الحضور العمراني للمستعمر في مدينة شنقيط

لا يختلف اثنان أن المستعمر لم يترك كبير أثر إبان مروره بأرض بلاد شنقيط القطر أحرى مدينة شنقيط العامرة، ومع ذلك فإن بنايات متفرقة ورثها سكان مدينة شنقيط، ولا تزال بادية للعيان، منها ما أصبح متهالكا، ومنها ما يزال يقاوم عوادي الزمن، مشاركا في حياة أهل المدينة من دون عناية كبيرة منهم. ورفقا بهذا التراث الذي لم يعد ملكا للمستعمر، بل تركه وذهب من دون رجعة، كان علينا أن نعتني به ولا نتركه للضياع، فقد غدا جزءا من ذاكرة التاريخ لمدينة شنقيط.

وتوثيقا لتلك المعالم أقدم هنا سردا لتلك المباني مع وظائفها ودورها في إرساء النموذج المعماري الذي كان المستعمر يستعمله في بناء مرافقه الإدارية، والثقافية والقضائية.

لقد تميزت تلك البنايات بالقوة والصلابة، وكأنها قلاع ضد الرماة فلا تكاد تخترقها أية رصاصة مما كان مستعملا في تلك الفترة. كما تميز بعضها بالعظم والاتساع وكثرة البيوت المعتبرة آن ذاك مكاتب إدارية أو قضائية، أو صحية.

إن أهم هذه البنايات حسب ما أرى هي:

_المدرسة العتيقة، وتعتبر معلمة مشيدة بلَبِنٍ شديد القوى، وتتكون من ثلاث حجرات، ومكتب للمدير، وحجرة رابعة كانت مهيئة لسكنى مدير المدرسة، وفي زمننا أصبحت حجرة مدرسية. وهذه المدرسة بنيت في سنة 1943، وأول مدير لها هو محفوظ بن ببوط، وتعلمت فيها أجيال من أبناء شنقيط، ودَرَّس فيها أوائل المدرسين من أبناء هذا الوطن من أمثال أحمد الهيبة بن الطفيل بن أحمد محمود الذي أصبح مديرا لها في فترة لاحقة. كما درس فيها المرحوم محمد بن الحيمر، الوزير السابق وهو من أبناء المدينة. وابريك بن انبارك الوزير السابق وغيرهم.وللمدرسة ملحق لسكن الطلاب(لينترن)، بني على شاكلة بناء المدرسة، واستقبل مئات التلاميذ إبان ازدهارها.

_قصر العدل، وهو من أعظم البنايت التي تركها المستعمر، بني بنوع خاص من الطين القوي على شكل كتل، وامتاز القصر بكثرة المكاتب المبلطة بما يسمى"الصف" أي الحجارة شبه المصنعة. وقد مر عليه زمن وهو يعمل حيث حول إلى مكان سُكنى بعض الإداريين.

-قصر المال، ويعرف ببيت المال، وهو بناية تماثل في شكلها وبنائها، شكل وبناء قصر العدل وكأن من بناهما كان مهندسا واحدا اختط لهم نفس الطراز المعماري من دون تغيير. وقد عمل فيه عدة قضاة من أبناء المدينة مثل القاضي من بن الشيخ بن حامن، وغيره.

_قصر الاتصال، ويعرف عندهم ب"البوسطة" أي البريد. وهو قصر جميل مبني بنفس الأدوات التي بنيت به القصور السابقة، وقد شيدت أمامه أسلاك الاتصال حيث كان المستعمر والإدارة من بعده تستعمل اللاسلكي في ميدان الاتصال، وكان البريد في تلك الفترة جد مزدهر، يتلقى الرسائل من كل مكان ويستقبل الشيكات المصرفية، ويوصل الطرود البريدية، وقد اندثرت هذه الأعمال بسبب قوة الاتصالات في هذا الزمن، مما جعل كل ما كان يقوم به البريد من وظائف يعتبر جزءا من ماضي مدينة شنقيط. ولعلي أذكر المرحوم محمد بن الغوث الذي كان رمزا للعمل الجاد والمنضبط، فكان رحمه الله يوصل كل بريد لصاحبه أين ما كان؟ وحيثما وجد، ومهما كان عمره صغيرا أو كبيرا. ولأهل مدينة شنقيطذكريات جميلة وتراثية مع عمل البريد، وعاملها.

