تفاصيل حول ازمة الصيدليات ووزارة الصحة

خروجا على عادتي في عدم التطرق علنا للملفات المنشورة امام القضاء لأسباب مهنية محضة، ومن موقع المطلع على هذا الملف بحكم كوني المحامي المتعهد للدفاع عن مجموعة من الصيدليات المتضررة من قرار وزير الصحة الأخير، ونظرا إلى حجم التفاعل الحاصل حول الموضوع، وعلى افتراض تطلع بعض الرأي العام للوقوف على حقيقة الموقف القانوني، يهمني ان ابسط ـ بكل موضوعية ـ لأصدقاء الصفحة ما يلي:  
أولا : يجدر التنويه إلى ان الإشكال القائم حاليا ينحصر في محاولة إلزام وزارة الصحة لمجموعة من الصيدليات المتواجدة اساسا امام بعض المنشأت الصحية العمومية باحترام شرط المسافة المحددة في القانون 022 ـ 2010 المتعلق بالصيدلة، ولا علاقة البتة للموضوع بأي اجراء يتعلق بتزوير الأدوية او ما شابه ذلك، إذ يفترض ان الوزارة لو كانت قد لاحظت على تلك الصيدليات اي مخالفة تتعلق بالتزوير او الغش لشهرت بها وباشرت معها الإجراءات القانونية المطلوبة بما في ذلك المتابعات الجنائية ، ولن تجد قطعا تلك الصيدليات من يدافع عنها، لأن امرا كذلك لا مناص ان يكون محل إجماع. وبالمناسبة فإن الإنذارات الموجهة من الوزارة للصيدليات لم تتضمن قطعا سوى مخالفة شرط المسافة.. 
إذا فليكن الأمر واضح للجميع. فالمسألة لا تتعلق بالتزوير ولا بالغش وانما بالمسافة والمسافة فقط.

ثانيا: تستند الوزارة في قرارها على مقتضيات المادة 92 من قانون 2010 التي تنص على انه في شعاع 200 متر من المنشأة الصحية العمومية لا يمكن الترخيص لأية نقطة لبيع الأدوية، وبأن نفس المسافة يلزم ان تفصل بين كل صيدلية وأخرى.
وكذلك على المادة 150 من نفس القانون التي قضت بتطبيق مقتضيات هذا القانون بأثر رجعي!! وذلك حين نصت على ان كل منشأة صيدلية قائمة لا تنسجم مع تلك المقتضيات يجب عليها ان تسوي وضعيتها خلال 3 أشهر من نشر ذلك القانون.
وهنا مكمن الخلل، ذلك ان قانون 2010 المذكور جاء ليحل محل القانون 036 ـ 2004 المنظم لممارسة مهنة الصيدلة و المنشور في الجريدة الرسمية عدد 1085 بتاريخ 30/12/2004 ، وهذا القانون تطرق لمسألة المسافة لكنه اقتصر في ذلك على المسافة البينية بين الصيدليات ولم يتطرق اطلاقا للمسافة من المنشأت الصحية العمومية ، وقد نص في المادة 98 منه على ما يلي : { دون إمكانية المساس بالحقوق المكتسبة للمستغلين للصيدليات الحاصلة على تراخيص بتاريخ المصادقة على هذا القانون، فإن المسافة بين الصيدليات سيتم تحديدها بواسطة مقرر من وزير الصحة والشؤون الاجتماعية بالنسبة لكل صيدلية جديدة بعد اخذ راي الهيئات التعاونية المعنية..}
وواضح من نص تلك المادة ان المشرع ـ وهو صائب في ذلك ـ قد احتفظ لأصحاب الصيدليات المرخصة قبل سريان قانون 2004 أعلاه بكل حقوقهم المكتسبة التي اكتسبوها وفقا للتشريعات التي تحصلوا في ظلها على تراخيصهم، ونص على استثنائهم من مقتضيات المسافة البينية التي صرح بعدم تطبيقها إلا على الصيدليات المرخص لها بعد سريان ذلك القانون، وهذا هو التطبيق السليم للقانون والتشريع الذي يجب ان يراعي المراكز القانونية التي قامت والحقوق التي اكتسبت بصفة مشروعة وقت سنه.

على ذلك يكون النص في المادة 150 من قانون 2010 على وجوب تطبيق شرط المسافة الوارد في المادة 90 من نفس القانون بأثر رجعي على الصيدليات التي كانت قائمة قبل صدور هذا القانون، مقتضى غير دستوري، ويتناقض مع ابسط قواعد التشريع المتعارف عليها في مختلف بلدان العالم.
وبما ان 95 % من الصيدليات المستهدفة حاليا بقرار الوزارة تم الترخيص لها بين سنة 1990 و2004 ـ وهذا ما اؤكده على مسؤوليتي الشخصية وبحكم الوثائق الموجودة تحت يدي ـ فإن أي قرار يلزمها بتلك المقتضيات القانونية الواردة في قانون 2010 سيكون ماسا بمبدأ المشروعية لجملة أسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 
تطبيق القانون بأثر رجعي على نحو يمس من الحقوق المكتسبة للأفراد التي اكتسبت وفقا للقانون، ومساسا دون وجه حق بمراكز قانونية قائمة ومشروعة.
تعدي على حق الملكية الخاصة المكفول بالقوانين والمكرس دستوريا، ذلك ان المنشأة الصيدلية محل تجاري، والموقع والعنوان والزبناء كلها عناصر تدخل في مكونات المحل التجاري كما نصت على ذلك المادة 116 من مدونة التجارة، وهي عناصر مملوكة لصاحب المحل وتدخل في ملكيته الخاصة، وبالتالي فإن أي مساس بها يستلزم مراعاة القيود المفروضة قانونا بخصوص المساس بالملكية الخاصة والتي من بينها التعويض العادل والمسبق وشرط ان تكون المصلحة العامة تقتضي ذلك، كما نصت على ذلك المادة 15 من الدستور.
المساس بمبدأ المساواة امام الأعباء العامة، ذلك ان المادة 92 من قانون 2010 نفسه نصت على الزامية شرط المسافة على كافة امتداد التراب الوطني، والوزارة انما تسعى حاليا لإلزام بعض الصيدليات المتواجدة امام بعض المنشأت الصحية العمومية في نواكشوط بهذا الشرط، وتغض الطرف ـ بحكم الواقع ـ عن صيدليات عديدة أخرى توجد امام منشآت طبية عمومية أخرى في نواكشوط وفي داخل البلاد، الشيء الذي يحمل أصحاب الصيدليات المتضررة أعباء عامة لا يتحملها من هم في نفس المركز القانوني معهم.

