لماذا تحدثنا عن العشرية وعن النهج كثيرا! (7/7)

هذه العشرية تميزت أيضا، من ضمن ما تميزت به من " مآس وويلات " في عيون أصحاب هذه الدعايات بتنامي الخطاب الشرائحي وتفكك النسيج الإجتماعي، لكنهم لا يفصلون لنا في أسباب ذلك، فلا   يريدون الخوض فيه لغياب الحجة، إذ لا بد لتنامي الخطاب الشرائحي وتفكك النسيج الإجتماعي من أسباب لكنهم لا يذكرون تلك الأسباب، فلا يذكرون لنا أحداثا أو انتهاكات عرقية حدثت مثلا خلال هذه العشرية كتلك التي حدثت قبلها ستينات وثمانينات القرن الماضي، ولا يريدون تحميل تلك الحقب وزر ما يتحدثون عنه مما شكل جذورا للخطاب الشرائحي وبذورا لتفكك النسيج الإجتماعي، رغم أنها هي من تتحملها وتتحمل ما لا يزال قائما من تبعاتها، ولا يستطيعون أيضا أن يُخرجوا لنا قوانين ولا ممارسات تقتيل أو تمييز أو تهجير أو تنكيل تذكي ذلك الخطاب أو تهدد ذلك النسيج ميزت هذه العشرية عما سبقها، فهل سُنت قوانين لترسيخ عبودية جديدة وأعيد العبيد السابقون لأسيادهم مثلا خلال هذه العشرية، أم جُرمت الظاهرة دستوريا ونُصبت المحاكم المختصة لمعاقبة مرتكبيها؟! وهل أرتكبت انتهاكات عرقية جديدة خلالها، وهُجر مواطنون موريتانيون على أساس عرقي من جديد، أم أعيد ألئك المبعدون لبلدهم وبصمت الأمم المتحدة بالعشرة على إغلاق ملفهم، وسُويت وضعيتهم وعُوضوا حقوقهم؟!        

 

 ما حدث فقط مما لا تدركه نُخب هؤلاء رغم أنها نُخبا، أو تدركه فتسوقه عمدا للعامة والدهماء على أنه تشجيع ممنهج للخطاب المتطرف وتهديد للنسيج الإجتماعي، خدمة لأجنداتهم السياسية، هو أنه فُتحت المنابر وأطلقت الحريات وتحرر الإعلام، فألقى كلُّ ما تخمَّر في صدره على مدى عقود مما ظل نارا من الضيم والمظالم والانتهاكات تحت رماد مصادرة الرأي والتكميم وتقييد الحريات، لتنسف رياح حرية التعبير وفتح المنابر والفضاءات والساحات ذلك الرماد عن جمر ظل متقدا نشأ بعضه مع نشأة الدولة، ورافقتها ممارساته المُشرعة والعلنية عقدين من تاريخها، ورافقتها ولا زالت ترافقها رواسبه ومخلفاته في ما تلا ذلك وهو الرق، بينما شكل فأس الانتهاكات العرقية السابقة لهذه العشرية أيضا معول الشرخ الآخر في النسيج الإجتماعي.. فلماذا تحميل هذه العشرية وزر، بل أوزار ما سبقها وما زُرع قبلها من بذور، وتمدد من جذور، وتعفَّن من أسباب ومظاهر الظلم والغبن ومغذيات الخطاب الشرائحي وتفكك النسيج الإجتماعي تم العمل بالمتاح من الجهود على جبره ومعالجته ولا تزال الجهود متواصلة في سبيل ذلك، ولماذا ( اتغشمي الراص ) وغرسه في الرمال والاعتقاد بأن كل هذه الرواسب والأحداث لن تنعكس في الخطاب عندما يُرفع الحظر وتُفتح أبواب التنفيس والبوح وزوال الخوف..!

