ولاتة - تميز معماري وإشعاع ثقافي

في ختام مقالة سابقة، تحت عنوان "العمارة الولاتية : دار المرواني ولد سيد محمد نموذجا " وعدنا بجزء ثان نتناول فيه توابع الدار الولاتية ومرافقها، ثم نشفع ذلك بنظرة من فوق سطح الدار لنأخذ "الصورة الكبيرة" عن المعمار الولاتي في إطارهالأوسع ...

غير أننا هنا نود أن لا نقتصر على توصيف العمارة، بل نحاولأن نتخلله ببعض النكت التراثية والأدبية. ولعل من أحسن مانفتتح به هنا، أبيات شعرية للمؤرخ الكبير المختار بن حامدنرحمه الله، حيث زار المدينة الخالدة منتصف السبعينات، وأقام فيها مدة... وعندما حان وقت المغادرة، فكأن الفراق اشتد عليه، فجادت قريحته بقصيدة طويلة، معبرة، يُستشف منها الكثير مما يؤكد المحبة المتبادلة والود الأصيل بين أهل موريتانيا بمختلف جهاتها والتواصل التاريخي فيما بينهم. قال فيها:

بلقيا بني والاتَ تحيى القرائح :: وتمسى رزايا الضر وهي صحائح

أقمت بها حينا من الدهر صالحا :: وقد طاب لي حين هنالك صالحُ

ألا يا اسلمي واحييْ ولاتةُ وانطقي :: فموتك رزء يا ولاتةُ فادح

فما أنا من رزء وإن جلَّ جازع :: ولا بسرور بعد موتك فارحُ

 

(2)

بعد أن وصفنا في الجزء الأول من المقال، المكونات والغرف الرئيسية في دار المرواني كأنموذج للمسكن الولاتي، نتناول هنا مرافق الدار الولاتية ، ثم نصعد فوق سطح المنزل لإلقاء جولة بصرية على الجوار ومن ثم نأخذ "بانوراما" للإطار المعماري الأوسع ...

(سَيْرْيَه)

سقيفة مفتوحة الجوانب، تربط بين صحن الدار وبين الممر الذى يقود إلى توابعها مثل الحمام ثم إلى (حوش البقر)... تُعلق في "سَيْرْيَه" قربة الماء حيث يتم تبريده بشكل طبيعي بفضل تعرض القربة للتيار الهوائي البارد. إذ تتميز (سيرْيَه) بكونها فضاءباردا يتخلله الهواء القادم من الجهتين الشمالية والجنوبية،ويتوضأ فيها أهل البيت في وقت الحر، فينسكب على  أعضاء الوضوء نسيم بارد يمتزج بماء الوضوء مضفيا على الجسم انتعاشة حقيقية تعجز عنها مكيفات الهواء المصنعة في زمننا المعاصر ... كما تلعب (سيرْيَه) أيضا دورا هاما للأطفال الصغار كمنطلق للعبة "الغميضة" وغيرها...

 

المطبخ  أو (فَلِّ) : 

وهي لفظة تعني المطبخ، ولها أصل عربي، جاء في المعجم (فَلُّ الحديدِ أو النار، أي ما تناثر منهما)...

ولذلك سُمي المطبخ الولاتي باسم (فلِّ)، لِمَا يتناثر منه من الأدخنة وشرر النار وروائح التوابل...و يقع (فَلِّ) غالبا في جانب خلفي من الدار، على منأى من الحوش و الحجرات.

 

(حوش لبْگرْ)

وهو عبارة عن حظيرة مخصصة لإيواء الماشية والأبقار، مبنية على شكل (حوشين اثنين ). الحوش السفلي وهو خاص بإيواء الأبقار في فصل الخريف وأحيانا الإبل بحلول فصل الشتاء، والحوش العلوي وهو خاص بالأغنام والعجول. يقع (حوش البقر) في مستوى منخفض جدا عن بقية الدار، یتم النزول إلیه عبر مصطبات متعددة، وفيه يقع أيضا بيت خاص بالعجولوالجديان لمنعها من الإختلاط بأمهاتها قبل إجراء عملية الحلب.