-قصر الإسكان، ويُعرفه أهل المدينة ب"جيد تاب" وهذا المكان الواسع الذي يحوي مباني للسكن تماثل فندقا حديثا بسعته وكثرة غرفه، يعتبر معلمة تراثية للمدينة تركها المعمر، فجاءت الإدارة الحديثة وجعلت منه مكاتب خاصة بهاوأماكن لنزول الساسة والإداريين مثل الحاكم حيث كانت توجد مكاتبه بها يقيم ويزاول عمله. وفي فترة من الفترات سلمت هذه المعلمة لإدارة أهل الفلم الشهير الذي جرت معظم وقائعه بمدينة شنقيط وهو فيلم"فورس أكان" الذي كان يحكى بعض وقائع المقاومة في هذه البلاد. وعلى الرغم من تبادل الأدوار في هذه المعلمة فلا تزال صامدة تخبو تارة، ويزدهر تارات أخرى.

_المستوصف، وهو عمارة جميلة بنيت بالحجارة المصنعة، وهو غاية في القوة والتماسك، ونعتقد أنه بني متأخرا على كل البنايات السابقة، فبناؤه يختلف اختلافا كليا مع إتقان في العمل وصلابة في البناء. وقد أمه أبناء شنقيطللاستشفاء، وكان تلامذة المدرسة التي تحدثنا عنها سابقا يأتون في طابور موحد، ويتوقف العمل فيه حتى يتم فحصهم ومداواتهم، ثم يعودون إلى فصولهم. البناية أصبحت الآن مهجورة أو مستودعا للمستوصف الجديد، غير أنها لا تزال على ما كانت عليه من القوة والصلابة والصلاح للعمل، فيجب الحفاظ عليها باعتبارها إرثا حضاريا وحصنا دوائيا مشيدا.

_الحديقة العامة، وتعرف عندهم ب"صردن" وهي حديقة كبيرة تجمع أنواعا من الأشجار المثمرة، استعملها أفراد الحامية للنزهة والاستجمام، وقد أنبتوا مجموعة كبيرة من الأشجار ذات الظل الوارف(شجر كرون لمحاده، أو اجب)، ليستظل بها"الكومندور" في تحركه إليها قادما من مكتبه الذي لا يبعد كثيرا عنها. وفي أوقات متأخرة استعملتها المدرسة لتدريب الطلاب على معرفة أنواع الخضروات وأسمائها وتطبيق بعض المعارف المدرسة بها الأخرى. يأتون إليها في طوابير مع المعلم، وحينما ينتهي الدرس التطبيقي يعودون إلى الفصول للاستكمال الحصص المتبقية.

كل هذه البنايات بناها المستعمر على الحافة اليسرى للبطحاء التي تقسم المدينة قسمين: المدينة القديمة، والمباني الحكومية وتسمى عندهم ب"الصنكه" ولم يترك المستعمر أي فرصة للبناء قريبا من مبانيه حتى ارتحل وترك البلاد لأهلها.

وأخيرا نقول بأن هناك بناية وحيدة شيدها المستعمر في الناحية التي يسكنها أهل المدينة، ألا وهي معلمة السوق العام، وهي بناية كبيرة ذات فن معماري متميز، وفي مكان ظاهر بيِّن، من يقف فيه ينظر إلى المدينة الأخرى، ويقال بأن محمد البشير بن محمد صالح هو من اقترح عليهم مكانه لقربه من المواطنين، حيث يجتمع الجمع للتشاور، وتناول أمور أهالي المدينة وحيث الجميع يحضر ليشتري ويبيع.

ونقول في ختام هذا العمل أن المستعمر، قد بدأ إنشاآته العمرانية في حدود سنة 1916، عندما دخل الفرنسيون مدينة شنقيط، واستقروا فيها، وبدأوا أعمالهم الإدارية في ولاية آدرار عموما وشنقيط على الخصوص. وتحتفظ مكتبة أهل حامن بكثير من العقود التي أبرمت بين المتخاصمين في تلك الفترة، ولا شك أنها وثائق ذات بعد تاريخي لمدينة شنقيط، وهي كما أعلم محفوظة في قوالب من العود المحفور بحرفية كبيرة، ولا تزال غير مستثمرة في مضامينها التراثية والفكرية التي تحتفظ بها باعتبارها مصدرا ثرا لتاريخ المدينة.

خميس, 21/11/2019 - 09:05