لا يستحق الحريات وفتح المنابر وتحرير الإعلام من ينادي بذلك ويدعي النضال من أجله، وفي نفس الوقت لا يريد سماع إلا ما يريده ويرتاح لسماعه ويُريحه من ماضيه في هذا الإعلام، بينما يرى فيه أصحاب القضايا والمظالم متنفسا ووسيلة للتعبير عن مظالمهم وقضاياهم وماضيهم، وفي النهاية عبر كلُّ عما كان يغلي في خلجات نفسه مما كان يعبر عنه بين الجدران وفي الغرف المغلقة بسبب الخوف، ولم تسقط السماء على الأرض.. وسار البعض في ذلك الخطاب إلى أقصى المدى، لكن الكثيرين منهم اكتشفوا في منتصف الطريق أنه ليس خطابا مجديا وأنه لا يليق بالمناضلين من أجل الحقوق، وأن الحقوق لا تُنتزع بهتك حقوق جديدة فتراجعوا عنه بلمئ إرادتهم، وأصبح ذلك الخطاب هو مشكلتهم اليوم مع من لا يزال يحمله منهم.. واتضج جليا أن ذلك كان أفضل بكثير من توهم واعتقاد إمكانية السيطرة وبشكل دائم على النار تحت الرماد من خلال مصادرة الرأي والتكميم..

 

 وظهر كذلك أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز كان على حق وقناعة ووعي في هذا الجانب، حين كان كلما طالبه البعض بالحد من حرية الإعلام، أو ما يسمونه الحريات المفرطة وما أفرزته من خطابات، رغم أنه كان المتضرر الأول من ذلك بما ارتكب في حقه شخصيا من سب وشتائم ودعاية وتلفيق، كان يطالبهم بالصبر قائلا بالحرف إن التكميم و مصادرة الرأي ( هو الجايين من شورُ ) ولم يفدنا شيئا ولم يحل لنا مشكلة، وأنه مع الوقت والتمرن على ممارسة الحريات ستتغير الأمور. والمضحك هنا، شفقة وتناقضا لا طرافة طبعا، أنه عندما ظهرت خطابات الكراهية على وسائط التواصل الإجتماعي مؤخرا وتخطت الحدود واتخذت منحى التحريض، فسنت الدولة قانونا للتصدي لذلك الخطاب، إذا بالذين كانوا بالأمس يشتكون من الحريات المفرطة، المطلقون لدعاية تميز هذه العشرية بانتشار الخطاب المتطرف، ينددون بذلك القانون ويحسبونه تراجعا في الحريات، وسيفا مرفوعا في وجوه أصحاب المظالم والحقوقيين لمنعهم من التعبير عن مظالمهم!!!

 

وكما تميزت هذه العشرية بالخطاب المتطرف وتفكك النسيج الإجتماعي بزعم هؤلاء، تميزت أيضا بانتشار ظاهرة الإلحاد الذي لم يُخرجوا لنا هو الآخر قوانين تم استحداثها لحمايته، أو أخرى تم إلغاؤها لفتح الطريق أمامه لكي نقول إنها كانت سياسة ممنهجة، أو توجها رسميا خلفه موجهون رابحون أو مسرورون لظهور الإلحاد.. وفعلا فقد ظهرت حالة من هذا الإلحاد، أو تحد المعتقد، وللسبب ذاته الذي أدى إلى ظهور الخطاب الشرائحي، أي حرية النشر والتعبير والتفكير، فأنت عندما تنتهج حرية الصحافة والتعبير لا يمكنك زرع " شريحة " في دماغ كل إنسان لرصد تفكيره وما ينوي قوله مُسبقا! وقد أخذت هذه الحالة منحى داخليا خطيرا وبعدا دوليا أخطر التقيا في نقطة ارتكاز أمن واستقرار ومصالح البلد، فتم التعامل معها بأقصى درجات الحكمة والتبصر، وطبقا لما كان موجودا من قوانين جنائية بهذا الخصوص، وسُدت الذريعة مستقبلا بتشديد العقوبة بتعديل المادة الخاصة بهذا السلوك.