ويفسر تصميم (حوش الأبقار) بهذه الطريقة ،  بكون المنازل الولاتية الأكثر رقيا، يحرصون عند بنائها على أن يتم إعداد الأرضية والأساسات لتكون الدار مبنية على مستوى مرتفع. أما الحظيرة الحیوانیة فتبنى على الأرضية الطبيعية على المستوى العادي.

 

(3)

المنزل في إطاره الأوسع

ولوضع القارئ في كامل المشهد، سنتطرق لاندماج المنزل في الإطار الأوسع لجواره ومحيطه الذي يقع فيه، لتتشكل "الصورةالكبيرة" عند القارئ بعد هذه الجولة في المنزل الولاتي...

وهنا ينبغي الصعود إلى سطح الدار عبر الأدراج التقليدية التي تؤدي إليه، المبنية داخل (الحوش)... وعند ذاك، بفضل الموقع المرتفع للدار في أعالى المدينة، فإن الصعود إلى السطح  كفيل بالإشراف  على المشهد العام للقرية واعطاء نظرة فوقية شاملة علىولاتة بمختلف أحيائها وحتى محيطها القريب : الكدية ( وكارِفَلّ) و (زَيْرَنْكُمُّ) ودار الشيخ سيد احمد البكاي الكنتي غربا، و أحياءالمحاجيب فى"الزر الساحلى" (شمالا)، ، ومنطقة (زِبِلِّ ) جنوبا، وحي الشرفاء في الوسط ، ثم الحي الإداري و سدّ المدينة "لغليق" شرقا...

ومن بعيد على مرتفع شاهق شرقا، يمكن رؤية "الخوبة" مقر قلعة "النصارى" التي اتخذوها مقرا إبان الاستعمار، وبعد الاستقلال استعملتها الحكومات كسجن بات سيء الصيت...

(4)

أما المسجد العتيق، فيقع في الجانب الشمالي الشرقي، تحيط به كثبان رملية كبيرة ما فتئت تتهدده، حتى تم ترميم المسجد ودفع الرمال عنه.

ومع أن المصادر التاريخية لم تذكر بالضبط متى بني المسجد إلا أنها تتفق في أقدميته على أغلب مساجد البلاد، وفي هذا الصدد تذكر بعض الروايات أن بالمسجد ضريحا لأحد التابعين، وهو ابن الصحابي عقبة بن نافع، وفي ذلك يقول أحد شعراء المدينة :

بجامعها العريق ترى عِياناً  @@خُـطى التاريخ عاليـةَ الوئـيد

       منارتــه تـبوح بألْـــف ســرٍّ @@فـتـحكي قصة المجْد التــليدِ

     هُنا سجَـدَ الصحابة مذْ قرونٍ  @@ ويكفيك ابن عقبةَ منشـهيــدِ

وإضافة إلى دوره في أداء الشعائر، يلعب المسجد العتيق دورا هاما في الساحة العلمية الولاتية، ففيه يتدارس القوم أمهات الحديث والتفسير والسيرة والمغازي، ضمن برنامج دقيق. ففي ليالى الشتاء يتدارسون تفاسير النسفى والبغوي خاصة مع حاشية الخازن، كل كتاب يمسكه أحد الشيوخ، ويتناوبون في تفسير الآيات،  وتكون الحلقةبعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، كل ليلة حلقة على مدى 120 حلقةطيلة الشتاء. أما الحديث فكانوا يبدأون حلقاته عندما يدخل هلال شهر رجب وحتى يوم السادس والعشرين من رمضان، يتدارسون صحيح البخاري مع شروحه، يوميا من بعد صلاة الظهر وحتى دخول وقتالعصر، وذلك في 86 حلقة يومية (يسمون كل حلقة حزبا).

وفي شهر المولد النبوي ينشدون مديحيات ابن مهيب الخماسية من بداية شهر ربيع الأول حتى ليلة المولد النبوي الشريف. وإضافة إلى قصائد ابن مهيب، يمدحون بقصائد لشعراء محليين تتناول معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. وتقام هذه المدائح في جناب خاص من المسجد يسمونه (صف المعجزات)...

