إن العلاقات البشرية وخاصة منها المتعلق بالجانب الجنسي على وجه الخصوص ضبطت بالعديد من الضوابط الشرعية والقانونية التي حددت إطارها وضبط نظامها وما يترتب عنها من واحبات وما يثبت عنها من حقوق ، ومن الواضح أنها لو تركت بلا قيود لأضحت مجرد غرائز حيوانية خاضعة للأهواء ، ولأضحت البشرية تتكاثر كما تتكاثر الأنعام فلا يميز الشخص من أي سلالة ، ولا من أي أب إنحدر ، فيضيع النسب نتيجة لذلك ، غير أن الشريعة الإسلامية حافظت على نسب بني آدم الذي كرمه الله عز وجل بقوله تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" الإسراء الآية (70) هذا التكريم يتبين كذلك من خلال تكريمهم بأن شرع الله لهم الزواج ليكون إطار شرعيا لحفظ الحقوق ولبناء مجتمع متماسك ولحفظ النسب كذلك ، ويعرف الزواج بأنه " عقد بين رجل وأمرأة خاليين من الموانع الشرعية للزواج " وهو عقد له طبيعة خاصة فهو يختلف عن غيره من العقود نظرا لما يتعلق به من أمور غير مادية ، ولما له من شروط خاصة تفرض صحته، وقد وصف الله تبارك وتعالى بالميثاق الغليظ ووضع ضبطه بشكل دقيق جدا أثناء وجود العقد وما يترتب من حقوق وواجبات وعند الطلاق وما يترتب عليه وفي حالة وفاة أحد الزوجين وما يترتب على ذلك ...
إلا أن هذا الزواج ( حسب الحياة المعاشة) قد يكون معلنا ، يضرب فيه الدف على الملأ وتحضره الناس من كل حدب وصوب ، فيكون بذلك حقق الغاية الشرعية منه، وهي أن يشاع ليعلم الجميع أن فلانا تزوج فلانة ، لكن قد يكون أيضا زواجا بالسر وهو منتشر في موريتانيا بشكل كبير جدا ، وهو مظنة ضياع الحقوق وانتشار الأمراض في المجتمعات ، بحيث لا عقد مسجل في الحالة المدنية ، ولا دلائل تبين وجود زواج إلا في حالة الحمل ، وقد ينفي الشخص الزواج من أصله وينكره ، إذ في الغالب ما يكون أب لأسرة يخاف عليها التفكك .
فهل في مثل هذه الحالات يمكن أن تطالب المرأة بإجراء فحص التحليل الجيني DNA ؟؟
إن تناول هذا الموضوع يقتضي التطرق لمفهوم التحليل الجيني أو البصمة الوراثية DNA وذلك في (المبحث الأول ) قبل أن نتناول في (المبحث الثاني) الآثار التي تترتب عليه سواء في مجال الأحوال الشخصية أو في مجال التحقيقات الجنائية التي عادة ما تستعمل البصمة الوراثية للإثبات .
مبحث أول : مفهوم البصمة الوراثية
إن البحث في مفهوم البصمة الوراثية يقتضي التطرق لتعريفها الذي به تتمييز عن ما يشابها (أولا) لنخلص بعد ذلك إلى مجالات استعمالها (ثانيا )
أولا : التعريف البصمة الوراثية
معنى البصمة: البصمة من بصم وهي العلامة والبصم هو ما بين طرف الخنصر إلى طرف البنصر وفي لسان العرب البصم هو: فوت مابين الخنصر إلى طرف البنصر والفوت هو مابين كل إصبعين طولاً.
كما أن معنى الوراثة: هي مصدر ورث يقال ورث فلان المال ومنه وعنه ورثاً وإرثاً أي صار إليه بعد موته وفي الحديث" لا يرث المسلم الكافر" وأورث فلاناً : جعله من ورثته والميراث جمع مواريث وهو تركه الميت.
