ولد ابريد اللّيل: الكياسة الخطيرة

في ذكرى رحيل محمد يحظيه ولد ابريد الليل الأولى يتضح جلياً حجم الفراغ الهائل الذي تركه موته في حياتنا السياسية والعمومية. فبينَ فينةٍ وأخرى باتَ مؤكداً أننا، برحيله المحزن، قد خسرنا خسارةً كبيرة. وإذا كانَ تعويضُ هذه الخسارةَ، أو بعبارة أخرى، منعُ حصولها مستحيلاً، فإنّه بالمقابل يغدو من اللازم تذكّر هذه الشخصية التي غادرتنا والسعي قدرَ الإمكان إلى قراءة تاريخها وتجربتها وتصوراتها. وإن كانت الأسطر التالية، على تعدّد محاورها، تروم ممارسة تلك القراءة، بصيغةٍ ما، إلاّ أنّ ذلك مهما كانت أهميته يظلّ غير كافٍ تماماً. إن القراءة المستمرة والمتنوعة هي وحدها التي تمنع النسيان. والذي يجب الآنَ على كلّ مهتمٍ بالشأن العام السياسي والوطني أن يسهمَ في ذلك الصدد. وهذا قبل أن يكونَ من قبيل الواجب اتجاه شخصيّة فريدة في تاريخنا وحاضرنا فإنه، بالأحرى، من قبيل الاحترام اللائق بها.

من سيؤمن بالنظرية بعده؟
كان ولد ابريد اللّيل مؤمناً بالنظرية. ولكن إيمانه بها ظلّ مشروطاً بانعكاساتها التاريخية والثقافية. أي ما معناه أنّ إيمانه بالنظرية لم يكن ينفصل عن إيمانه بالتجربة. وفي اللحظات التي كان يبدو ضرورياً التضحية بإحداهما كان يشعر بالقلق. وهو قلق مهما بدا صعباً فقد كان يُلاحظ دائماً أنه يحسمه لصالح النظرية.

لقد كان النظريّ الأكبر في تاريحنا. فتعويله على النظرية، كقوة حجاجية وسردية، لم يكن يوازيه شيء إطلاقاً. والسبب أن النظرية لا تمنحه القدرة الذهنية لتفسير الواقع فحسب، بل لتغييره وتشكيله أيضاً. فمسألة الفهم والتفسير التي توفرها النظرية تترافق عنده مع إمكانية التغيير التي تتضمنها أيضاً. ولعلّ هذا ما كان يلبي رغبته. إذ ما حاجته بنظريةٍ لا تدفع للتغيير؟ أي نظريةٍ غير نظرية تماماً.

لقد كان يدرك أن النظرية بحكم طبيعتها التفسيرية والتحليلية لا يمكن أن تتصالحَ مع جمود الواقع إلاّ كانت بذلك تتسبّب في موتها. من هنا فإن مبعث التغيير الذي تحفز عليه النظرية تدعو له حركية الواقع. وهو إذ ينشدُ بواسطة النظرية تغيير الواقع فإنه يفعل ذلك لفتح النظرية على إمكانيات تجريب رحبة. فالواقع الجامد يخنق النظرية. ولئلا تختنق النظرية يجب أن يتغيّر الواقع.

على أنّ نزوعه الشديد للنظرية، على هذا النّحو، لربما يستشف منه أنه كان مبالٍ بتغيير الواقع من أجل النظرية فقط. والحقيقة أنه كان في سعةٍ من التفكيرِ لا يضطر معها لأمرِ كهذا. فالنظرية بالنسبة له لا يجب أن تكون عدميّة. فهي، ومهما بدا النزوع لها شديداً، ترجمة للواقع وتفاعلاته وشروطه بشكلٍ أساسي. وهذا لا يجعلها فقط أمينةً في قياسها على الواقع، بل ملتزمةً أشدّ الإلتزام نحوه. وهكذا فإن النظريةُ، وبحكمٍ التزامها ذاك، ساعيّةٌ إلى تغيير الممارسات والبنى الاجتماعية في سبيل أن تتبوأ الأمة مكانةً مرموقة.

