حريق الجنوب: نور أو نار

دون سابق إندار شب الحريق في السنغال، وتلاحقت الأحداث وتطاير الشرر، فخرجت الأوضاع عن السيطرة، وغاب العقل والمنطق واستحكمت حلقات الأزمة، ولم يكن لأصوات الحكماء صدى لأنها تأخرت عن وقت الحاجة، إذ لم يستفق أصحابها إلا بعد أن أخرج الغضب والجوع جموع الشعبالهائجة المائجة، والفتنة كالبركان إذا ثار تطايرت الحمم في كل اتجاه، فأحرق لظاها ما انتهت إليه، ومن لم تصبه أصابه من دخانها.

 

لم يكن حريق الجنوب وليد اللحظة، ولم تكن محاكمة متهم بالاغتصاب لتشعل كل هذه الحرائق، لولا أن الجمر كان ملتهبا تحت الرماد، وكان الغافلون يمدونه بأسباب البقاء، ويجمعون حوله الغثاء والحطمة، ثم جاء من أوقد عود الثقاب ليحترق هو وغيره، وقد كان قبل يمني النفس بالمكاسب، متناسيا أن السفينة تغرق ويهلك الجميع حين يسود منطق: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا).

لقد تملكنا الرعب - منذ شب الحريق – وبلغت القلوب منا الحناجر، ولا عجب!.. فما يؤلم إخوتنا في الدين يؤلمنا، فكيف إذا كانت تجمعنا بهم الجغرافيا والتاريخ والواقع والمصير المشترك، ثم إن رمادنا –ومن تحته وميض النار - أكثر من رمادهم، وحالنا أسوأ من حالهم، فهل يكون لهيب دكار لنا نورا يضيء نهاية النفق، أم نتجاهل الخطر - وقد جاء النذير - فتأتي النار على الأخضر واليابس لا قدر الله، فيصدق فينا بيت ابن الصمة:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد.

 

لا تزال أمامنا - بحمد الله - فرصة لسكب الماء على الجمر الهامد وإبعاد عيدان الثقاب!.. لكن بشرط أن نعمد إلى مركز "المحرقة"، ونحدد بدقة مصدر عيدان الثقاب؟!.. وهو أمر يسير إذا ما اعتبرنا بدرس الجنوب، الذي أثبت أن مصدر النيران: ثقاب القادة الشعبويين الراديكاليين، وجمر الغبن والأثرة والمظالم الاجتماعية.

 

إن من أخطر ما يتهدد بنيتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الهشة، صعود قادة شعبويين راديكاليين، وناشطين جمعويين ليس لديهم ما يخسرونه، لا تزعهم الاعتبارات الاجتماعية والمبدئية والتنظيمية، ولا يجدون غضاضة في توظيف ما يحقق مصالحهم، حتى لو أثار الحزازات وعرَّض السلم الاجتماعي للخطر، ويزيد من تأثير هؤلاء اختطافهم لملفات ساخنة وعرائض مطلبية محقة، وعزفهم على وتر التنوع الإثني وما يتصل به من إرث إنساني، وهي عناوين مثيرة تضمن لهم البقاء في دائرة الضوء، وتحقق الشهرة والمال والتأثير.

 

وقد ساهم في صناعة أعواد الثقاب هذه كثيرون، عن حسن نية أحيانا وسوء نية أحايين، أولهم السلطة نفسها، التي ستكون أكبر الخاسرين حين يستد ساعد القوم، لأنها من حرك رقعة الشطرنج، واستغل الشعبويين في ضرب الخصوم وخلط الأوراق، وغَضَّ الطرف عن تجنيهم وجناياتهم، بل ومدهم بالوسائل ووفر لهم شروط البقاء، كما أن لبعض خصوم السلطة – من سياسيين وأيديولوجيين – دور لافت في صناعة الظواهر الشعبوية، فقد نفخوا فيها الروح ومدوها بالدعاية والتلميع في صفحاتهم وصحفهم الصفراء، استثمارا للزخم الذي يصنعه الخطاب المتشنج، ونفاذا إلى جمهور تستقطبه شعارات ووعود الانعتاق واستعادة الحق السليب.. هذا الصخب جعل لدعاية القوم الصوت المعلى، وغطى كل صوت عاقل يوازن وينظر في المآلات، بل وعرض أصحابه للتخوين والتوهين والابتزاز.

