تقديم البروفسير عبد الودود ولد الشّيخ لكتاب إمارة آدرار

تطرح المجتمعات "التقليدية ذات الصّلة المحدودة بالكتابة" (restricted literacy) أكثر من غيرِها مشكلةً للمؤرخ والأنثروبولوجي على حدٍ سواء، حيث توحي "برودتها" -المضمنة في "اجترار" كتابي والتي قد تأخذ أبعاداً لا بأس بها، كما في حالة المجتمع البيظاني الصحرواي- وتظهر وتطمس في ذات الحركة (رفض) الصيرورة التي تمثل "حولياتها" شاهداً عليها. فيها يجري الكثير من الأشياء ولا يحصل شيء (تقريباً). فيها يقذف النّاس بما حوته أحشاؤهم بنشوةٍ ويحصون بشكل دقيق "الديون" المتمخضة عن هذه "الأيام" الخالدة وهوم يفعلون ذلك قبل كل شيءٍ، من أجل حفظ ذاكرة ماضٍ متجمدةُ لا تعدُ من الأفاق المُستقبلية إلا بإعادة إنتاج ذاتها على الدّوام. 

إنّ روح "الحوليات" هوّ من قبيل الذّاكرة أكثر مما هو من التاريخ إذا ما استخدمنا تعارضاً يكثر تناولهُ اليوم، فهل اختيار بيير بونت للمنحى الذي يعتمد على طرائق التّفكير وخصائص الأشخاص موضع الدراسة وعلى الرؤية المحلية للأشياء هوّ الذي حدا به إلى أن يؤطر بحثه بجزأين معنونين "كرونولوجيا أميرية" و"كرونولوجيا أميرية 2" ؟ وهل كان ذلك من أجل إبراز ثقل الصّيرورة التاريخية في مجتمعٍ يسعى بما أوتيّ من قوةٍ إلى التخفيف من أثارها، رغم كل شيء، ومن أجل التذّكير بالنمط التاريخي الذي يقوض المسافة النقدية اتجاه الماضي الذي نحنُ بصددِ تناوله؟ 

كان بيير بونت فطناً في تحليلاته لبنيات المجتمع الذي يدرسه في نسيجٍ موّحد وكذلك الثّوابت الأنثروبولوجية التي تكشف عنها وما نال هذه الثّوابت الأنتربولوجية التي تكشف عنها وما نال هذه الثّوابت من تغيرٍ حاصل عبر الزّمن. لقد قدمّ لنا عبر هذه اللّوحة الفسيحة كتاباً من الأنتروبولوجيا التاريخية فريداً في جزالته ضمّنهُ بعض الفصولِ الأساسية من أطروحته لنبيل دكتورا دولة، تلك الأطروحة التي ناقشها سنة 1998.

استفادت الملاحظات التي قدّمها بيير بونت عن مجتمع البيظان والتي كانت ثمرة بحثٍ ميداني استمر قرابة ثلاثين سنة، من معرفته سابقاً للمجتمع الطوارقي. إذ توجد مواطنُ تشابه كثيرة بين المجتمعين ففيهما تمارس علاقاتُ المساواة و التراتب فعلها في محيطٍ قبلي تتشابهُ فيه إلى حدٍ ما بنياتُ القرابة.

إحدى الإشكالات المركزية التي ينتظمُ حولها البحث المُقام به تتعلق هنا بشكلٍ محدد بالنّمط (أو الأنماط) الناظمة للبنيات فوق - القبيلة التي هيّ في طريقها إلى الإستقلالية، تلك الأنماط التي تبين عنها إمارات البيظان في علاقتها بالمنطق "الإنقسامي" الذي يبدو متحكماً في ميكانزمات الإنشطار Fission و الإنصهار fusion التي تعمل عملها في المنظومات القبيلة الإنقسامية و"عديمة" الرأس acéphales والزعامات المستقلة القوية والإتحادات واسعة الإمتداد ومن وراء كل ذلك ترابيةٍ يُشبّهها البعض بنظام الطبقات الهندي، تطرح هذه الأنماط الكثيرة من المشاكل التي لا تجد حلاً سهلاً في الإطار الأنثربولوجي المألوف في تحليل القرابة. 

إنّ فكرة "القرابة" و "القرب" بالإضافة إلى فكرة (الكفاءة) هيّ في الواقع فكرة مركزية في تمثل مجتمع البيظان لأسس إعادة إنتاج ذاته وفي الطريقة التي يعمل بها خاصةً في مجال المبادلات الزّواجية. تحيى القبلية من خلال جمعها بين اعتماد احتساب درجة القرابة في النّسب و البحث عن الكفاءة في المنزلة بين الأزواج حيث لا يتزوج المرأة إلا من هوّ في منزلتها أو أعلى منها منزلةً، استراتيجيات زواجية هيّ من قبيل أسباب أكثر مما هيّ من قبيل نتائج الصراعات التي تنجم عنها الفوراق في "المراتب" بين "أخذي" النساء و"مانحيهن".

وتساهمُ الزيجات القصيّة التي لا يمكن فهمها إنطلاقاً من منطقِ التكفاؤ والمبادلة، هيّ الأخرى، في (إعادة) إنتاجِ هذه اللا (مساواة) المنزلاتية : "وهكذا فإنّ تداولَ النساء منظم ليس على أساسسِ التّراتب و التنافس"، ذلكّ ما جعل بيير بونت يقول إن فكرة المساواة التي أبرزها أرنسكت كلنر (بكاف معقودة) بشكلٍ حصري في نمطهِ القبلي الإنقسامي لا تكفي لتفسير الميكانزمات التي يعمل وفقها المجتمع القبلي البيظاني الذي يدرسهُ هوّ، يؤكد بونت بإنّه يتعينُ أن نضيفَ إليها أثار التّراتب المرتبطة بالإستراتيجيات الزّواجية التي تقر و / أو تترتب عنها فوارقٌ في المنزلة و "تفتح" كما يقول "المجتمع على التاريح". 

يخبرنا بونت، بعد لفي ستروس، وهوّ يبرزُ الدّور المحدود من الناحية البنيوية للنسب في المجتمعات التي تُمارس الزّواج من الأقارب الأقربين، أنّ الأساسي من وظائف النّسب يتم تحديدهُ في دائرة القانون. 

 

المصدر: بيير بونت عالم أنتربولوجيا غرب الصّحراء، جسور، 2017. ترجمة محمد ولد بوعليبة.

سبت, 15/01/2022 - 13:03