أزمة أمانة

نكاد نتفق اليوم على وجود اختلال جوهري في علاقتنا بالأمانة على الأموال والحقوق. اختلال نشجبه جميعا حين يقع من غيرنا علينا أو على من ننتصر له أو نعطف عليه أو نتعاطف معه، ونكرره بنفس الفظاعة حين تتاح لنا سلطته متأولين لأنفسنا لتبرير الزلة، لاسترضاء ضمير ضعيف الشكيمة، لم نعوده على الدلال، لا يعرف السلطوية. فما الذي أوصل الوازع عندنا إلى هذا الحد من الوهن؟

 

هل هي الطبيعة البشرية الخام فشلنا في ترويضها نتيجة الاختلالات التربوية المجتمعية؟ أم أننا ذهبنا أبعد من ذلك حد إفساد الفطرة البشرية بفساد التربية؟ أم أنه الأنا استطاع تطويع الدين حتى أصبحت التقوى لا تقف بين “تقينا” ومصالحه الشخصية التي يعلم يقين العلم حرمتها؟ هزل الوازع الديني حتىأصبح لا يمنع خيانة الأمانة، بل بلغ وهنه أن لم يعد يجرؤ أن يلتمس التوبة، رضي من أفضلنا بالاستغفار مع إصرار لا يتزعزع على العودة متى توفرت الفرصة. أصبحنا في تجارتنا مع الله لا نترك مصلحة منخشية، بل إن بعضنا لا يتعهد من الأجر إلا ما توسمه مطية لمصلحة.

 

تحاملنا على الضمير حتى اعتصم ملتجأه الأخير هروبا من سياطنا التربوية، ومعينا التقوى حتى زهت متكسبا تجني لملتحفها ولا تردعه. جعلنا الدين أنانية، نتشبث بآماله بالخلاص الأخروي مطيتنا الشعائر، ونمرق من قيوده الدنيوية، حتى أصبح أحدنا مؤمن حين يصلي طالح حين يؤتمن. جعلنا الميزان كفتان، كفة الخير نصب أعيننا عند كل شعيرة، وكفة الشر بين يدينا في كل معاملة. نصلي صلاة المتصوفة ليس زهدا في حلال الدنيا أو حرامها بل أملا أن نرجح بأجرها ذنوب المعاملات، التي لا نتجنب منها إلا ما جانبنا. لكل قوم في دينهم مقاربة، يتنزل عبرها حياتهم فتفرز نسخته التطبيقية المعاشة والتي تختلف يسيرا أو كثيرا عن النسخة النظرية المعتقدة. يحدد مستوى التباين بين النسخة النظرية المعتقدة والتطبيقية المعاشة الأثر الفعلي للدين على واقع الناس. لعل مقاربتنا تحتاج تعقلا ومراجعة، فليس من الحكمة أن نسابق الناس إلى الجنة بهذه المقاربة، أخشاها خاسرة. أخشى بعد أن خسرنا بها الدنيا أن نخسر بها الآخرة لا قدر الله، هل يعقل أن نأمل فلاح الآخرة بمقاربة لا تصلح النفوس، ليس من ثمارهاالأمانة؟

 

إننا لا يمكن أن نستمر في الاختباء وراء المسؤوليات الفردية لإنكار الاختلالات التربوية المجتمعية التي تُنتج هشاشة المنظومة القيمية التي تحكم إرادة الأفراد. وإنني أعتقد حقيقة أن الأمانة على الأموال والحقوق هي الرمز الذي يستحق أن نشيد له نصبا في قلوبنا، يصونه قول الحق، ويعززه التآمر بالمعروف، ويحميه المانع العدلي.

 

يجب أن تتكامل العقول لنخرج الأمانة من معتكفها ونرسم خطة لإعادة توطينها القلوب، إذا لم يكن ذلك حبا في الأمانة كقيمة أخلاقية، فإدراكا أنها آلية تَعبٍيد التنمية لأنها منبت الثقة، فلا تنمية دون ثقة ولا ثقة دون أمانة.

 

إذا لم نجد معالجات تربوية وعدلية لأزمة الأمانة فلن نبرح حفرة التاريخ التي نستوطنها.

 

وفق الله وأعان

 

د. م. شماد ولد مليل نافع

----------------------

* لا يخلو المجتمع من أمناء وخيرين كثر، وليس هؤلاء من أتحدث عنهم، وإنما عن انتشار الظاهرة التي جعلتهم استثناء، والتي تستحق أن نُسخّر لها من عقولنا لنخلص لها كمجتمع إلى حلول مناسبة، تتطلب ليس فقط إعادة تصميم منظومتنا الرقابية والعدلية، بل تتطلب أيضا إعادة تصور آليات بناء المنظومة القيمية وزرع الوازع عبر منظومة تربوية تجعله محور رسالتها، وأن ندرك أن ذلك يشكل إحدى ورشاتالتنمية الأكثر إلحاحا.

** نشر هذا المقال من فبل، ونعيد نشره لأن أزمة الأمانة لا يلوح أفق معالجتها. إن دولة تعتقد أنها معنية بالتنمية وليست معنية بالبناء العقلياتي الذي يحكم المعاملات تخسرهما.

سبت, 22/07/2023 - 17:26