 

وازداد الأمر سوءا حين استثمر دعاة وأدعياء الحقوق والحريات في هؤلاء الشعبويين الانتهازيين، ووفروا لهم الحماية القانونية، ورافعوا عن كل مآثمهم، وجعلوا منها مآثر وأمجادا للفخر والاعتزاز، وحولوهم إلى زعامات تتلقفها المنظمات الأجنبية لتستثمر فيها هي الأخرى، وتتيح لها من الدعم السياسي والمالي ما يفاقم الأزمة، ويدخلها في حسابات إقليمية ودولية تزيد من تعقيد المشهد، وتخرجه عن السيطرة.

 

هكذا تُصنع وتُنتج عيدان الثقاب، وهكذا تسوق داخليا وخارجيا بمشاركة جهات كثيرة، لذا فإن اعتبارات السلامة تستدعي تفكيك شبكات الارتزاق الشعوبية والشعبوية هذه، والتوقف عن الاستثمار فيها، لأنها باهظة التكلفة، عالية المخاطر، قليلة العائد، مع ضرورة وضع القوم أمام مسؤولياتهم، وعدم منحهم إعفاء دائما من المساءلة، أو تفهم وتسويغ كل ما يصدر عنهم، مما لا يُقبل عشر معشاره من غيرهم.

 

ولن يكون بالإمكان احتواء الدعوات الشعبوية الراديكالية قبل استعادة الملفات المختطفة، والنظر في المطالب المحقة بمنطق المصارحة والمصالحة، بعيدا عن الضجيج والتأجيج وتصفية الحسابات، ومواجهة استشراء الفساد والأثرة واحتكار المال والسلطة وفق آليات جادة ومستقرة، بعيدا عن الاعتبارات والمناكفات السياسية!.. لقد تراكمت المظالم واستشرى الفساد وتبجح المفسدون لحد لا تمكن معه المراهنة على سلبية ومسكنة المطحونين وعدم وعيهم بالحقوق، وكيف نأمن تململ الجياع وقد أُطلق العنان للمفسدين ومراهقيهم، يبددون ثروات البلاد في كل مناسبة ودون مناسبة.

لقد رأينا بأم أعيننا كيف استيقظ المارد في الجنوب، وكيف أن الثائرين الجوعى لم تأخذهم رأفة في مصالح المترفين، الذين لم يرقبوا في الأمة إلًّا ولا ذمة يوما من الأيام .. لقد نفد صبر الشعب وانفجر بركان الغضب بفعل ضغط الواقع، ولم تعد تجدي المواعظ الباردة وطلبات ضبط النفس وخطابات التدجين، بعد أن شبت الأجيال المحرومة عن الطوق، وتلاشت معاني الانتماء للوطن، وأضحت مرافقه العامة تجسيدا للغبن والأثرة والإقصاء، لا تجد الأمواج البشرية أدنى حرج في تكسيرها وتدميرها، لا لدواع إجرامية – كما يروج المترفون - وإنما لتنفيس بركان الغضب الدفين.

 

إن قرارا حاسما باجتثاث الفساد والمفسدين، واسترجاع الأموال المنهوبة، وتفتيت الثروة حتى لا تبقى دُولة بين الأغنياء، وتفعيل مساطر الرقابة والمساءلة، كل ذلك سيسهم في إطفاء الجمر الملتهب، ويجنب البلاد ثورات الجائعين، وسيكون من المهم الإسراع في إطفاء الشرر المتطاير هنا وهناك، بدءا بتسوية عادلة لأزمة ديون الرضا، فقد كانت السلطة جزءا من المشكلة بالتغاضي على الأقل، لذا يجب أن تكون جزءا من الحل، وإعادة الاعتبار لأهلنا في تفريت ومحاسبة الجلادين، وإطفاء حرائق قطاع التعليم، ومواجهة مافيا الغلول وعصابات الحرابة، ومحاسبة كل مسؤول كثر شاكوه وقل شاكروه.

 

لا تقولوا - بربكم - هذه مطالب صغيرة، يتناسها الناس مع التأجيل والتسويف!.. 

لا والله .. ما هي بالصغيرة .. وليس في النار صغير.. ومعظم النار من مستصغر الشرر.

 

اللهم إني قد بلغت.. اللهم فاشهد.

ثلاثاء, 09/03/2021 - 09:51