رفقة المعلم ولد ابريد الليل: تنضج أفكار في الفروسية (2)

تعودنا إسداء النصح والمشورة لكل من حكم هذه البلاد حتى لا تقع الكارثة؛ ولم أبخل بتوجيه الإرشادات اللازمة لإنقاذ البلد والدفع نحو تحقيق مصالحه؛"

 

**

من أجل مصلحة الدولة الموريتانية تحالف المعلم محمد يحظيه ولد ابريد الليل مع جميع الرؤساء، منذ الاستقلال، واختلف معهم كذلك خارج نسق الصفقات وتصفية الحسابات.

 

ضحى في سبيل قناعاته بوظائف سامية تنفيذية وسياسية من أبرزها عضوية الحكومة والأمانة العامة لرئاسة الجمهورية.

 

لم تطفح تفاصيل علاقاته الشخصية مع الرؤساء على مواقفه المعلنة، وكان يكتفي بتقييم المواقف السياسية، والسمو على ما لا يليق بعد استهلاك القطيعة، ولم يبالغ طيلة صفاء تلك العلاقات، مع استثناء لافت، عبر تقييم شخصي وسياسي لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، عند ما أسدى شهادته الطوعية : "يتقيد بالكثير من الأخلاق الحميدة التي  تبقى ذات أهمية قصوى لدى الجميع، وتجلب الرضى والاحترام"، مثمنا في الوقت ذاته وضعية " الإجماع السياسي" النادرة التي تحققت بعد عام واحد من قيادته للبلد.

     

أسدى المشورة والرأي في صميم مصلحة الدولة والمجتمع وسعى لتعيين كفاءات فنية نظيفة من خارج وسطه العصبي وحتى السياسي لدى جميع الأنظمة؛ مدمنا الهجر كل ما انشغل نظام عن أفكاره  برص مشاريع القماش والكرتون الأجوف.

 

عارض الحرب، فغادر بشجاعة أربكت خصومه قبل رفاقه حزب الشعب، ليستعيد أنفاس مواجهة النظام الذي كان قد التحق به بعد رفض عنيف توج بالتأميم والتعريب. 

 

أقنع بالانفتاح ودافع عنه ليمنح رأيه المسموع البلاد دستور التعددية، الذي أوصل الجمهورية نقطة اللاعودة في مجال الامتهان الدمقراطي، بترجمة انشغالات وهواجس الناس إلى خيارات سياسية ناضجة ومشاريع اجتماعية حاضنة،  

و قرارات اجتماعية و بيئية غير مسبوقة في تاريخ العالم الثالث.

 

حرض على القطيعة مع إسرائيل ورافق المجلس الأعلى للدولة لحظة طرد سفيرها بطريقة غير ودية وتطهير الحيز الجغرافي الذي استوطنت دون استحياء.

 

تصدى بإقدام لثقافة عداء الجيش الوطني الوافدة من خارج الحدود وفكك مفردات استهدافه التي روجت لها بعض الدوائر المحلية، محيدا شنآن " خطاب" المساس بالجيش، واقفا في الوقت ذاته أمام محاولات إقحامه في حروب خارج الحدود، حيث مارس صوت عقله الحاذق نفوذه بكل قوة.

 

حظي المعلم ولد ابريد الليل كقيادي قومي باحتفاء كبير في العراق حيث كانت المراسم تخصه باستقبال الرؤساء، وارتبط بعلاقة قوية مع البطل صدام حسين، لم تحجب صحوته الاستراتيجية في اعتماد مقاربات مغايرة لبعض قرارات القيادة القطرية في بغداد.

 

يبقى حجم إصغاء الجمهورية لترتيل حكمته ذو نكهة خاصة، يستوجب تقصي أصوله ومساره والعودة بالزمن إلى الوراء، لنكتشف مستوى مساهمة أفكاره في حماية الكيان الموريتاني.

 

وفق في توظيف العقل ضمن إطار مضبوط مع التمسك بالمصلحة بحرية واعتدال في نطاق المفاهيم و صميم الفروق الدقيقة.  

