المدرسة الجمهورية: ضرورة سياسية ومطلب تربوي

لا يغيب عن أذهان الكثير من المهتمين بالشأن التربوي في بلادنا أن افتتاح المدرسة الجمهورية أبوابها أمام جميع الأطفال الموريتانيين دون استثناء ليس حدثا تربويا وتعليميا أملته استحقاقات  مشروع الإصلاح التربوي الذي بدأ بمراجعة البرامج المدرسية في صيف 2020 وأفضى إلى اعتماد  القانون التوجيهي للتعليم ، بقدر ما هو انجاز لتعهد انتخابي ذي طابع سياسي واجتماعي قطعه رئيس الجمهورية على نفسه في المحور الرابع  من برنامجه " تعهداتي " . ولوضع هذا التعهد قيد التنفيذ جرى تنظيم الورشات الجهوية للتشاور حول إصلاح النظام التعليمي 21- أكتوبر 2021 التي مكنت من صياغة القانون التوجيهي لإصلاح قطاع التهذيب . وإذا كان تنظيم يوم التعليم في قصر المؤتمرات تحت إشراف الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني 29 سبتمبر 2022 ، وتحت شعار " المدرسة الجمهورية مشروع للجميع وبالجميع " ، يعلن بوضوح أن افتتاح المدرسة الجمهورية قد أصبح خيارا تربويا لا رجعة فيه ، فإن هذا الافتتاح يشير بشكل لا لبس فيه أيضا إلى أن قطاع التعليم لم يعد قطاعا محايدا وإنما هو قطاع يجب المراهنة عليه لاستئصال جذور المشكلات السياسية والاجتماعية العالقة التي تتعالى الأصوات من كل حدب وصوب لمعالجتها ، ولا سيما مشكلة التعليم العمومي وما يرمز إليه من لامساواة اجتماعية واقتصادية ذاتتداعيات سلبية على مسألتي الانسجام الاجتماعي و الوحدة الوطنية . ذلك أن التحديات التي يٌتَوَقع من السياسة التعليمية الجديدة رفعها لم تعد تقتصر على ضمان جودة التعليم ونجاح التلاميذ وإعدادهم للتحلي بالمسؤولية والاستقلالية بغض النظر عن التباين في المزايا الثقافية والاجتماعية المكتسبة من بيئتهم الأسرية ، بل تشمل كذلك منع الفوارق الاجتماعية و التفاوتاتالاقتصادية من أن تٌتَرْجَم بشكل منهجي ومنسق إلى تفاوتات تعليمية . ونتيجة لذلك فإن مشروع المدرسة الجمهورية ، أو " مدرسة الشعب " أو" المدرسة المشتركة " كما أفضل تسميتها ، ليس مشروعا تربويا خالصا بل هو كذلك مشروعا سياسيا بالدرجة الأولى : يتعلق الأمر بمدرسة ستتكفل ببناء مستقبل الجميع وتنشئة التلاميذ والشباب الذين سيبنون مجتمع الغد . إن هذا النظام التعليمي الجديد الذي يراهن على نجاح نموذج " المدرسة الجمهورية " يضع ضمن أولوياته اندماج جميع الأفراد في الحياة الاجتماعية وتمكينهم من ممارسة مواطنتهم بشكل كامل . وهذا ما يعني أن الدخول الفعلي في عهد " المدرسة الجمهورية " قد أضاف عنصرا جديدا لمشروع الإصلاح التربوي : القضاء التدريجي على كل مظاهر التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والمعرفيفي السياق المدرسي . ولكي يفي مشروع المدرسة الجمهورية بهذه الأهداف لا بد له أن يرتكز على مجموعة من المبادئ ويستوفي شروطا هي بمثابة دعامات لا يمكن أن يتجاهلها أي مشروع يراد له الاستمرارية والتحقق .

 

أولا ، المدرسة الجمهورية " فضاء للتربية على المواطنة " : أي أنها يجب أن تعزز القيم التي تقوم عليها الديمقراطية وأن تعد الشباب لاستيعاب وممارسة قيم المواطنة المسئولة كأداء تحية العلم وحفظ وترديد النشيد الوطني يوميا ومعرفتهم بالأيام والتواريخ ذات الدلالة الرمزية في تاريخ البلد ( يوم الاستقلال )..إلخ . هي دعامة للمجتمع ، تقوم بمهمتها من خلال خلق الوعي المدني الذي يسمح للتلاميذ بالانفتاح على قيم وفضائل المواطنة . هدفها تعزيز الولاء للوطن بعيدا عن التعصب للقبيلة أو الجهة ، وذلك هو الضمان الوحيد لتوطيد أسس الدولة الوطنية الحديثة .

ثانيا ، الحياد الاجتماعي : المدرسة الجمهورية تعمل على قواعد  غير شخصية ، والعلاقة الوحيدة التي تحكم نظام عملها هي العلاقة التربوية التي تساعد على تحديد ما يجب تدريسه وكيف يجب تدريسه . هاهنا تصبح التربية أداة موضوعية لضمان حيادية المدرسة . مما يعني أيضا أن المدرسة مؤسسة واحدة من بين مؤسسات أخرى ، وأنها مجرد انعكاس للمجتمع ، وظيفتها ليست تغيير النظام الاجتماعي ولكن الحفاظ على الانسجام والتماسك الاجتماعي . 

