انتحار إنسانية الغرب في غزة

لم يشهد التاريخ القديم ولا المعاصر مثيلًا لما حصل في العدوان الأخير على غزة، فقد جرت العادة أن تكون الحروب بين دولٍ بينها بعض التكافؤ أيًا كانت طبيعته أو بين دولٍ قوية غازية تواجه شعوبًا تنتشر في أراضٍ شاسعه وخلفها من يدعمها، أما ما حصل في غزة فقد كان عدوانا اشترك فيه تحالف لأقوى الدول في هذا العصر ضد أصغر بقعة جغرافية فيها أكبر كثافة سكانية محاصرة منذ ما يقارب عشرين سنة.
فغزة هذه التي اعلن هذا التحالف الحرب عليها ليست دولة لها جيش قوي يمكنه أن يدافع عنها وإنما فيها مجموعات مقاومة تتسلح أساسا بإيمانها وإرادتها وبما تصنعه محليا من وسائل متواضعة لمواجهة الغزاة المحتلين.
 وإضافة إلى صغر المساحة الجغرافية فإنها أرضٌ سهلة لا جبال فيها ولا مرتفعات ولا غابات فهي مكشوفة وقابلة للتدمير بسهولة بأبسط الأسلحة فكيف إذا كانت، والحالة هذه، تواجه تحالفًا دوليًا يمتلك أحدث وأخطر الأسلحة الفتاكة في هذا العصر.
إن العدوان على غزة وبهذه الصورة قد أوضح لنا زيف إنسانية وحضارة الغرب وكذب ونفاق وعدوانية مسؤوليه.
 وسنتوقف عند نقاط سريعة تظهر حجم الإفلاس الأخلاقي عند الأمريكان هم ومن سار في فلكهم:
- تنادى الغرب بطائراته وأسلحته الفتاكة وتقانته المتقدمة نجدةً لدولة الاحتلال وأمدوها بأحدث ما أنتجته مصانعهم من وسائل القتل والتدمير لسحق الأطفال والنساء والعجزة وتدمير المستشفيات وسيارات الإسعاف والمؤسسات التعليمية ودور العبادة..
- ومع الدعم العسكري السخي جاء الدعم السياسي والإعلامي والنفسي مؤازرةً لدولة الاحتلال وتخلى الغرب جهارًا نهارًا عن دعاويه في حرية التعبير فسجن الناس في الغرب لأنهم تظاهروا احتجاجا على ما ترتكبه دولة الاحتلال من مجازر في حق الأطفال والنساء في غزة أو لأنهم عبروا عن استيائهم من وقوف بلدانهم دعمًا لهذه المجازر أو لأنهم وصفوا أعمال دولة الاحتلال بالأعمال الوحشية فكان مصير هؤلاء السجن أو الفصل من العمل أو الدراسة أو الإبعاد أو حتى إسقاط الجنسية أو التهديد بذلك بحجة أن التعبير عن التضامن مع الأطفال والنساء من ضحايا العدوان، يعد معاداة للسامية.
- لم يكتف الغرب بالدعم العسكري والسياسي لدولة الاحتلال  لتدمر أهل غزة الذين قتلوا وشردوا ودُمرت بيوتهم فشارك في تجويعهم بأكثر من وجه أولًا بعدم الضغط على دولة الاحتلال للسماح بإدخال المساعدات، وهم الذين يرعونها ويمولون حروب الإبادة التي تنفذها بوحشية،  لكنهم ساهموا أيضًا في سد بابٍ من أبواب الدعم الإنساني كانت تقدمه منظمة الأنوروا. فلما ادعت دولة الاحتلال أن بضعة أشخاص من موظفي الأنوروا شاركوا في السابع من أكتوبر تداعت الدول الغربية مسرعةً وقررت وقف تمويلها لمنظمة الأنوروا ولم تشفع نداءات مسؤولي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية في إعادة النظر في هذا القرار بل إن بعض الدول التي قررت وقف الدعم اعترفت لاحقًا بأن دولة الاحتلال لم تقدم أدلة على ما ادعته بشأن مشاركة بعض موظفي الأونوروا في السابع من أكتوبر ومع ذلك لم يتغير موقف تلك الدول
- ومن مظاهر دعم الدول الغربية لدولة الاحتلال أيضًا تكرارهم لهذه العبارة التي أصبحت ممجوجة وفاقدة المعنى ألا وهي: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وهم هنا يناقضون أنفسهم ويتجاهلون القوانين التي وضعوها هم أنفسهم وهي أن المحتل ليس له أن يحتج بحق الدفاع عن النفس عندما يتعامل مع الشعب الذي احتل أرضه كما أن الدول الغربية تجاهلت مبدا حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وهو حق تكفله القوانين والأعراف الدولية وميثاق الأمم المتحدة لكن الدول الغربية، إمعانًا منها في دعم دولة الاحتلال، سلبت الفلسطينيين حقهم في الدفاع عن أنفسهم وهم الضحية ومنحوا ذلك الحق لإسرائيل وهي الدولة المعتدية الظالمة
- ولم تكتف دول الغرب بأشكال الدعم هذه بل عارض عدد منها مجرد المطالبة بوقف إطلاق النار بحجة أن ذلك سيكون في مصلحة حماس غير عابئن بعدد الضحايا من الأطفال والنساء الذين يسقطون يوميًا بأسلحتهم وقد بلغ عدد ضحايا العدوان في غزة أكثر من مائة ألف شخص بين شهيد وجريح معظمهم من الأطفال والنساء اي ما يمثل حوالي 5% من سكان القطاع.
- ومن مظاهر الدعم الأمريكي والغربي لدولة الاحتلال أنهم لا يتحدثون إلا عن تحرير "الرهائن"- أسرى الاحتلال-  فلا يذكرون عبارة التبادل ويتجاهلون آلاف الأسرى الفلسطينيين وحقهم في الحرية.
- وظهر نفاق هذه الدول وعدوانيتها بشكل أوضح عندما يكرر قادتها مطالبتهم بزيادة الدعم الإنساني المقدم للفلسطينيين وفي الوقت ذاته يصرون، دعمًا لدولة الاحتلال، على مواصلة الحرب وكأنهم يقولون أطعموهم في الصباح واقتلوهم في المساء وهذا غاية في التناقض والتجرد من الإنسانية
- ثم جاءوا بفكرة  إنزال المساعدات من الجو التي تمثل في حقيقتها  مظهرا آخر من مظاهر النفاق فضلا عن أنها احد  عناوين  العجز والعبث، فاسقاط المساعدات من الجو لا يحل المشكلة بل فيه إهانة للغزيين وحط من كرامتهم ، فالمساعدات الحقيقة الجادة الصادقة ينبغي أن تأتي للناس في بيوتهم بصورة كريمة ومنظمة لا أن ترمى ليتسابقوا إليها ويتدافعوا وفي ذلك من المخاطر ما لا يخفى. وقد هيأ الاحتلال والغرب حالة الفوضى في توزيع المساعدات من خلال الحرب على المؤسسات الحكومية في غزة التي بإمكانها تنظيم التوزيع واكملوا بالحرب على منظمة الغوث - الأنوروا، كما ذكرنا، ليعيش أهل غزة بين التجويع والفوضى. لكن المساعدات الإنسانية عموما لها جانب فيه خبث يستهدفه الغرب عن قصد وهو محاولة امتصاص غضب الرأي العام المنتفض ضد الكارثة في غزة هذا فضلا عن أنه يمنح دولة الاحتلال فسحة أطول لمواصلة الحرب.
- التشكيك في عدد الشهداء في غزة بل ونكران ما أقره العالم من جرائم ضد الإنسانية ومعارضة قرار محكمة العدل الدولية بحجة أنه لا يخدم مفاوضات تحرير "الرهائن"..
- تحميل مسؤولية كل الأحداث لحماس وطرح القضية كما لو أنها بدأت في السابع من أكتوبر لتبرئة المحتل والتغاضي عن جوهر المشكلة الذي هو الاحتلال.
-  ومن مظاهر نفاق الأمريكان وحلفائهم الغربيين أيضًا دعوتهم لحل الدولتين وهم يعرفون أن هذا الحل مستحيل على أرض الواقع لأن دولة الاحتلال لا تقبله ولأن ما تبقى من فلسطين التاريخية أكلته المستوطنات مع إصرار إسرائيل على السيطرة على كل الأرض ولكن الغربيين يدعون لحل الدولتين من أجل تأمين حصول دولة الاحتلال بالطرق السلمية على مكاسب لم تحصل عليها بالطرق العسكرية.