وتعتبر من الناحية العلمية ما يرثه الأبناء عن آبائهم وأمهاتهم من صفات تحدد هويتهم بدقة أو هي الجينات التفصيلية التي تدل على هوية كل شخص دون سواه ، حيث إن كل شخص يحمل في خليته 46 كروموزما يرث نصفها من أبيه ونصفها من أمه (1)، وهذا يتطابق تماما مع قوله تعالى " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج " صدق الله العظيم .(2)
أما من الناحية القانوينة فعلى الرغم من تنصيص عدد من التشريعات الوضعية على البصمة الوراثية في قوانينها الداخلية, وإقرار العمل بها في المحاكم كدليل نفي و إثبات في المجالات المدنية والجنائية
إلا أنها لم تتعرض لتعريفها, أو تحديده بل ترك الأمر للفقة للقيام بتلك المهمة.
ورغم إلقاء مهمة تعريف البصمة الوراثية على عاتق الفقه القانوني إلا أن هذا الأخير لم يشغل باله كثيراً في البحث عن تعريف قانوني للبصمة الوراثية, وإن كان هناك بعض الإجتهادات والمحاولات في الفقه الفرنسي مثل: قول أحد(3) الفقهاء أن " البصمة الوراثية هي معلومات خالصة تخص شخصاً ما والتي تميزه عن غيره فهي وسيلة بيولوجية لتحديد شخصية الفرد وهويته .
وعرفها في موضع آخر بقوله إن البصمة الوراثية عبارة عن هوية أصلية ثابتة لكل إنسان والتي تتعين عن طريق التحليل الوراثي وتسمح بالتعرف على الأفراد بيقين شبه تام. أما في مصر فقد أجتهد العلماء المعاصرين في وضع تعريف مناسب للبصمة الوراثية بإعتبارها من المصطلحات العلمية الحديثة , نورد بعض هذه التعريفات على النحو التالي: عرفها أحد الفقهاء بأنها " المادة الحاملة للعوامل الوراثية والجينات في الكائنات الحية". وأضاف أحد القفهاء في معرض بحثه فقال: " الصفات الوراثية التي تنتقل من الأصول إلى الفروع والتي من شانها تحديد شخصية كل فرد عن طريق تحليل جزء من حامض DNA والذي يحتوي على خلايا جسده"
وتم تعريفها بأنها " العلامة أو الأثر الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء أو من الأصول إلى الفروع " وعرفها في مكان لآخر فقال" أنها المادة الموروثة الموجودة في خلايا جميع الكائنات"
ومن خلال التعريفات التي بينت البصمة الوراثية يمكن القول إنها تميزها عن غيرها من البصمات فهي تتميز عن بصمة الأصبع التي تعتبر خطوطا رقيقة على الأصابع تميز كل فرد عن غيره إلا في حالة ما يعرف بالتوؤم الحقيقي ، كما أنها تتميز عن بصمة العرق وبصمة الصوت وهذا ما يجعلنا نتطرق إلى المجالا التي يمكن أن تستعمل فيها
ثانيا : مجالات استعمال البصمة الوراثية
إن البصمة الوراثية من الناحية الطبية دقيقة وقاطعة ومن خلالها يمكن أن يتم الكشف عن العديد من الأمور التي يمكن على سبيل المثال التطرق لنوعين منها بالأساس حيث يمكن بحث مجال استعمالها في إثبات النسب (أ) وفي مجال التحقيق الجنائي (ب).
أ : في مجال إثبات النسب
يمكن القول إن الفقه الإسلامي وقواعده العامة لا تأبى عن الأخذ بهذه التقنية الجديدة كدليل لإثبات النسب قياسا على القيافة وهي الخبرة في إلحاق نسب الولد بمن يشبه ممن يدعون نسبه بناء على ما بينهما من تشارك او أتحاد في الأعضاء، أي ما بينهم من شبه في الأحوال والأخلاق (4)
وقد أسس بعض الفقهاء الإعمال بالخبرة على قوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " صدق الله العظيم (5) لذلك يعتبر الفقهاء أن البصمة الوراثية قد ترقى إلى أن تكون قرينة قاطعة في غير قضايا الحدود الشرعية .
