"يا حبيبي" / عبد الله سيري با

من القرون ما يعيش، مثل قرننا، منذ بزوغه على اصطفاء النوابغ. ولعل هذه القرون تحتاج، كي ترى النور، إلى التضحية بأطيب ما في جنان الحياة من أزهار. جمال ولد الحسن، فچگانا عثمان، فحبيب ولد محفوظ..، لتكون 2001 سنة حزن على العباقرة المعطائين. لماذا على النجوم أن تهوي، بينما لا يفتأ الظلام الحالك يرخي سدوله على الكون؟ ولم على النجم أن يخبو كي نشرع حينها فقط في إدراك ما كان يغمر به حيواتنا من نور وهاج؟

صادفتُ حبيب أربع سنوات أو خمسا قبل أن أعرفه. حدث ذلك سنة 1987 أو 1988 على منعطفِ صفحةٍ من جريدة "موريتانيا دوميه". لقد شد ناظري عنوان استثنائي هو "رسالة مفتوحة إلى ناصر الدين". كان عنوانا ينفذ إلى الروح، مع حدة لاذعة، وتناول ينزع القداسة، ولا يولي اهتماما للرموز. كان مزيجا رائقا من الطرافة والألمعية، وطافحا بالموهبة. كان المقال موقعا باسم غير معروف، حينها لي، هو حبيب ولد محفوظ. وقد غمرني الإعجاب بالمقال، ويحرجني أن أعترف، فمشاعرنا نادرا ما تسير فرادى، أني شعرت كذلك ببعض الغيرة. لاحقا تعرفت عليه، وتتالت السنوات، فخبَـت غيرتي التافهة، دون أن تختفي بالكامل، لتفسح المجال لإعجاب "عقلاني". كنت أكن له ودا راسخا، وكان يشرفني بصداقته.

وقد قاده مسار من تلك المسارات الغريبة التي تعرج إليها الروح، والتي لم تكن الحجب ترفع عنها لغيره، إلى إصدار فرمان بتسميتي محمد عبد الله. وأخال أن هذا جرى بعد أن طرقت مسامعَه تلاوتي لآية أو اثنتين من القرآن بتلك النغمة الخشنة التي نعتقد نحن، سائرَ الزنوج الأفارقة، أنها الصيغة المثلى للعربية. فقرر إذن أني كنت تلميذا سابقا في المدرسة، اغترب طويلا عن مسقط رأسه إگـيدي، وأنساه فقدان للذاكرة، جرى في ظروف غامضة، لغتَـه الأم والدروس التي تلقى على يد شيوخه الموقرين. 

كان إگـيدي، لـحَبيب، أكبر كثيرا من حيز جغرافي. كان توقا مزمنا للماضي، وعالم طفولة جذلى لا حد لثرائه، وحضنا رؤوما، وروحا بعيدة الغور لا تطاولها آبار الصحراء. وكان إگـيدي كل هذا، وأكثر. فقد كانت تلك الربوع الأكثر عروبة من بين ربوع الأمازيغ مملكة من الظلال الرفيعة للمعاني الغامضة والقاتلة، حيث الحقيقة، باستثناء تلك التي تخرج مباشرة من مشكاة القداسة المطلقة، مراوغةٌ حمالة أوجه، وحيث يفضي أبسط تلميح إلى عوالم متعددة الدلالات، وحيث ينبغي أن نفك شفرة كل حرف من الأبجدية، على عكس صورته. إنها أرض نمت على أديمها أسماء ذات جرس غريب، وقصائد قصار ماتعة تدوي مثل الرعد في سحاب عاصف: إدوْدنيُّـقُـب، وإداتْـشْـفَغة، وإديْنضَـهُـنْض. 