تكييف الغرب للصراع
ولعل مرد كل هذا إلى تكييف الأمريكان  والغربيين عموما لهذا الصراع فطبقوا فيه معادلة ظالمة هي جعل المحتل المعتدي هو المظلوم بينما الضحية والشعب الذي احتلت أرضه هو الإرهابي الظالم ويكفي هنا لنرى نفاقهم وازدواجية معاييرهم أن نقارن بين موقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية من الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبين موقفهم من العدوان على غزة فأوكرانيا التي تعرضت لغزو روسي، له ملابسات معينة، حصلت على دعم عسكري ومالي وسياسي سخي من الغرب ووصل الأمر  بأن أصدرت الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة الجنائية الدولية المدعومة من الأمم المتحدة مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و "نقلهم بصورة غير قانونية" من أوكرانيا، حسبما قال رئيس المحكمة الجنائية الدولية، بيوتر هوفمانسكي.
 أما في حالة عدوان إسرائيل على غزة فقد عكست الصورة تماما إذ تلقى المعتدي المحتل كل أنواع الدعم كما بينا بينما أخضع الضحية لكل أنواع الظلم والحصار والتجويع ووصفت المقاومة بالإرهاب.
وتوارى المدعى العام لمحكمة الجنايات الدولية خان وتجاهل جرائم المحتلين الصهاينة في أهل غزة ويبدو أن للمدعي العام حظ من اسمه.