واعتبر المشرع الفرنسي في قوانين الأخلاق الحيوية الصادر سنة 1994 أن البصمة الوراثية دليل مستقل يجوز بناء الحكم عليها في مسائل النسب والنفقه ، وهو نفس التوجه للمشرع التونسي حيث نص عليه في الفصل الأول من قانون الأحوال الشخصية الصادر 1998 (6).
أما مشرعنا الوطني فهو في بداية الأخذ بها حيث حكم قضاة بالقيام بإجراء فحصه غير أنه لا يؤخذ به باعتباره وسيلة إثبات مستقلة ولا قاطعة بل باعتباره مساعد على التحقيق وربما يحمل المتهم على الإقرار ، لذلك لا يقيد حكم القاضي الذي يبقى حرا فهي ليست من بين وسائل الإثبات المحدد قانونا يغير أنه يمكن القول إنها تدخل في مجال الخبرة الطبية التي عادة ما يستعين القاضي بها كخبرة الأطباء حين ما يتعلق الأمر بمسألة تتعلق بالطب ومجاله (7) غير أنه يجدر التنبيه أن الخبرة ليست إلزامية للقاضي ، كما أنها نتيجتها قد لا يأخذ بها كذلك ، ومن الناحية العلمية يعتبر الأطباء أن نتيجة البصمة الوراثية نتيجة قاطعة .
غير أن مجال تطبيقها لا يقتصر على مجال النسب فحسب بل يمكن أن يؤخذ بها في المجال الجنائي .
ب : في مجال التحقيق الجنائي
يذهب غالبية الفقه الفرنسي إلى أن تحليل الدم والبول ...والبصمة الوراثية يعد عملا من أعمال التفتيش وأنه مؤسس جوازيا على هذا التعليل ، ذلك أن النتيجة المترتبة عليه هي أقرب إلى التفتيش فهي إنما تهدف إلى التوصل إلى دليل مادي في جريمة يجري البحث عن أدلتها ، كما أنه يتضمن أعتداء على سر الإنسان وبالتالي فهو يعد عملا داخلا في نطاق التفتيش ..
وقد جانب هذا الرأي يتار آخر ذهب إلى القول بأن هذه الأعمال إنما تهدف إلى الإثبات لأن الأعمال التي يقام بها هي من أعمال الخبرة ، والخبرة في هذا الموضوع هي الخبرة الطبية غير أنه يجدر التنبيه أنه سواء كانت البصمة الوراثية عمل تفتيش أو إثبات فإنها تعتبر من قبيل الأدلة المادية وبالتالي هي من القرائين القضائية حسب رأي الفقهاء في القانون الجنائي هذه القرئين عادة يطلق عليها تسمية "الأدلة العلمية أو الفنية" ، وهي الأشياء المادية التي توجد بمكان الجريمة ، أو التي يتم العثور عليها مع المتهم أو في جسمه من قبيل القرائين القضائية ، وكذلك الحال حسب رأيهم بالبصمة الوراثية .(8)
إن المعطيات أعلاه تفرض علينا التطرق لما قد يترتب على الأخذ بالبصمة الوراثية من آثار من الناحية القانونية .
المبحث الثاني : الآثار المترتبة على الأخذ بالبصمة الواثية
إن دراسة الآثار المترتبة على الأخذ بالبصمة الوراثية يختلف من حيث ما إذا تعلق الأمر بأثره المتعلق بالنسب (أولا) أو ما إذا كان متعلق بالتحقيق (ثانيا)
أولا : آثار الأخذ بالبصمة الوراثية في النسب
إن الآثار التي تترتب على الأخذ بالبصمة الوراثية في النسب تختلف فيما إذا كان البحث فيها لإثبات النسب مستندا على علاقة شرعية (أ) أو في حالة ما إذا لم يكن يستند على علاقة غير شرعية (ب)
أ : وجود علاقة شرعية
في حالة وجود عقد شرعي فإن الشريعة الإسلامية تنطلق من مبدأ هو أن " الولد للفراش " (9) وهي قاعدة تفيد أنه نتج عن عقد شرعي بين رجل وأمرأة خاليين من الموانع الشرعية وذلك لتحقيق ما يقتضيه الطبع الإنساني ، والواجب الديني أيضا ، ويتحدد من خلاله ما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات تجاه بعضهم البعض .