تلك أسماء متحجرة تعود جذورها للغة وعالم اختفيا، وما انفكا حاضرين بعنفوان. وتطلق على قبائل "متحضرة حتى النخاع". أما انيفرار فهو قلب إگـيدي، وموطن العظيم ناصر الدين. وفي هذه البقعة الخرافية من "البوادي" الشاسعة للمذرذرة، وبين الزهد في متع الدنيا والتضلع من العلوم، اقترب الطفل حبيب من ضفاف الحداثة عبر أسماء وتعابيرَ غريبة على عالمه غرابةَ الجَمل على طفل من شعوب الإنويت في ألاسكا. وقد تم ذلك من خلال المقررات الدراسية الفرانكفونية. 

كانت تلك محطة حاسمة في حياة مرت مثل مسار تحضيري تشظى بين بين لحظات الدهشة وخيبات الأمل، لكنه ظل ثريا بالاكتشافات المثمرة. فمن انيفرار إلى نيويورك، ومن امحمدْ ولد أحمد يورة إلى رولان بارت. ومن فصل دراسي تحت خيمة، وتدريس الحسَّـانية للمتطوعين في هيئة السلام الأمريكية إلى الصحافة، وجريدة القلم، كان المسار الاستثنائي لمحارب گـرعاني رضع لبان أكثر المجموعات البيظانية تجسيدا لشيم الزوايا، وأتقن ببراعة نادرة المفاهيم الأكثر تطورا لحداثة في تحور مطرد.

كان يحتفظ بإگـيدي في روحه، مع قلب يسع العالم بأكمله. وهل في الأمر مفارقة؟ ظاهريا وحسب، فقد ظل حبيب بيظانيا، بيظانيا حقيقيا، بأقصى ما لهذا الوصف من شهامة وثراء. وكان أكثر المثقفين الفرانكفونيين تجسيدا لمنظومة اتبيظين، وأكثر امغنيين البيظان تمثلا للقيم الكونية. لقد كان يبحر دون عناء على متن "المركب السكران" لآرتِـر رامبو صوب قصيدة لولد ابن ولد احميْده. وكان على دراية بآداب الغرب توازي درايته بما ينتج النظامون العاملون في الحوانيت، ممن يخلطون في مزج سائغ اللغةَ الولفية بالحسَّـانية، كي يعبروا عما في غربتهم من وحدة و"مفاتن".  

وكان أبعد ما يكون من تبني الحقائق المعلبة؛ نافرا من كل ألوان التجنيد؛ مسلطا سيفه على فقاعات الاستبداد وطواحين العقل؛ ذا روح متوثبة ضد السائد. وكان شاعرا أصيلا في بلد به مليون شاعر زائف؛ كان من أولئك الذين يعيشون شعرهم أكثر مما يكتبونه. لقبتْـه هندُ بـ"المجنون". وكانت تلك كلمة صغيرة بإعجاب كبير، للقول إنه إنسان لا نمطي: خلي غير مبال كريم موطأ الأكناف فوضوي عبقري حيي مهووس بانتقاء العبارة أبي النفس، و"رافض لشتى ألوان الغرور" في الوقت نفسه، لا قِـبل لأحد بإفساده، ذو مقدرة على السخط يعز لها نظير، يحفظ حق الصداقة، يراعي الآخرين، لا يبدي ذرة تسامح تجاه أصحاب الطباع السيئة والأوغاد مهما كانت خلفياتهم. 
كان وفيا لمبادئه وعبثيا. وكان يقول إن الإنسان هو الحيوان الوحيد القادر على العيش بعبث. وقد عزز بسلوكه هذه العبثية حد التضحية الكبرى. ولم يكن ذلك أفضل ما فعل. ولكن لا يهم كيف عاش، ولا ما كان أفضلَ عمل قام به. لقد كان حبيباً، ونادرا ما طابق الاسم المسمى بهذا القدر من الصدق والمرح والظرافة.

في أمان الله، أخي الأصغر. ولتجد، حيث ما حللت، ربوة صغيرة من إگـيدي، وبضعة كتب مما يحلو لك أن تطالع، وصديقين أو ثلاثة من إدينْـضْـهُـنض تنتشي وإياهم بإنشاد قطعة لامحمد ولد أحمد يورة، ثم تطلقون عاليا ضحكاتكم. 

اثنين, 20/12/2021 - 08:42