إنها إنسانية الغرب
إن الذي يتحمل وزر العدوان على غزة هو الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية فهذه حربهم التي مولوها بالسلاح والمال والجنود والخبرات والمعلومات الاستخبارية وتهديد وزجر اي جهة تحاول دعم أهل غزة في محنتهم العصيبة.
كشفت غزة زيف إنسانيتهم وكذب دعاويهم باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، قتلوا الأطفال والنساء والشيوخ بالأسلحة الفتاكة ودمروا المستشفيات ومنعوا الوقود والدواء ووسائل العلاج عنها واعتقلوا وقتلوا الأطباء والمسعفين واكملوا بمنع الجرحى من الخروج للعلاج خارج القطاع  ومن نجا من القصف قتلوه بالرعب والتجويع والبرد الشديد.. إنها إنسانيتهم الزائفة وحضارتهم الظالمة.. 
وأخيرا قصفوهم واغتالوهم وهم يبحثون عن لقمة العيش.
 اجتمع هؤلاء كلهم على هذه القطعة الجغرافية الضيقة لسحقها وتدميرها ثم يذرفون دموع التماسيح على المدنيين مع التظاهر بإنسانية زائفة قدموا بموجبها مساعدات هزيلة ليختلط الدقيق بالدماء. 
أنزلت أمريكا عبر الجو 38 ألف وجبة على غزة بينما ألقت دولة الاحتلال ما يقارب 100 ألف طن من القنابل والذخائر والمتفجرات الأمريكية على غزة ليكون نصيب كل مواطن في غزة من القنابل والذخائر الأمريكية حوالي 30 كلغ ، فماذا تفيد 38 ألف وجبة لأكثر من مليوني نسمة يعانون من المجاعة والأمراض.
القنابل والأسلحة الفتاكة الغربية طريقها سالكة لذلك تنهال بكثافة وانسياب على الأطفال والنساء والشيوخ تسحق البشر والحجر،
أما المساعدات الإنسانية فإما ممنوعة أو تصل بكميات قليلة وبعد طول انتظار..
إنها حضارتهم التي كلفوا دولة الاحتلال بتمثيلها، حضارة الإبادة والقتل والتدمير.. 
لغة نفاقهم أصبحت واضحة فهم يكررون دائما فكرة تخفيف عدد القتلى المدنيين ، أي بمعنى اقتلوا ٩٠٠ بدل ١٠٠٠ وبذلك يحصل التخفيف..!!
وإذا إرادوا التظاهر بالاهتمام بالاطفال والنساء بعد أن تشبع دولة الاحتلال من دماء أطفال غزة طالبوا بتحقيق ومتى كان السارق يحقق مع نفسه ويطبق عليها العقوبات؟، فما فائدة التحقيقات وهل تحتاج مأساة غزة هذه إلى تحقيق والعالم يتابعها على الهواء مباشرة.
نحر الغرب انسانيته وأظهر زعماؤه تحجر قلوبهم.
فعندما تدعو اغلب دول العالم لوقف الابادة الجماعية في غزة ترتفع يد واحدة- يد فيتو أمريكا التي رفعت في مجلس الأمن للمرة الثالثة منذ بدء العدوان- تلغي ذلك الإجماع مؤذنة بمواصلة المجازر وتدفق انهار الدماء .. وبعد ذلك يتحدثون عن حقوق الإنسان واحترام القوانين الدولية.. إنه قانون الغاب في أوضح صوره..
انتصرت أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا ودول غربية أخرى على الخدج والمواليد والرضع في غزة لكنهم انهزموا هزيمة حضارية واخلاقية ونحروا انسانيتهم، إن كان بقي منها شيء ينحر، في القطاع المحاصر..