ويجدر التبيه أن العقد كغيره من العقود يجب فيه أن تتوافر كل الشروط العامة والشروط الخاصة التي تميزه عن غيرة حتى يكون العقد صحيحا منتجا لآثاره ، ويكون صحيحا متى ما توافرت أركانه حتى ولو كان عقدا عرفيا ، أي غير مسجل في الحالة المدنية .
وينبغي التنبيه هنا بالخصوص، أن على المشرع إلزام تسجل العقد عند الحالة المدنية مرتبا على عدم الإلتزام بذلك اعتبار الزواج غير موجود قانونيا ، أي أنهم في حالة غير شرعية من الناحية القانونية ويرتب عليه جزاء رادعا ،وأن يلزم بالفحص في الزواج ، فالملاحظة الأولى لمحرابة تفشي الزواج السري الذي تضيع فيه الحقوق بشكل فج ، والثاني للحفاظ على صحة المجتمع والصحة العامة .
وعودة إلى الموضوع ، نذكر أن القاعدة التي تنص على أن الولد للفراش لها ضوابط ، ذلك أنه مما لا خلاف فيه أن النسب يثبت شرعا وقانونا في حال العلاقة الشرعية ، غير أنه في حالة الزواج السري فإن الإثبات قد يثير إشكالا مما يدفع إلى البحث عن علامات تدل على وجود الزواج لإثبات الفراش ، لا لإثبات النسب الذي يكون أتفاقا بالفراش لذلك حدد لهذا الغرض ثلاث ضوابط ؛
- امكان أن يكون الولد من الزواج
- أن يولد بين أدنى واقصى مدة الحمل
- أن لا ينفيه الزوج عنه بالطرق الشرعية
في هذا المضمار فإن الفقه المعاصر اعتمد البصمة الوراثية في إثبات النسب في حالة وجود عقد مشروع وذلك باعتبارها قرينة قاطعة حيث يقول في ذلك الدكتور محمد المختار السلامي " إن ما يكشفه الفحص الجيني يقيني بإجماع الفقهاء وهو أقوى من الشهادة التي لا تبلغ أن تتجاوز حد الظن بالصدق " .
وذلك لأن البصمة الوراثية مؤسسة على أساس علمية لا شك فيها ولا يقبل الطعن ، وهي طريقة صحيحة لا يتحمل معها الوقوع في الخطأ لإثبات البنونة أو الأبوة (10).
وفي حالة الإثبات تجب على الأب جميع الإلتزامات الشرعية التي تقع على كاهله تجاه إبنه ، الذي ثبتت بنوته له ، أولا من جلال عقد مؤسس شرعا ، وثانيا من خلال الفحص الجيني ، وتجب بذلك للطفل كل حقوقه المترتبة عن ذلك ويحق له المطالبة بها ، لكن المسألة تثير إشكالات لو أن العلاقة غير شرعية .!
ب : في حال العلاقة غير شرعية
كثيرا ما يوجد في مختلف المجتمعات وجود أبناء خارج الإطار الشرعي الذي هو الزواج ، لكن في حالة ثبوت الإبن من الناحية لبيولوجية على شخص ربطته علاقة غير شرعية بإمرأة ،فنتج عن ذلك ميلاد طفل ، فإنه إذا ما سلمنا بأنه ليس للإبن غير الشرعي في هذه الحالة على والده لبيولوجي حق الحصول على إسمه ( حق معنوي لصيق بالشخصية) وليس له الحق في النفقة ولا الميراث...(حقوق مادية ) وكل ذلك مستندا على متطلبات النسب التي لم تتحقق بسبب عدم المشروعية التي أسست عليها العلاقة ، فما أسس على باطل فهو باطل ، غير أنه علينا أن ننظر للموضوع من زواية أخرى، ذلك أن عدم المشروعية ينفي وجود علاقة نسب ، لكنه بالمقابل يوجد علاقة مضرة للطفل .