ثالثا ، الجدارة : من خصائص المدرسة الجمهورية مراعاة مبدأ الجدارة ، فهي مسئولة عن رعاية أفضل التلاميذ بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية والثقافية، وعن تطوير جميع المواهب حتى يتمكن أصحابها من التعبير عنها لاحقا . تتم رعاية الجدارة وترقيتها من خلال ضمان تكافؤ الفرص الذي يضمن للتلميذ ، بغض النظر عن مكان تعليمه أو أصله الاجتماعي أو مستواه المادي ، نفس المعرفة في ظل نفس الظروف . 

رابعا، الاستقلالية الفردية : تهدف المدرسة الجمهورية إلى تنمية إرادة القوة والاستقلالية والاعتماد على الذات لدى التلاميذ . فمن خلال المعارف تسمح المدرسة بتنمية ضمير حر قادر على التمييز بين المفيد وغير المفيد من التقاليد والعادات الاجتماعية. إنها مؤسسة تمنح الطفل ، من خلال الثقافة والمعرفة ، الوسائل الضرورية لاستيعاب المعايير والقيم  الإنسانية الكونية من أجل أن يكون كائنا حرا مستقلا قادرا على ممارسة الفكر النقدي ضد كل أشكال الوثوقية والتعصب .  

أما الشروط التي لا يمكن لمشروع المدرسة الجمهورية الاستمرارية والتحقق من دونها فسنكتفي بذكر أهمها :

- حَوْكَمَة التعليم المدرسي : إن تأسيس مدرسة جمهورية في ضوء مقتضيات إصلاح تربوي جاد وطموح يتطلب إعادة النظر في طريقة إدارة المؤسسة التعليمية  التي يٌجْمِع خبراء التعليم على كَونِها مصدر الشر الذي يقض مضجع الشركاء الفاعلين في السياسة التعليمية ، ألا وهي الحوكمة التربوية أو حوكمة التعليم . والمقصود بحوكمة التعليم هنا ، أساليب تصور وتشغيل وإنتاج وتنظيم ومراقبة وتقييم الخدمة العمومية للتعليم والتي يتم تنفيذها من خلال تفويضات الخدمة العمومية التي تمنحها الدولة للكيانات العمومية ( الإدارة المدرسية ) التي يكون كل منها مسئول عن مهامه في مجال تدخله . و لا تقتصر حوكمة التعليم على هذه الوظائف بل تشمل تيسير الولوج إلى خدمة التعليم ومراعاة تنوع الاحتياجات التعليمية والاجتماعية للتلاميذ من أجل تعزيز اكتساب المعارف والمهارات والمواقف السلوكية المطلوبة للحياة في المجتمع .  ومن هذا المنطلق فإن مشاركة الإدارات المدرسية في الحوكمة الإستراتيجية لتسيير المؤسسة التعليمية قد أصبحت ضرورية أكثر من أي وقت مضى . غالبا ما يقلل سوء الإدارة وغياب الحوكمة  الجيِّدة من جودة التعليم المدرسي . فعلى الرغم من أن مدير المدرسة الجَيِّد لا يزيد بشكل مباشر  من تحصيل التلاميذ إلا أنه يؤثر بشكل غير مباشر عليه ، من خلال تحسين جودة التدريس والتأكد من استخدام الموارد المتاحة بحكمة وفعالية. فهو هنا بمثابة قائد الأوركسترا الذي يجمع بين عازفين متنوعين وحريصين على تميز واستقلالية أدائهم لِيٌنتِجَ معهم ، بفضل تناغم كل تلك الأداءات المختلفة ، قطعة موسيقية رائعة . وعلى العكس من ذلك تعني الإدارة غير الحكيمة  للمدرسة احتمال حصول كل أو بعض الاختلالات التالية : غياب الدعم اللازم  للمعلمين في حل المشكلات ، عدم تقديم المشورة التربوية المناسبة ، نقص المتابعة الميدانية للمعلمين والتلاميذ ، عدم التمكن من تحديد أهداف تعطي الأولوية للتعلم ..إلخ . وهذا ما يعني في المجمل أن سوء الإدارة المدرسية وغياب الحوكمة الإستراتيجية يعادل الجهل التام بمهام وغايات المؤسسة التعليمية . 