ثالثا : انه حتى بالنسبة للصيدليات القليلة التي تحصلت على تراخيصها بين 2004 و2010 ، وحتى تلك التي تم الترخيص لها بعد 2010 ، فإن الزامها 2019 بتطبيق ذلك الشرط فيه ظلم بين واجحاف جلي يصل لحد خرق القانون بمفهومه العام ، ذلك ان المخاطب بالمادة 90 من قانون 2010 التي قررت تلك المسافة انما هو الإدارة نفسها، حيث نصت على انه لا يمكن منح ترخيص في شعاع 200 متر من المنشأة الطبية او من المنشأة الصيدلية، ومنح الترخيص من اختصاص الإدارة حصرا، لذا يكون عليها لزاما وهي بصدد منح الترخيص لأي شخص أن تتأكد من استيفاء ذلك الشرط ، خصوصا ان المادة 89 من نفس القانون نصت على وجوب ان يحدد في الرخصة الموقع الذي توجد فيه الصيدلية المراد استغلالها.
لذلك حين لا تلتزم الإدارة بذلك القيد وهي بصدد منح الشخص المذكور ترخيصا في مكان محدد، ويستثمر فيه جهده وماله عن حسن نية، يتولد له جراء خطأ الإدارة ذلك مركز قانوني تتعين حمايته وحقوق مكتسبة تجب صيانتها، ولا يجوز للإدارة ان ترجع بعد عقد من الزمن وتستفيد من خطئها.

رابعا: شرط المصلحة العامة التي ينبغي ان يتأسس عليها أي قرار اداري من هذا النوع منعدم في هذه الحالة، ذلك انه لا مصلحة عامة ظاهرة من إلزام الصيدليات بالابتعاد عن المراكز الطبية كل تلك المسافة، والواضح ان تلك المسافة انما هي مقررة لمصلحة أصحاب الصيدليات أنفسهم من خلال منح كل صيدلية فضاء جغرافيا محددا تحتكر فيه تقديم الخدمة.

خامسا: قانون 2010 نفسه الذي ثارت الوزارة متأخرة لتطبيقه بحذافيره نص في المادة 88 منه بوضوح على انه لا يمكن ان يرخص في تحويل صيدلية من مكان إلى آخر إلا باستيفاء شرطين اساسين هما: عدم التشويش على التموين العادي بالأدوية لسكان الحي الأصلي والاستجابة للحاجيات الحقيقية للسكان المقيمين في الحي المستقبل للصيدلية.
وغني عن القول ان في تحويل الصيدليات المستهدفة حاليا من اماكنها الحالية تشويش واضح على التموين العادي بالأدوية للمستهلكين، إذ ان كل المؤسسات الطبية العمومية لا تتوفر على مقومات تمكنها من تزويد روادها بالأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية، مما سيتطلب من مرتاديها تحمل مشاق أكبر في الوقت والمال، ولعل فيما شهدته المؤسسات الطبية اليوم من اضطراب في أداء الخدمة خير دليل على ذلك.

سادسا: ان الأضرار التي ستنتج من تطبيق هذا القرار جسيمة ولا يمكن ان تكون محل مناكرة، فزيادة على اضطراب الخدمة وابعادها من المواطنين وتحميلهم مشاقا أكبر، سيتسبب هذا القرار في خسائر بمئات الملايين وفقدان عشرات الوظائف، وذلك في مقابل صفر فائدة.

سابعا : الصيدليات المتضررة مارست حقها القانوني و المدني حين عهدت القضاء بدعوى إلغاء ضد قرار وزير الصحة القاضي بإلزامها باحترام شرط المسافة المنوه عنه أعلاه بناء على المقتضيات القانونية الواردة في قانون 2010 ، وتقدمت امام المحكمة المختصة إضافة إلى ذلك الطعن باعتراض بعدم دستورية تلك المقتضيات القانونية ، وهي بصدد التقدم امام المجلس الدستوري بدعوى عدم دستورية تلك المقتضيات ، وبناء على كل ذلك طلبت من المحكمة اصدار امر بتعليق وبوقف تنفيذ قرار وزير الصحة ، وكل ذلك في اطار إجراءات قضائية مألوفة ومستقرة في العمل القضائي ، وتأمل من القضاء ـ الذي هو ملاذ الأفراد في دولة القانون امام تعسف الإدارة وشططها ـ انصافها و البت في طلباتها وفقا للقانون.

ثلاثاء, 03/12/2019 - 08:00