لكن دون الرضوخ لإرادة وابتزاز من أرادوا استغلال هذه القضية لمآربهم تحت يافطة السياسة تارة والحقوق تارة، وتارة أخرى باسم الدين، الصادق منه وذلك الذي وُصف في ما بعد بأنه كان مغشوشا.. ذلك أنه لا مساومة في المسؤولية عن مصالح البلد والشعب، وحامل تلك المسؤولية لا يفكر أو يتصرف ك " شاة الدية " غير المسؤول عن مصالح ولا تبعات، أو المتهور الذي لا يلقي بالا للعواقب والمآلات.. بالضبط مثل تناول الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي رحمه الله الكلام في قمة الجزائر سنة 2005 وطالب القادة العرب بقطع العلاقات مع الغرب وطرد شركاته ورعاياه، وعندما انتهى من كلامه شكره الرئيس بوتفليقه الذي كان هو من يرأس الجلسة ويوزع الكلام، وقال له لو لم أكن أتحمل مسؤولية ومصالح بلد وشعب لذهبت معك في ما طالبت به، ولكنني مسؤول عن مصالح بلد وشعب..!    

حاصل الأمر..

وكما قال الشاعر في مديح " آل مامين " معددا مناقب آبائهم وأجدادهم، معرجا على " الطالب بوي " فيقول :

ولدى الطالب بوي من خير  ***  يا مريد الخيرات ما تبتغيه

هو غوث الندى وطود المعالي  ***  سر ما في الآباء والجدود فيه

حاصل الأمر أنني منه أرجو    ***  فوق ما نال والدي من أبيه

فحاصل الأمر أن موريتانيا بعد خوضها التجربة لعشر سنوات مع رجل وطني مخلص ومُخَلِص كبير، الرئيس محمد ولد العزيز الذي قادها بكل عزم وبعد نظر وصبر مجتازا بها محطات حرجة ومنعطفات دقيقة، قاطعا بها أشواطا معتبرة إلى الأمام، واصلا بها إلى بر الأمان وتركها في يد أمينة، لترجو اليوم فوق ما نالت من عزة وبناء وأمن واستقرار على يده من خلف لا يأتي دونه وطنية وصبرا وحنكة وإخلاصا، رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، ليواصل المسار المظفر للبلاد تدعيما للأساسات وصونا للمكتسبات وتعلية للصروح وحفظا للعهد وتجسيدا للتعهدات، حتى وإن كان ( ال وصاك أعل أمك حكّرك ). صحيح، وللأسف الشديد، أنه وبسبب الإعلام الجديد أصبح الصوت العالي اليوم للغوغاء وما تُدجله معها من دهماء، وما تصك به الآذان من ضجيج، وما تقلبه من حقائق، وما تُرهب به أصحاب العزائم الضعيفة والإرادات المترددة المهزوزة ، الذين يحسبون كل صيحة عليهم فيرتبكون ويفقدون البوصلة ويحيدون عن الأهداف المرسومة، ويضيع عليهم الوقت في التخبط وإرضاء هذا وإسكات ذاك، وقد جربوا ذلك على مدى عشر سنوات من الحكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز وما حصدوا غير الخيبات، وما عطلوا ما أردوا تعطيله وسيواصلون، ولكن هيهات، فالطينة اليوم من نفس الأديم والكاريزما من نفس التكوين والرؤية من نفس المنطلقات.. وفي النهاية سيأخذ الزبد معه الغوغاء إلى الجُفاء وسيمكث في الأرض ما ينفع الناس، وفي النهاية أيضا سيتحدث التاريخ.

