العشرية بين البداية والنهاية..

لعل "العشرية" هي أكثر فترة سياسية أثارت جدلًا في البلاد ولذلك مسوغاته وأسبابه الجلية التي لا تخفى على أحد.

فإذا نظرنا إلى البداية مثلا سنجد أنها لم تكن سليمة -شرط النهايات تصحيح البدايات- فهي بدأت بانقلاب ووأد حلم ديموقراطي استبشر به الموريتانيون وغيرهم بحيث لم تألف بلداننا العربية ترك العسكر طوعا للسلطة،  وبرغم هذه البداية الخاطئة فإن "شرعية ما" حصلت بموجب انتخابات لم تسلم هي الأخرى من الجدل حولها والطعن في نزاهتها.

 

وحدث كذلك جدل واسع حول إنجازات العشرية بين من رآها عشرية البؤس والفساد من أعلى مستوى هرم في السلطة إلى أدناه، وبين من يراها عشرية النماء التي فاقت إنجازاتها جميع ما أنجزه الرؤساء السابقون، وبكل موضوعية لا يمكن أن ننكر أنه حصلت بعض الإنجازات ولكن السلطة التي أدارت هذه العشرية كانت تحتاج إلى إنجازات كبيرة لعدة أسباب منها أولا ضرورة ترميم "شرعيتها" المهزوزة بسبب الانقلاب على الدستور وعلى رئيس منتخب، كما تحتاجها ثانيا لتسويق خطاب الاستمرار في السلطة وتمهيد الطريق أمام تغيير الدستور وفتحه لمأموريات إضافية.

 

وبناءً على حاجة السلطة لإثبات شرعيتها وتسهيل الاستمرار في الحكم فإن الإنجازات ، حسب تقديري، لم تنس الموريتانيين تلك البداية الخاطئة  كما أنها لم تقنعهم بأحقية الرئيس السابق في الاستمرار في الحكم. 

نعم حصلت إنجازات كما ذكرنا، وهذا أمر طبيعي في تطور الحياة فأي قرية نائية تعيش فيها مجموعة بشرية بوسائل متواضعة فمن الطبيعي أن  تتغير أحوالهم مع تتابع السنين وسير عجلة الزمن.

 

بيد أن كل تحليل موضوعي يؤكد أن هذه الإنجازات وفق كل المؤشرات والمشاهدات كانت دون المستوى إجمالا  فالتعليم تراجع والخدمات الصحية في تدهور والبنى التحتية من طرق ونحوها ليست على أحسن ما يرام رغم ما صرف من أموال ضخمة.

 

أما الدين الخارجي فقد قارب حجم الناتج المحلي للبلاد وأصبحت بلادنا من أكثر بلدان العالم الثالث مديونية وقد تضررت برامج التنمية كثيرا من ذلك، هذا فضلا عن  إثقال كاهل الأجيال المقبلة بتبعاته، وشاهد ذلك حديث الساعة مما يذكر وبدأ يتكشف عن حجم الفساد الذي عرفته "عشرية النماء" واتضحت بعض خيوطه من نتائج تحقيق اللجنة البرلمانية...

 

فإذا أخذنا بعين الاعتبار عدم شرعية بداية العشرية وتراجع مؤشرات التنمية في البلاد بشكل عام وتفشي الفساد ، حسبما تواتر، خلال هذه الحقبة وارتفاع الدين الخارجي مقابل ما حصلت عليه البلاد من تمويلات ضخمة فإن الحصيلة النهائية للعشرية تكاد تكون كالصفر أو أقل من الصفر!

 

هذا إضافة إلى الأجواء السياسية المتشنجة والخطاب العنيف الذي ساد خلال "العشرية" والذي أفسد المفهوم السياسي للعملية الديموقراطية حيث انقسمت البلاد إلى فسطاطين فسطاط يوالي الرئيس وهو المحب والمخلص للوطن وفسطاط معارض وهو عدو الوطن ومخربه حسب تصنيف أنصار العشرية، وهكذا بدل أن تتمكن السلطة السابقة من ترميم "شرعيتها" فإنها على العكس ساهمت في تآكل ما كان موجودا منها بسبب ضعف الإنجاز وسوء إدارة الملفات الكبرى.

 

المبالغة في التقرب:

إن درجة التقرب من الرئيس السابق وتضخيم إنجازاته وإظهار الولاء له تجاوزت كل الأبعاد الأخلاقية والأعراف السياسية، فوجدنا كُتابا ومسؤولين وساسة وبرلمانيين ومثقفين ربطوا مصير البلد بالرئيس السابق وكان شغلهم الشاغل هو إقناع الموريتانيين بأن البلد لن يصلح حاله إذا لم يستمر "ذلك الرئيس" في قيادته، وتجاوزوا مرحلة الإقناع إلى مرحلة التأكيد على أن هذا النظام "سيبقى" وأن الدستور ليس قرآنا وأن كل الوسائل مشروعة لبقاء الرئيس وبهذا أفرغوا العمل السياسي من محتواه..