إذن كان ولد ابريد الليل يولي للنظرية مركزيّة كبرى في تفكيره ونشاطه. فهو ضالعٌ فيها ضلوعاً لا مثيل له. والغريب أن هذا الضلوع في النظرية لم يضعه يوماً في مأزق. لقد كانت الأشياء/الظواهر واضحةً له ومصنّفة على نحوٍ لا يحدث معه أيّ لبس. والسبب الذي جعله لا يقع في مآزق كالتي طالما أوقعت النظريةَ الآخرينَ فيها، ممن علاقتهم بها شعاراتية، أنه أمعنَ الإطلاع فيها، ولازمها في كلّ حين، حتى محضته سرها. وإنّ سرّ النظرية لشيء ثقيل. من يحمله تضيق به المدينة، ويشعرُ بالغربةِ فيها، فلا يكونُ من ملجإٍ له غير الصحراء.

الصحراء إجلاءً للقلق
لا تعطي الصحراء الراحةَ فقط، بل تعطي القوة. فهي قويّة، ونباتاتها القليلة قوية، مناخها قوي، ساكنها قوي الحواس والبدن. كل شيء في الصحراء قويّ ويدل على القوة. وابنُ إينشيري الذي كانه ولد ابريد لم يكن غريباً على الصحراء وعالمها، ولذا فهو عندما كان يلجأ إليها لم يكن ذلك طلباً للمتعة، وإن كانَ ذلك يصحّ أحياناً عليه، بل طلباً للقوة. رحابة الصحراء الشاسعة، وخلوها من أيّ ازعاجٍ، من شأنهما أن يمنحا القوة لمن يُزوالَ التفكير ويمداه بقدرةٍ على احتواء التناقضاتِ ومقاربتها وإفرازها بشكلٍ سليم. إن القوّة التي تمنحُ الصحراء محرّضة على الإبداعِ ومحفّزة عليه. وهذا ما فهمه ولد ابريد الليل مبكراً.

لو أنه أتيحَ لنا في يومٍ من الأيّام أن نمعن التأمل في عينيه للاحظنا، بسهولة ويُسَر، ذلك القلق الرهيب الذي تستوجبه الأفكار وتؤدي إليه. للاحظناه، أي القلق، جاثماً هناك. لكنه لدافعٍ لا يعلمه غيره احترز حين لم يتح لنا النظر في/إلى عينيه. هكذا عرفناه بنظارته السوداء والمهابةُ تعلوه. لكنّ النظارات، مهما كانت حيلةً مهمة، فهي لا تداري القلق وحدها. فلقد دفنَ محمد يحظيه قلقه في الصحراء حيث طمرته رياحها وأتربتها. في الصحراء كان يتخلّص من قلقه، يتركها تمتصه، وتلغي به في وجهِ العدم. ولهذا فهو عندما كانَ يعود للمدينةَ كان يبدو بذلك الشكل البالغ من السكينة النظرية لأنه كانَ قد وصلَ توّاً من الصحراء.

ليس القلق النظريّ وحده الذي كان محمد يحظيه يجد الخلاص منه في الصحراء. لقد كانت الصحراء أيضاً المكانَ الذي وجدَ خلاصَ هويته فيه. فالصحراء هي رمزُ الانتماء. والهويّة، مهما كانت محدداتها حديثةً، فهي أولاً صحراويّة جغرافية. وإنّ البيظانَ، كمقولة رئيسية في صلب تصوره للهوية، محدّدون بالصحراء. هي شرطُ هويتهم ومنبعها. وعلى امتداد الصحراء اختطوا تاريخهم وكتبوه. وإذ يغدو ضرورياً استئناف ذلك التاريخ، ومواصلة الحفاظ على تلك الهوية، فإنّ حضور الصحراء بالتأكيد سيكون الشرط الأهم لتحقّق ذلك. هذا ما أكّد عليه ولد ابريد على نحوٍ واضح فعلاً وقولاً وكتابةً.