وسموا ذلك ما شئتم، استمرار للنهج، أو مواصلة للمسار، أو " مسافنة " للأمانة والإخلاص للوطن.. فلم نتفاجأ عندما قلتم إنه لم يكن تداولا للسلطة لأنه كان مجرد إحلال فريق محل فريق أو رفيق مكان رفيق، ومع ذلك تريدونها قطيعة! فقد سبقناكم وفهمناها مبكرا من أسلوبكم وأجنداتكم وحساباتكم، أن لا تدول للسلطة في قاموسكم إلا إذا كان ذلك التداول سيُخرج فريقا من الوجود ويأتي بكم، مع أن طرق هذا النوع من التداول، القطيعة، ثلاث ولم يكن ما حصل واحدا منها، فلم يكن انقلابا يأت بخلق جديد قد تكونون في مقدمته وقد طالبتم به مرارا، ولم يكن رحيلا بثورة تمسح الطاولة لإخلائها لكم وقد سرتم فيها سنين، فكان انتخابا خضتموه فرادى وجماعات طبقا لاستراتيجيتكم " الحاسمة " التي زعمتم أنكم فضلتموها على خيار المرشح الموحد الذي عز التوافق عليه، فكان أخاك مكرها لا بطلا.. فحصل ما حصل مما أنتم اليوم في مفترق ودوار هل ترفضونه أم تقبلوه، ولا الشعب ولا الفريق ولا الرفيق أرادوها أو أعلنوها، كما أردتموها، قطيعة، ولاشيء مما جرى حتى الآن يوحي بأنها، في خطوطها العامة، قطيعة.

  

 وعموما ما تقدم رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني للرئاسة وما انتخب إلا لأنه يحمل جديدا وتلك هي قيمة وجوهر التداول، إذ لا يتوقف التجدد ولا التجديد لأنهما من سنن الحياة، فالأنهار تتجدد دون أن تغير مجاريها، والأشجار تورق وتُزهر وتُثمر دون أن تغير أصنافها وعائلاتها النباتية، وحتى ما كان صالحا في حقبة سيحتاج في حقبة أخرى إلى إصلاح وهكذا.. لكن أين المشكلة! لم يخرج شيء من يد أي كان بعد، فمن كانوا مع هذا النهج قد واصلوا معه ولم يتخلف منهم أحد عن دعمه، ومن كان معارضا له لا شيء يرغمه على الإلتحاق به، خصوصا وأن الكل مجمعون على أن لا نظاما ديمقراطيا سليما بدون معارضة، لكن دون أن تنسى أو تتجاهل معارضتنا أن ما تسميه الجفاء السياسي والإقصاء طيلة العشرية الماضية كان لها الدور الأكبر فيه من خلال عدم الإعتراف برئيس منتخب، والعمل بكل قواها على تشويهه والتخلص منه لا ديمقراطيا، ولتحدد ما إذا كان في مسارها ذاك ما يغري ويشجع على المواصلة فيه من خلال رفض كلمة صناديق الإقتراع وفي نفس الوقت المطالبة بالحوار الذي لا ينبغي ولا يجوز أن يكون ثمنا مقابل الإعتراف بالشرعية كي لا يصبح ذلك سُنة وسُنة سيئة.

وأخيرا، هل تابعتم خطاب رئيس الجمهورية بالأمس من على منبر هيئة الأمم المتحدة بعد أقل من شهرين على تسلمه السطلة في البلاد؟ فكم ورد في ذلك الخطاب من مفردات اعتمدنا في موريتانيا، وخصصنا، وركزنا، وأطلقنا، وبذلنا، وتمكنا، وعملنا، وأحرزنا، ونجحنا، وحققنا، وستواصل موريتانيا.. وذلك في مختلف مجالات وأوجه الحياة، في الأمن والصحة والتعليم والبنى التحية والحكامة والطاقة والنمو والديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والدبلوماسية..؟! تلكم هي مكتسبات هذه العشرية، والتي ما كانت لتتحقق لولا رؤية ونهجا وذالكم هو النهج الذي تحدثا عنه كثيرا، وإذا كنا فشلنا في إيصال الفكرة إليكم، أو كنا أسمعناكم ما تفضلون سماع غيره، فها هو المعني الأول والأخير بمواصلة النهج أو القطيعة معه يحدثكم، فهلا وصلت الفكرة وزال اللبس..!                  

محمدو ولد البخاري عابدين    

ثلاثاء, 01/10/2019 - 10:43