فهل يمكن مؤخذة الأب لبيولوجي قانونا على أساس مضرتة لطفل جاء به للدنيا بطريقة غير شرعية ؟؟
إن القانون الموريتاني ينص على المسؤولية التقصيرية في المادة (97) من قانون الإلتزامات والعقود (11) وهو ما يطرح أنه في حالة وجود ضرر فإنه يجب التعويض وجبر الضرر ، وعلى هذا الأساس فإن مسؤولية الأب البيولوحي تبعا لذلك، فقد أفقد الطفل حقوقا جراء ميلاده جارج إطار علاقة شرعية تكون قائمة ، لذلك يجب عليه تعويض ما لحق الولد من ضرر أدبي نظير حرمانه من الإسم المترتب عليه مضرة معنوية وما فاته من كسب نتيجة ما فقده من حق في النفقة والميراث، الحقوق التي ما كان ليفقدها لو أنه ولد في إطار علاقة مشروعة .
وهنا يجدر التنبيه أن الشريعة الإسلامية توجب المسؤولية عن ما أحدثه الفرد من ضرر للغير فالنبي صل الله عليه وسلم يقول " لا ضرر ولا ضرار" والضرر متى ما تحقق يجب التعويض ، أحرى وقد تحقق بشقيه بشقيه ، غير أن تقدير هذا التعويض يترك للقاضي ولذوي الخبرة ، ويكون المعيار في التقدير هو القياس بين الضرر والجزاء .
والتعويض يجد سندا له في القاعدة الشرعية التي تقول أن الضرر يزال وتعتبر السنة مرجعا في ذلك حيث يروى عن النبي صل الله عليه وسلم أن رجلا صاح به يريد حقه فأغضب ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهدده بالقتل فقال النبي صل الله عليه وسلم : أذهب ياعمر أكفه حقه وزده عشرين صاعا ، وهذه الزيادة أزالت الضرر الذي لحقه .
لكن هذا الضرر قد يكون غير مدني في بعض الحالات إذ قد يتعلق الأمر بتحقيق جنائي تستعمل فيه البصمة الوراثية للإثبات أيضا .
ثانيا : آثار الأخذ بالبصمة الوارثية في التحقيق الجنائي
إن العديد من القضايا الجنائية يترك الجاني فيها أثرا في محل أرتكابه للجريمة و يكون من الممكن من خلال التحليل ومقارنته مع البصمة الوراثية معرفة الفاعل ، فمثل ما أن عدم المطابقة تدل على براءة المتهم بها ، فإن مطابقة تلك النتائج تكون قرينة قوية تدل بشكل واضح على أن المتهم كان موجودا في مكان الجناية ولا يقبل منه إنكار ذلك ، كما أن عليه أن يثبت مشروعية وجوده في ذلك المكان وإلا يكون ضالعا في الموضوع ، والفقهاء اعتبروها قرينة قاطعة في كل الحالات التي تؤخذ فيها كوسيلة إثبات ما عدى الحدود والقصاص (12)
وخلاصة القول إنه يتبين مما تقدم أن البصمة الوراثية يمكن أن تعتمد كوسيلة قاطعة لإثبات النسب في الحالات التي يكون فيه نزاع أو في الحالات التي تتعلق بالإغتصاب أو الجرائم وعلى مشرعنا الجنائي أن يأخذ بذلك صراحة من أجل الإفادة من الوسائل العلمية التي أضحت تسهل تحقيق العدالة وتساعد على إحقاق الحق ، إن هذا التمشي هو ما دفع بعض الفقهاء والأطباء والخبراء إلى بحث في هذه الوسيلة والتوصية بالأخذ بها مع التنبيه إلى نقاط مهمة تتعلق بالبصمة الوراثية في حال تم الأخذ بها وهي:
أ - وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص لأن الشرغ يدرؤوا الحدود بالشبهات ، وذلك يحقق العدالة والأمن للمجتمع، ويـؤدي إلى نيل المجرم عقابه وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.
