعها من اختلالات جمة وتباينات شديدة في المشارب الفكرية والطرائق المذهبية وانفلات شديد من قبضة النظام الدولاتي. وليس المنكب على المحجة البيضاء إذ ليل سمائه لا يشبه نهاره، وإذ جل أمور ناسه تدبر في عتمة لياليه، فيما يسخر النهار على مدار ساعاته لإنتاج سقيم الكلام وإلحاق بالغ الأذية لجوهر "السوية" على خلفية التأفف على العمل وإجهاض كل أمل في قيام دولة العدل والمساواة. وامتهان الكلام على أقل من طريقة سوق "عكاظ" هو أسوء وأبشع مشغل يصرف فيه الوقت عن العمل المنتج وتدرك به الغايات المادية عند النافذين المخمليين بكل العباءات القبلية والجهوية والطبقية. 
ومن كل أصناف الأدب وجميع بحوره الخليلية، لا يختار الكثيرون لملاحم التزلف اليومية سوى المدح الكاذب لمن قويت يده على البطش وأصابعه على النهب والسلب التبذير، أو لمن سخر ما حصل من العلم لبناء عوالم الدجل والخرافة، وفي المقابل يكيلون الشتائم والذم لأهل الفضل والسجايا الذين يفضلون وجه الله ورداء الكرامة على حطام دنيا زائلة بالغش والمكر  والرذيلة والتحايل والنفاق والفجور؛ صفات كلها منتحلة بكثرة وجرأة ومن دون أو تردد في أرض "المجابات الكبرى" يقرض أصحابها الشعر المبتذل عند عتبات الأقوياء وفي مجالس الأغنياء ومحافل السياسيين. 
وإذا كان أغلب الضالعين في العلوم الإنسانية السسيولوجية والآتروبولوجية والإجتماعية، والأثنية واللسانيات والعقليات، هنا في المنكب القصي، قد فرطوا في "الحمولة" واستغلوا "العناوين" و"الألقاب" لإبقاء واقع "اللا دولة" على حاله من أجل الاستئثار بالرفث إلى الملذات، فإن المؤرخين هم الأكثر من بين كل هذه الفئات من يحمل وزر المرحلة "القلقة" لانزياحهم عن مناطات التاريخ وإهمالهم مقاصده، وكأن لسان كل واحد منهم يردد ما قاله الشاعر العراقي معروف الرصافي:      
"أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال ومتجشم هواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت في ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة. 
ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها لقد أسخطت الناس عليَّ، ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليَّ، وعلى قلوبهم أكنة من بغضهم إياي".
والحقيقة أن تناول التاريخ بتجرد وعلمية وموضوعية تُستخلص به، أثناء مسارات الشعوب وقيام الدول، دروسًا قيمة لاتخاذ القرارات المستقبلية وذلك من خلال دراسة أخطاء ونجاحات الماضي. كما يمكن هذا التناول الرفيع من تفادي أخطاء مشابهة في المستقبل واتخاذ القرارات المستنيرة. 
ويساعد كذلك التاريخ المنقى من الشوائب على فهم التنوع الثقافي والديني والاجتماعي ويعمل على تعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات. 
وأما قراءته بتأن فمعينة على زيادة التوعية القومية، واعتزاز الفرد بتاريخ أمته، فهو ملهام لعمل الإنسان، وإبداعاته، ومُحفز له على العطاء. 
وإن التاريخ الذي يوسع مدارك الإنسان من الناحية الأخلاقية، حيث معلوم أنّ الفائدة الأخلاقية مهمة أكثر من غيرها، لإضفائها على لتاريخ قيمة تربوية وأخلاقية، 
ويُساهم التاريخ في إنشاء حوافز، وقيم عند الناشئين من أفراد الوطن من خلال بث التوعية القومية في أذهانهم لتمدهم بالطاقة، والنشاط من أجل الحفاظ عليه والاستفادة منه. 
ولا تنتهي فوائد التاريخ عند هذا الحد حيث يُستفاد منه في بعض الوظائف الحكومية التي تضع التاريخ كشرط في اختبارات القبول، كالتعليم، وأمانة المكتبات، والمتاحف. وليس أقل من كل هذا أنه يعد ضروريا للعاملين في المجال السياسي، حيث تضمن معرفته النجاح للسياسيين في أعمالهم بوصفه رفيعة أداة لترسيخ الوحدة الوطنية، والكفاح ضد القوى المعادية للدولة.
فهل نظل نجهل كل هذه الأبعاد ونترك للمحتكرين للتاريخ المُلمع بالذهب المزور، على حساب الموضوعية والعلمية بأدبيات الرجعية والاقطاعية والقبلية الترابية الاستعلائية، وأن يستخدموه بمزاجهم غطاء سميكا بينهم ومتطلبات الحاضر لقيام الدولة المدنية السوية العادلة؟
وهل نظل مخفقين في اختبار كتابة التاريخ الصحيحة؟

اثنين, 22/04/2024 - 13:21