لكنّ حضور ولد ابريد الليل في الصحراء، أو حضورها لديه، كان دائماً يرتبط بشيءٍ على صلة وطيدة بها: الجمل. والحديث عن الجمل عندَ ولد ابريد الليل هو حديث عن كائن سياسي خطير.

الجمل كائناً سياسياً
تكمن خطورة الجمل في فرادته. هذه الفرادة التي أمكنَ لمحمد يحظيه أن يقف عليها عن قرب في الصحراء. فهذه الأخيرة، على كبر مقامها عنده، ما كانت لتحظى بتلك القيمة التي يوليها لها لو لم تكن فضاء الجمل المعيشي والفطري الأول. فباعتباره كائناً فريداً من نوعه، من حيث الطبيعة والصفات، جعل محمد يحظيه من الجملِ شرطاً للّجوء إلى الصحراء. فليست صحراءَ تلك التي لا جملَ/إبلَ فيها. وهذه النزعة الإبليّة العميقة لدى ولد ابريد الليل لا يمكن تفسيرها فحسب على أساس ذاته الساحليّة، بل لا بدّ من إيجاد سبب ذهني أعمق لتفسيرها على نحوٍ مقنع. وهذا السبب هو أنه تأمّل في الجمل وعمّق النظر في خواصه وجبلاته فاستكشف فيه من الكياسة والدهاء والصبر ما انفردَ به عن غيره. من هنا كانَ ولعه به.

بالطبع لقد كان ولد ابريد الليل ولعاً بالجمل. ولكنّه كان على قدرٍ من سموّ النفس لا يعلنُ معه عن ولعه بالأمور/الأشياء. ونحنُ يمكن أن نتأكّد من هذا الولع بإلقاء نظرة على كتاباته واستذكار أحاديثه الشفوية. فقلما يكتبُ مقالاً أو يلقي حديثاً إلاّ وكانَ الجمل حاضراً فيه كمثالٍ على الكياسة والدهاء والصبر. لقد سبق لـروبت إروين أن تساءلَ: ما معنى أن تكون جملاً؟ ولو أنّ محمد يحظيه علمَ بسؤاله لأجابَ: أن تتمثل صفاته هذه.

فانطلاقاً من قيمة الجمل التراثية والثقافية عربياً وإسلامياً فقد كان محمد يحظيه يرى في حضوره شرطاً لتحديد الهوية وتشكيلها. والهوية التي طالما كانت محطّ نظره وتأمله كانَ محمولها الأساسي: الجمل. ومعنى ذلك ليس في أنه يرى الهويّة مشروطةً بتربية الجمال وركوبها ورعيها. فهذه سطحيّة ينزّه عنها. بل معناه أنّه يرى الجملَ، في طبيعته وصفاته، رمزَ تلك الهويّة. ولذا، فمن الاستراتيجيّ سبيلاً لحفظ تلك الهوية، وصياغتها في قالبٍ أصيلْ، أن يظلّ المثقف/السياسي قريباً من الجمل. وفائدة ذلك القرب تتجاوز البعد الوجداني من جهة حصول الأنسِ والتمتع برؤيةِ جمال الجمل وفرادة تكوينه، إلى استخلاص دروسِ الكيّاسة والصبر والتحمّل والدهاء منه.  

طالما كان الجمل حاضراً في تاريخنا الاجتماعي والثقافي. فهويتنا البيضانية هي هويّة محمولة على سنامه. ولأجل أن تظل هناك استمراريّة حيوية، وفريدة من نوعها، لمرتكزات نمطنا الاجتماعي والثقافي، الذي صاحبنا طيلة وجودنا في هذه الأرض، فيجبُ أن نكونَ على وعيٍ بأهمية الجمل الاستراتيجيّة في الحفاظ على البنية الثقافية للمجتمع، وهكذا فإنّه بدلاً من أن يكونَ النمط الإبلي الرعوي "تهديداً للاستقرار الاجتماعي" في البلاد، كما يستنتج ذلك إروين على نحوٍ عجيب، فإنّ تجربة وحياةَ محمد يحظيه تؤكد لنا عكسَ ذلك تماماً.