- إلزامية وشمولية التَمَدْرٌس :إن إعادة تأسيس المدرسة الجمهورية تتم عبر التأكيد على كونها مدرسة شاملة ، اندماجية وجامعة تضمن الولوج الإلزامي لجميع الأطفال إلى قاعاتها دون تمييز ، مع مراعاة خصوصياتهم ، ما يعني القضاء على فوضوية التمدرسالعشوائي والقطيعة مع المناهج وممارسات التعليم التي لا تنسجم مع مضامين القانون التوجيهي الجديد لإصلاح قطاع التهذيب . إنها مدرسة تقوم على مجانية وإلزامية  تمدرس جميع الأطفال الموجودين على الأراضي الوطنية دون تمييز ودون شروط مسبقة ، بما في ذلك الأطفال الذين لديهم ما يسمى ب " الاحتياجات التعليمية الخاصة " ، ما يعني أنها مدرسة تأخذ في الاعتبار تنوع وخصوصيات وتفرد التلاميذ ، بما في ذلك عندما تتطلب هذه الاختلافات والخصوصيات دعما محددا . وإذا كان كل تلميذ يحتاج إلى دعم قد يكون أكثر أو أقل ( تعليميا ، اجتماعيا ، بما في ذلك الدعم التربوي ) إلا أن القاسم المشترك بينهم ثابت ألا وهو : تلقي نفس المناهج والمقررات الوطنية الموحدة ، الدراسة وفق نفس استراتيجيات التعلم والتعليم ، ارتداء نفس الزي المدرسي الموحد ، توفر الأدوات الديداكتيكية اللازمة للتعلم ...إلخ . كل هذه الدعامات هي التي تسمح للتلميذ بتطويرالمهارات والقدرات التي يمتلكها ، وذلك لمنح الجميع فرصة الوصول إلى ثقافة مشتركة للعيش معا بكرامة وعلى أساس من الحقوق المتساوية .  

- دمج التعليم  قبل المدرسي في المنظومة التعليمية : من المعلوم أن التعليم قبل المدرسي يستهدف الأطفال الصغار حتى سن السادسة ويتم توفيره من قبل مؤسسات متخصصة ( روضات الآطفال ، المحاظر..إلخ ) . ونظرا لقدرته على تنمية القدرات الفكرية والممارسات السلوكية السوية لدى الأطفال فإنه يساهم بشكل ملحوظ في تسهيل تنشئتهم الاجتماعية واندماجهم في المدرسة . وبما أن جزء كبير من الفجوة الثقافية بين التلاميذ يتشكل في بيئتهم المنزلية حتى قبل دخولهم المدرسة الابتدائية فإن فضاءات التعليم قبل المدرسي تلعب دورا أساسيا في الوقاية المبكرة من الفشل المدرسي . فكلما كان التعليم  قبل المدرسي متجانسا من حيث  تقديم المعارف الأولية ، ومنظما طبقا لقيم وثوابت مشتركة ، قيم الدين الإسلامي الحنيف ، كلما نجح في الحيلولة دون ظهور تفاوتات تعليمية وخفف من تأثير البيئة الأصلية التي تربى في كنفها الأطفال . 

- جودة التكوين الأوَّلِي للمعلمين وتحسين ظروفهم المهنية والمادية : يعتمد النظام التعليمي لكل بلد على طريقة تنظيمه وعمله  والموارد المخصصة للتعليم . والمعلمون هم المصدر الأول لإكساب التلاميذ المعارف ، وعندما يفتقرون إلى الدافع والمهارات للتدريس بفعالية فلن يكون باستطاعتهم تقديم التعليم الشامل الجيد . لهذا لا بد لمدرسة تراهن على الجودة أن تجتهد في استقطاب المرشحين ذوي الخلفيات المعرفية القوية وأن تدرب معلميها بشكل فعال . وعلى الرغم من أن سياسات توظيف المعلمين جعلت من الممكن معالجة النقص المزمن في أعداد المعلمين لضمان الوصول العادل لجميع التلاميذ ، إلا أن هذه التدابير المتعلقة بالموارد البشرية للمدارس ما زالت تواجه بعض التحديات : التوزيع السيئ للمدرسين ، تركيز عمليات التمدرس في المناطق الحضرية على حساب المناطق الريفية أو المناطق ذات الخصائص البيئية الصعبة أو المعزولة. علاوة على ذلك يؤدي الافتقار إلى الخطط المهنية وظروف العمل الصعبة للمعلمين إلى نقص الحافز وارتفاع معدل التغيب . 

إن مباشرة تنفيذ مشروعَ  " مدرسةٍ جمهورية للجميع وبالجميع " ، وفق الترتيبات التي تم تنفيذها في ضوء " القانون التوجيهي لإصلاح قطاع التهذيب " يعني أن بلدنا سيستعيد تدريجيا العصر الذهبي للتعليم الأساسي وأن هذه المدرسة لم تعد من صنع مخيلتنا الاجتماعية بل أصبحت واقعا معاشا يمكن لكل التلاميذ الذين بلغوا سن التمدرس هذه السنة الاستفادة منه ولاسيما إذا أخذت السلطات التربوية والسياسية المعنية  التدابير والإجراءات اللازمة لتحفيز أولياء التلاميذ على الإقبال وإحباط أي محاولة أخرى لاحتواء هذا المشروع سواء من طرف أرباب مؤسسات التعليم الخاص أو من طرف أي قوى سياسية أو اجتماعية أخرى . 

الدكتور / سيدي محمد يب احمد معلوم 

خبير في إدارة عمليات الاكتتاب والمسابقات

سبت, 15/10/2022 - 00:11