 

غالبا ما يبدو، وكأنه قد اختار الظل أثناء العمل، بعد تلقف أخبار الميدان وكنوز قلوب وعقول البسطاء من الناس، عبر شك مستمر نحو بلوغ يقين صاغته العزلة و الصمت الواثق لحظة تصور يفضي نحو نقطة تحول مشهودة ومعترف بها، تجعل من هموم الناس وقودها ومن تحرك الدولة أسلوبها لتجاوز العواصف الاجتماعية والاقتصادية التي أحدثها مسار النشأة، في استحضار دقيق لمنطق الدولة الفكري.

 

جسدت شخصيته "كمستشار خاص" يحظي بثقة الدولة وحاجة من يقودها، الجانب المشرق لفترة طويلة من خفايا الحكم؛ لم يتحدث أبدا عن مادار بينه والسلطان، رغم سعي وسائل الإعلام إلى تحديد "السمة الرمادية" للرؤساء، الحقيقية والافتراضية، كما لو كانت تطارد الجزء السري من ممارسة السلطة: لم تذكر أبدا في معالجاتها الآنية دور ولد ابريد الليل، الذي تدثر بالإيمان بالدولة وحتمية الكتمان والصمت المطبق والتواري عن جادة الأضواء ليأخذ الغيث طريقه إلى مرابع الجمهورية، في نكران نبيل للذات وخدمة وافرة للأمة دون منة.

 

سئل أكثر من مرة، وهو رجل ذو خبرة في الكتمان، لم يكن معتادا على الحديث لغير المعني عن أسرار التفرغ  لمصلحة الإبل؛ كان يمتنع ، بمفرده ، عن اقتطاع نصيبه من الأسرار. وبشكل أعم، ليبقى المجال حقلا خصبا  للباحثين من المؤرخين وخبراء السياسة وعلماء الاجتماع والإعلام لتصفح كتاب أودعه ذكائه وبذله من أجل موريتانيا.

 

استمر هذا العطاء بأشكال مختلفة، مع الحرص على تكييفه مع الأساليب الملائمة لكل جيل سياسي و الاحتفاظ بخصائصه الاستراتيجية وتطويعها لمواكبة التحديات التي تواجهها الدولة في كل مرحلة من حياتها.

 

في الواقع، كان للمتعاونين مع رؤساء الجمهورية تأثير أقل بكثير مما ينتظر منهم، لذلك فإن القدرة المطلقة للمستشار المتطوع أسطورية، إذ يستمد قوته من تقيده بمجال الأفكار وغياب أبسط حماس لمصير ريعي.

 

صحيح أن الدواوين الرئاسية ليست، مسرحا للدمى، بل تغص بالعقول والكفاءات الفنية العالية؛ مع ذلك تبقى الحاجة دائما لمن يتحرك خارج الإطار الوظيفي للمساهمة في صناعة قرارات الرؤساء المصيرية التي تأخذ مسار تشكلها في السر  ويتم تنفيذها لاحقا من طرف وزراء وموظفين سامين منسجمين مع حتميات السياسة وإكراهات المهنية والدقة العالية.

 

استطاع  باهتمام بالغ إسماع بعض الاقتراحات بنجاح، ومن العبث إهمال الدور السياسي الكبير للتعاطي مع الملفات الشائكة التي جنبت الدولة انحرافا وشيكا وأكسبتها قوة مرجعية.

 

يُنزل المختصون والخبراء  مؤسسة رئاسة الجمهورية مقاما محمودا وحيزا وافرا في محيطينا، شمالا وجنوبا، يتجاوز انبهار الصحف العالمية المختصة، برحابة الفناء وتمكن المرمر وشاعرية الحدائق لبيت معماري تسكنه روح السيادة ويلبس ألق الحكمة باستعراض بهيج لشموخ النخيل، في تجسيد ملحمي لمنطق السلم كموطن للقوة والخشية، والأسرار بجميع أنواعها، المتأنية خلف البوابات والجدران السميكة والحراسة المحكمة، حيث يتم رسم مشهد ​​ البذل و الفخامة والهيبة الدائمة وأمور كثيرة تليق بممارسة السلطة العليا.

 

عبد الله يعقوب حرمة الله

سبت, 13/02/2021 - 16:10