ب - إن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتـهى الحذر والحيطة والسرية، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية.
ج - لا يجوز شرعاً الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النـسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
د - لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً، ويجب على الجهات المختصة منعه، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن
في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصوناً لأنسابهم.
و - يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبـات النـسب في الحالات الآتية:
- حالات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنـازع الـتي ذكرهـا الفقهاء، سواء أكان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفـاء الأدلـة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة ونحوه .
- حالات الاشتباه في المواليد والمستشفيات ومراكز رعاية الأطفال ونحوهـا، وكذا حالات ضياع الأطفال واختلاطهم بسبب الحـوادث أو الكـوارث أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكـن التعـرف علـى هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.
والله الموفق .
محمد محمدو عبدي
باحث في مجال القانون الخاص
المصادر :
1- عبد القادر عبار ، مقال حول البصمة الوراثية وأثرها في الإثبات أو نفي النسب على ضوء تشريعات بعض الدول العربية . سنة 2019 الصفحة (6) .
2- القرآن الكريم ؛ سورة الإنسان ، الآية (٢)
3- jean christophe gateux - la nature juridique du material genetique au ,la refication du corps humain.
4- أنور محمد دبور ، إثبات النسب بطريق القيافة في الفقه الإسلامي ، دار الثقافة بالقاهرة ، عام 1985 ص (9 وما بعدها )
5- القرآن الكريم ، سورة النحل الآية (43).
6- نص الفصل الأول من مجلة الأحوال الشخصية التونسية الصادر لسنة 28/10/1998 حيث نص على أنه "...يمكن للأب أو الأم أو النيابة العمومية رفع الأذى إلى المحكمة الإبتدائية المختصة لطلب إسناد لقب الأب للطفل الذي ثبت بالإقرار أو بشهادة الشهود أو بواسطة التحليل الجيني أن الشخص هو أب ذالك الطفل "
7- د.محمد يحي ولد عبد الودوود " ولد الصيام" ، الوجيز في المسطرة المدنية على ضوء قانون المسطرة المدنية الموريتاني ، نطبعة المنار ، ص (206) .
8- بوصبع فؤاد ، الصبغة الوراثية ومدى مشروعيتها في إثبات النسب ، رسالة لنيل للماجيستر في القانون الجنائي ، لسنة 2011- 2012 ص (69) .
9- وجدان حمدان فلاح ، حجية البصمة الوراثية في إثبات النسب ونفيه ، جامعة الأردن , ص (157)
10- خديجة علوش ، وفريدة حمزة ، إثبات النسب بالبصمة الوراثية بين الفقه الإسلامي وقانون الأسرة الجزائري ، لسنة 2012 ص (45) .
11- قانون الإلتزامات والعقود الموريتاني ، أمر قانوني رقم 89.126 صادر بتاريخ 14 سبتمبر 1989 المعدل بالقانون رقم 2001.031 الصادر بتاريخ 07 فبراير 2001 ، تنص فيه المادة 97 على أنه " كل فعل أرتكبه الإنسان عن بينة وأختيار من غير أن يسمح له به القانون ، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا ، ألتزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر.
وكل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر .
الضرر المعنوي هو الذي يصيب الإنسان في ناحية غير مالية ، ويهدف إلى تعويض الآلام المعنوية والحزن والأسى الناجمة عن التشويه الناجم عن للجروح والعاهات وهتك العرض والنيل من السمعة وغيرها من الحالات والأخرى التي تسبب ألما معنويا. "
12- د. زيد بن عبدالله بن إبراهيم آل قرون ، البصمة الوراثية و أثرها في الإثبات ، مؤتمر القرائين الطبية المعاصرة وأثارها الفقهية ، ص ( 489).