 

(5) المقامة الولاتية

وقد نتوقف هنا قليلا... فنذكر ما ألهمته تلك العادات الولاتية الحسنة، و آثار الصالحين وكبراء العلماء لبعض الزائرين كمثل المؤرخ الكبير المختار بن حامدن رحمه الله، حين زار المدينة التاريخية، فأُعجِب بها وبأعرافها، فجادت قريحته العتيدة بمقامته المعروفة ب "مقامة ولاته"،  والتي يحتفى فيها بولاتة وأهلها في سياق عرض مبادئ النحو العربي وتقديم الشواهدوالأمثلة عليه :

 ” المقيم نحو الشهر في ولاته كلامه مفيد* تسبيح وتحميد* وترتيل وتجويد* للقرآن المجيد، وتجديد الفقه والتوحيد* في عقد الأشعري* وفقه مالك* وفي طريقة الجنيد السالك*  

"مبتدؤه السلام* وطيب الكلام* والخبر المتم الفائدة* تقديم سورة المائدة*...

"فاعله على الرفع مبني* وعامل رفعه معنوي* حروف جوابه نعم وبلى* 

"وأفعاله مشتقة من العلى*ماضيه نعِمّا وحبذا* الذين آمنوا واتبعتهم ذرية بإيمان* 

"ومضارعه: يأمر بالعدل والإحسان* وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي* وأمره: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين* وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها* 

"مصدره: الإيمان والإسلام والإحسان* وأسماء فاعله: المسلمون والمسلمات والمومنون والمومنات والقانتون والقانتات والصائمون والصائمات والصابرون والصابرات* 

"وجمع تكسيره: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله* وجمع سلامته. التائبون العابدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر* ومسلمات قانتات تائبات عابدات سائحات* ...إلى آخر المقامة النحوية البديعة

 

(6)

وعودة إلى الإطار الحضري العام لولاتة، فقد درج الولاتيون على إطلاق مسميات على مختلف الأحياء وحتى الحارات الضغيرة في عادة بالغة التحضر، فنجد على سبيل المثال : الزوقَه (والتي قد تكون تحريفا لكلمة "الزنقة") ، اكدنُّ، الرحبة، لغميد، كت عباس، الظليلة....
ويمكن هنا أن نتجول سريعا في الجوار القريب لدار المرواني ، بدءً بحي (اكدنُّ) وحتى حي (الزوقه) التي تقع فيها الدار.

فعلى بعد خطوات من الجبل الغربي (الكدية) يقع أعرق حي من أحياء المدينة ، حي (اكدنُّ)، الذي هو مركز المدينة الثقافي. بجتمع فيه أعيان المدينة وعلماؤها لتدبير شؤون الدنيا وتدريس علوم الدين, يتمركز في هذا الحي  ديار أكابر علماء المحاجيب و أهل سيدي عثمان التاقاطي، وعلماء أولاد داوود. وفيه (مجلس الشفاء) نسبة إلى كتاب "الشفا في التعريف بحقوق المصطفي"للقاضي عياض، الذي كانوا يتدارسونه في شهر رمضان.

في شأن هذا الحي يقول أحد شعراء المدينة :

عرّج على (اڭدنُّ) حيث الحيّ مجتمع **  والقوم ما بين زُوّارٍ و عُوّاد

هنا "الشفا".. ههنا "دار التلامذ"  كم   ** آوتْ ، و كم أنهلت من هائم صادي

إلى أن يقول:

مـنـازلٌ ومـزاراتٌ مـباركة   ** ما انفك نور الهدى في حضنها باد

 

وعن (مجلس الشفاء) الرمضاني، وأعيان الحاضرين فيه، يقول :

قـفْ بـ(الشفاء) وسائلْ عند مجلسه : ** أين الهداة السـراة السادة النجَـبا ؟

أين (ابن سيّدِنا عثمانَ)؟ أين (صَدُو ** قٌ) نجلُه، و (مُحمَّـدْ جـدُّ ) مَـن أَرُبا