ولكن المصيبة الكبرى هي أن هولاء الساسة والكتاب والنواب وغيرهم من الموالين سرعان ما تراجعوا عن ذلك التأييد الأعمى للرئيس السابق واكتشفوا "فجأة" أن القائد "الملهم" والزعيم الأوحد هو الذي أفسد البلاد والعباد-حسب رؤيتهم الجديدة- وطالبوا بمحاكمته وبالغوا في التبرؤ منه ليفرغوا خطابهم من أي معنى أخلاقي بعد أن أضاعوا المعنى السياسي للمسار الديموقراطي!

 

لقد شكلت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والكتابات حول ضعف الأداء السياسي لهذه الفترة مرحلة مفصلية في معركة الوعي السياسي والتأسيسي لإلباس العمل السياسي لبوسا أخلاقيا حين رصدت وسجلت ونشرت على نطاق واسع تصريحات الساسة الذين بالغوا في التقرب من الرئيس السابق ثم تنكروا له ما يمثل تنبيها لمن يعقل إلى ضرورة أهمية التحلي بأخلاقيات العمل السياسي والحفاظ على ماء الوجه على الأقل عند ممارسة السياسة مستقبلا..

 

إن تجربة العشرية تستوجب طرح عدد من الأسئلة من قبيل: 

أين أعضاء البرلمان الذين كانوا يريدون فتح المأمورية الثالثة وربما الرابعة؟

أين الذين كانوا يدعون الرئيس للبقاء حتى يكمل إنجازاته؟ 

أين الذين كانوا يريدون تتويجه ملكا؟ 

أين الذين كانوا يؤكدون أنه سيبقى؟ 

أين الكُتاب الذين كانوا يقولون إن الرئيس هو الأكثر شعبية؟ 

صحيح أن بعض السياسين كانوا أكثر وفاء من غيرهم حين تمسكوا بالدفاع عن العشرية ورئيسها لكنهم قلة... 

فمن خدع من؟ 

وكيف يتهاوى بنيان العشرية وكيف انفرط عقدها على هذا النحو وهذه السرعة؟

كيف ينتقل الرئيس من القمة إلى موقع آخر؟ 

ولماذا لم يختر المهادنة  والمسالمة والعيش في هدوء بدل المشاكسة وتعكير صفو المناخ السياسي الذي شهد حالة من التفاهم غابت طيلة " العشرية"؟  

وهل كانت ملفات الفساد ستفتح وتشكل لها لجنة برلمانية لو أتيحت فرصة لمأمورية ثالثة!؟

 

لقد اعترف الرئيس السابق بتدبير الانقلابات في وضح النهار، وتلقى دعما قويا من شركائه في كتيبة البرلمانيين وآخرين تولوا تزييف الحقائق فخدعوا الشعب بتقديم صورة وردية عن الوضع العام في البلد بينما مع تكشف الأمور جاءت الصورة مغايرة لما قدموا فهل كانوا يكذبون عمدا؟ 

واكد الرئيس السابق أيضا أنه بإمكانه تغيير الدستور إن أراد.. 

وهذا كله يؤكد أن العشرية كانت فترة "استثنائية".

وهكذا بدأت العشرية بداية غير صحيحة ولم توفق في ترميم "شرعيتها" بسبب ضآلة الإنجازات وبين البداية والنهاية شكلت مرتعا خصبا للتقرب -حتى لا نقول النفاق- السياسي أما النهاية فكانت بملفات الفساد التي أعطت صورة مخيفة عن العشرية ولما تفتح كل الملفات بعد ، إن صح وثبت ما يقال. 

 

 إن التوجه الجديد وفتح ملفات الفساد سيمثل بداية مرحلة جديدة في التعاطي السياسي مع الشأن العام وهذا يتطلب من السلطة الجديدة تشجيع بناء خريطة سياسية جديدة قوامها الأخلاق أولا والتعددية السياسية الصحيحة وأن يكون الولاء لبناء دولة مؤسسات والشفافية واحترام القانون وليس للتقرب من الرئيس بحثًا عن المصالح الخاصة، كما ينبغي كذلك عدم تساهل الدولة مع تلك الخطابات التقليدية التي تمجد الرئيس وتدعو إلى التمسك به بعد انتهاء مأموريته.

 

فالرئيس انتخب لأداء مهمة محددة وهو أجير لدى الشعب وأهم ما يمكن أن يقدمه هو إنجاز برنامجه المعلن بشفافية مع العمل على حماية الدستور وضمان فصل السلطات والشفافية في إدارة الشأن العام ومحاربة الفساد وتأمين الفرص المتكافئة لجميع المواطنين وعدم استغلال النفوذ للمصالح الشخصية.

  

عموما هذه السطور ليست اتهاما لأحد بعينه فنحن نستصحب للناس البراءة حتى تثبت إدانتهم من قبل القضاء، وإن كنا نفرق بين الأخطاء السياسية التي عاشها الناس واضحة وبين الفساد المالي الذي يحتاج إلى القضاء للبت فيه...

 

والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع وآله وصحبه.

الهادي بن محمد المختار النحوي

سبت, 15/08/2020 - 22:31