السياسة كاستراتيجيّة
السياسة فنّ نخبوي فكرياً وثقافياً، ولا يجبُ بحالٍ من الأحوال أن تتاحَ مزاولته للبسطاء. وهذه الحقيقة التي لم يتحرّج منها محمد يحظيه أبداً يبدو التأكيد الآن عليها ضرورياً. فالسياسة بما هي استراتيجيّة، أو فعلٍ متسامي على الحاجيات الاجتماعية وإدارتها، إلى هندسة العلاقات وقراءة البنى والأفكار والظروف واستشراف المآلات وإمكانياتها، هي شيءٌ سامٍ. وبهذا المعنى هي أخطرُ من أن تتركَ عرضةً لمن تحركهم دوافعٌ بسيطةَ وآنية.

نشأ البعد الاستراتيجي لدى محمد يحظيه من فهمه العميق للعلاقة التشباكية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وقبل ذلك بين الدولة والمجتمع والأرض. فهذه العلاقة يصعب تجاوزها، وطمسها، وتجاهلها. وإذا كانت السياسة، في بعدها الواحد كتسييرٍ للحاجيات ورهانٍ على الخدمات، غيرَ قادرة على فهم هذه العلاقة في تشابكها وخطورتها فإنّ الحاجة تغدو ماسّة للجوء إلى سياسةٍ أقلّ سطحيّة أو بساطة. وهنا لا بديلَ عن الاستراتيجيّة فهي في عمق طابعها الحربي سياسية. والخاصيّة الأهمّ فيها أنها تتجاوز الظواهر إلى الأعمق، وتبتغي نظرةً شموليّة تتجاوز الإثارة.

حصافةُ الاستراتيجيّة التي مارسها محمد يحظيه سياسياً تتمثلُ في كياستها. إنها لا تقفز على الشروط الاجتماعية والتاريخيّة. تأخذ كلّ شيء على محمل الجدّ. ولا تطلبُ تقدّماً أعمى. فعلى الرغم من ثوريّة ولد ابريد، في اعتنائقه إيديولوجيا حديثة تماماً، إلاّ أنه لم ينشد يوماً أيّ تقدّم اجتماعي وثقافي على نحوٍ واضح. والسبب في ذلك أنّ التقدم، كشيءٍ مرتبط بالمستقبل، يجبُ أن يحسمَ تصوره على ضوء شروط الماضي والحاضر وما يكتنزان به من حمولاتٍ ثقافية واجتماعية. وما دامت تلك الشروطُ غير مؤاتيةٍ، بمعنى غيرَ جاهزةٍ للقراءة والتحليل والتطبيق، فإنّ نشدان التقدم سيكون عبثاً. والفطنُ لا ينشد العبث.

هذا الفهم للسياسة الذي مارسه محمد يحظيه واعتقد به نادر المثال. ومهما بدا عتيقاً أو صعباً فإنه ضروريّ جداً. فالسياسة طالما جرى تسطيحها وجرّها إلى اللحظي والعرضي، ونُسيَ تماماً أنها لا يمكن أن تنفصلَ عن المجتمع وثقافته وتاريخه أبداً إلا وسقطت في دوامةٍ كارثية من السيولة والميوعة. من ثمّة فإن ضرورة رؤية السياسة كفعلٍ استراتيجيّ أدواته إمعان النظر بشمولية وحذاقة على ضوء قضايا وإشكالاتٍ معينة، هي ضرورة مصيرية. وإن محاولة تطبيق تلك الرؤية هو قبلَ أن يكونَ وفاءً لروحِ ولد ابريد الليل ونهجه، ليعتبر شرطاً للحفاظ على هذه الدولة ومجتمعها.

 عالي ولد الدمين

جمعة, 14/01/2022 - 19:33