والدّاهُ، والسّاسُ، و (المروانِ) والدنا **  أمْ أين (طالـبْـنَ) أعني شيخنا القطبا

مضوا إلى رحمة الرحمن إذْ صدقوا ** ما عاهدوا الله.. لا ألْتاً ولا كذِبا

يا مالك الملك أنزلْ في مضاجعهمْ ** فيضا من النور والغفران منسكبا

 

من (اڭدنُّ) إلى  (الزَّوْقَه)

على مقربة من حي (اڭدنُّ) في الجانب الجنوبي منه، تقع (الزوْقَ)، وهي حارة صغيرة بها شارع ضيق مسدود في آخره.وتشكِّل (الزوقَه) حيا مصغرا يجمع بضع ديار، من أشهرها دار المرواني و الدار المقابلة لها وهي دار الشريف سيدنا ولد مولاي العربى رحمهما الله، (وبين الرجلين قرابة وصداقة فهما أبناء خالة) ، وهي الآن مقر لمتحف المدينة.

يبكي على أطلال (الزوقَ) أحد الولاتيين فيقول :

بِـ(الزوْقَ) و(اگدنُّ) خلِّ الواله الوَصِـبا ** يبكي، ليقضيَ حقاًفيهما وجبا    

(الزَّوْقَ) أضحت من الأحباب خاليةٌ   ** و(اگدنُّ) أمسى كئيباًموحشا خرِبا

 

(6)

خاتمة عن مميزات العمارة السكنية بمدينة ولاته 

من خلال ما سبق في جزئي المقال، نستطیع أن نذكر ما تتمیزبه العمارة السكنیة الولاتیة على النحو التالي:

 * على المستوى الإنشائى : استخدم البنّاء الولاتي المواد الإنشائیة من البیئة الطبیعیة كالحجارة

والطین والأخشاب وجذوع الأشجار

 * أما المستوى التخطیطى فاشتملت المنازل الولاتیة عامة على عناصر معماریة وتخطیط

متشابه، فلا يكاد الزائر يجد  اختلافا كبيرا بین الدور السكنیة فى العمارة الولاتیة التقليدية. وتتمثل هذه العناصر المعمارية المشتركة في (كتُّ -فم الدار–الحوش–السكفة–الدرب–المخزن–لقبنیة–الدرب العلوى ، فَلِّ ، الخ) .

 * تظهر واجهات منازل ولاته من الخارج مرتفعة وصماء خالیة من النوافذ تعكس بعدا دفاعیا وتحصینا، حفاظا على الستروالخصوصية، وخشیة من انتشار الفوضى وسیطرة القبائل المحاربة والغزاة فجاءت على هیئة بيوت محَصًّنة.

 * ترابط المنازل الولاتیة بعضها ببعض من خلال وجود أبواب داخلیة بینها إن كانت هناك قرابة بين أصحابها، أو من خلال وجود جدران مشتركة بينها.

* أما من ناحیة المستوى الزخرفى والجمالي فیتم طلاء معظم المنازل باللون الأحمر من الخارج، ومن الداخل يتم الطلاء بالطین الأبیض والأحمر معا . ويتم استخدام عينات أخرى من أشكال الطين ذي الألوان المختلفة لغرض الزخرفة، وجميعها مواد محلية يتم استجلابها من مقالع غير بعيدة من المدينة,

وأخيرا، كما ذكرنا فإن التأثيرات الثقافية المتنوعة من خلال الهجرة إلى مدينة "ولاتة" من مختلف الجهات، وخلال قرون متتالية أعطتها ثراء ثقافيا وطابعا معماريا فريدا، وجعلت منهامنارة ثقافية وعلمية. فكانت بحق، عاصمة عريقة من عواصم بلاد التكرور، يتوافد إليها التجار والحرفيون وطلاب العلم وروادالمعرفة، طيلة فترتها الذهبية وحتى ما بعد الاستعمار.

للإطلاع على الجزء الأول: هنا

 

خميس, 07/12/2023 - 15:47