معارضة التهجير العنوان الملغوم 

تهدف دولة الاحتلال إلى تهجير سكان غزة بل وتهجير كل سكان فلسطين وهذه سياسة قديمة جديدة وعقيدة راسخة لدى هؤلاء المحتلين.
أعلنت عدد من الدول العربية وخاصة دول الجوار معارضتها لتهجير الفلسطينيين وتهجير أهل غزة تحديدًا وهذا موقف جيد من الناحية النظرية ولكن عند التطبيق فيه بعض التفصيل فالدول التي تعارض التهجير وخاصة مصر يتوجب عليها تهيئة الظروف الملائمة لسكان غزة للبقاء في أرضهم وأول تلك الظروف هي حمايتهم وحماية بيوتهم وتأمين استقرارهم في أرضهم ورفع الحصار عنهم  وإذا لم يحصل هذا تكون معارضة التهجير مجرد كلام نظري.
ثم إن إرسال الجيوش إلى حدود غزة لمنع السكان من الخروج بحثًا عن الأمان يمثل في هذه الحالة مشاركة فعلية في العدوان والحرب على أهل غزة ولا أظن أن أهلنا في مصر يرضون بذلك.
فمصر هي الشقيقة الكبرى وهي التي تتوسط لإيقاف العدوان على أهلنا في غزة فلا يليق بها إلا ما يليق بمكانتها .. 
ومع ذلك فمن المؤسف أن يهاجم وزير خارجية مصر المقاومة في غزة ويقول إنها تتبنى العنف ولا تعترف بإسرائيل في الوقت الذي تسحق فيه دولة الاحتلال أهل غزة أطفالا ونساءً وتهدد بتهجيرهم خارج أرضهم، 
فقد قال شكري في رده على سؤال من وزيرة خارجية دولة الاحتلال السابقة تسيبي ليفني، خلال جلسة نقاشية ضمن مؤتمر «ميونيخ للأمن 2024» حول مستقبل دولة فلسطينية، في ظل وجود حركة حماس: (إن الحركة بالفعل خارج الأغلبية المعترَف بها من قِبل الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، ويصعب الوصول لأي تسوية تفاوضية في ظل رفض حماس التنازل عن دعم العنف).
وكانت ليفني وصفت الحركة بأنها جزء من المشكلة وليس الحل.
 فإذا بالوزير المصري، ومصر وسيطة بين المقاومة والاحتلال، يتفق مع الوزيرة الصهيونية في الأمر ذاته وهذا أمرٌ  مستغرب. 
وهذا الموقف يذكر بالمؤتمر الصحفي الذي عُقد في القاهرة بين أبو الغيط وليفني، الذي أعلنت فيه ليفني بدء الحرب على غزة سنة 2008، بينما وقف وزير الخارجية  المصري وقتها صامتا، وهو ما عُدّ حينها علامة رضا عما تقوم به إسرائيل من جرائم بحق الشعب الفلسطيني.
اتفق الوزير المصري الحالي مع طرح ليفني وصمت الوزير السابق صمت رضا عن خطط الاحتلال فاتفق الوزيران كل بطريقته على مساندة الاحتلال وطعن المقاومة.
اختلفت طرائق التعبير واتحدت المآلات... 
وهذا يعارض حتى منهج "الحياد" الذي تتبناه الحكومة المصرية. 

إن الذي ينبغي التوقف عنده هنا هو أننا إذا كنا نلوم الغرب على ظلمه ودعمه لعدوان دولة الاحتلال على غزة فماذا نقول للأقربين؟
رحم الله صاحب تلك العبارة المشهورة: "لن نترك غزة وحدها" وقد جاء هذا التصريح بمناسبة عدوان دولة الاحتلال على غزة سنة ٢٠١٢. تكرر العدوان لكن المواقف تغيرت.
ومما يؤلم ويدمي القلب تصريح أحد قياديي المقاومة في غزة الذي طلب فيه من العرب أن يتعاملوا مع غزة كما يتعاملون مع إسرائيل في إشارة إلى ما أسماه الإنزال الجوي الاستعراضي للمساعدات في حين تفتح الجسور والمعابر مع دولة الاحتلال بسهولة وانسياب.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد،، إن كان في القلب إسلام وإيمان.

اثنين, 04/03/2024 - 17:04