نهضة الأمم: نكوص النخبة (5)

توطئة:

سلسلة "نهضة الأمم" عبارة عن مشروع مجتمعي بأسلوب التخطيط الإستراتيجي المتبع في بناء الدول والكيانات الإجتماعية مساهمة مني مع غيري من النخبة الثقافية والعلمية الموريتانية في التأطير والتأصيل لمفاهيم علمية حديثة تتجاوز أنساق وبنى الحداثة المعرفية بغية إنتشال المجتمع والدولة الموريتانيين من براثن التخلف والجهل والمرض إلى رحاب المدنية الواسعة حيث العلم وآلياته هما المقود والقاطرة لأي مسعى تنموي يُراد به تجاوز الواقع الراكد ومواكبة روح العصر شكلا ومضمونا كأبرز التحديات الوجودية في زمن العولمة المتسارع الأنفاس والمتلاحق الوتائر. حيث أدرك المخططون الإستراتيجيون أن التراكم المعرفي الهائل أوجد طفرة معلوماتية كنتاج للثورة الهائلة في عالم الإتصالات التي جعلت العالم بحق قرية كونية وغيرت مفهومي الزمان والمكان التقليديين اللذين قرا في وطرنا كمفهومين ثابتين ذوا أبعاد ثلاث في مخيالنا الجماعي ليحل محله زمكاني إفتراضي سايبيري (ذي أبعاد أربعة شديدة التداخل) يوغل في بسط نظمه وأنساقه المعرفية دون هوادة. هذا البعد الإستشرافي هو ما جعل المخططون والمسئولون عن إدارة الشأن العام يدركون أن آليات التفكير الكلاسيكي في مواجهة إستحقاقات الواقع التنموية لم تعد تجدي للتصدي لإشكاليات تتجدد كل ثانية مما يستدعي تفكيرا مغايرا وطرائق مستحدثة وأنساقا شمولية صارت ميسم علوم الإناسة في آخر عقدين.

******************************

عندما شرعت في كتابة سلسلة نهضة الأمم كمشروع مجتمعي بأسلوب التخطيط الإستراتيجي للتأطير والتأصيل لثقافة علمية وعملية لبناء موريتانيا الدولة والمجتمع بعيدا عن كم الإسفاف والتسطيح وفقدان البوصلة الذي يتسم به معظم تمظهرات الحراك السياسي والنخبوي عندنا في موريتانيا، ولاقت هذه السلسلة قبولا حسنا واحتفاء من العديدين من قراء العربية في موريتانيا,أري أنه لزاما علي توضيح الملاحظات التالية في عجالة:

1. إنني عندما قررت كتابة سلسلة نهضة الأمم كان آخر ما أفكر فيه هو العمل السياسي,ليس تجاهلا أو استخفافا مني بهذا الحقل الحيوي,بل لأني أري أن طريقة تعاطينا السياسي كموريتانيين هو بحد ذاته جزء من الأزمة التي أتحدث عنها! وأحب في هذا الصدد أن أؤكد للساسة الذين تواصلوا معي أنني أفضل أن اخدم وطني من باب العلم والمعرفة والثقافة كأي تكنوقراطي بعيدا عن تصنيفات الموالاة والمعارضة.

2. أكرر أن أزمة موريتانيا هي أزمة مجتمع بالمقام الأول وليست أزمة سياسات حكومية آو برنامج سياسي انتخابي, فعقليتنا الارتكاسية التي تجافي روح العصر ولا تقيم وزنا للتراكم المعرفي هي المسئولة عن كل التردي الذي نعيشه.

3. طالما أننا لا نستشعر المأزق الوجودي الذي تمر به بلادنا فإننا لن ندرك حجم التحديات والمخاطر المحدقة بنا وبالتالي سنظل نجتر ونعيد إنتاج أزماتنا.

                           ******************************

نكوص النخبة 

يخطئ من يظن أن التقدم او التخلف يتوقف علي المقومات المادية والموارد الطبيعية التي يمتلكها مجتمع ما وإلا لكانت روسيا والسعودية ونيجيريا والجزائر والعراق والكويت في مصاف الدول المتقدمة, فإذا كانت علوم الإناسة والاقتصاد والاجتماع السياسي والنفس السلوكي تقول أن التخلف نتاج عقلية سائدة معوقة أكثر مما هو نتاج مقومات مادية أو عوامل خارجية فإن التقدم بالمقال الأول وقف علي الإرادة السياسية ووجود نخبة ثقافية وسياسية تدرك وتعي وتتماهى مع روح العصر الذي قوامه العلم ومخرجاته، وتمارس دورها التنويري.

فالعقلية السائدة في أي مجتمع هي المحرك الأساسي والضابط للسلوك العام مما يعني انه كيف نفكر تكون حياتنا,فمنذ استطاع بول جوزيف غوبلز أن يروض ملايين الألمان ويقنعهم بالفكر النازي الشوفوني! أدرك علماء الاجتماع وعلم النفس السلوكي أنه يمكن تغيير العقلية العامة سلبا وإيجابا, وانبرت المراكز البحثية الرصينة في الغرب وبيوتات الخبرة  إلي القيام بالعديد من الدراسات بالخصوص تمخضت مخرجاتها- التي أخذ بعضها عقدين من الزمن- عن وجود إمبراطويات إعلامية عملت علي صياغة وتوجيه الرأي العام العالمي,عدها بعض العلماء والمفكرين عملية تزوير كبري شهدها النصف الثاني من القرن المنصرم نظرا للانتقائية والتحكم في دفق المعلومات مما أسهم في تحديد الخيارات والتوجهات والمزاج العامللناس!

لكن ما يجمع عليه الباحثون والمخططون الإستراتيجيون هو الدور الهام والحيوي للنخبة الثقافية في المجتمع إبان التغيرات الكبري التي تفضي لعقلية تركيبية مواكبة لروح العصر. بل ذهب الكثيرون منهم إلي جعل النخبة الثقافية هي القاطرة التي تمهد الطريق وتهيئ الأرضية للنخبة السياسية لإحداث النقلة النوعية في اللحظة المناسبة. كما أن تجارب الكثير من الدول تقدم شواهد حية علي أهمية دور النخبة المالية(أو كما يحلو للبعض تسميتها بالبرجوازية الوطنية) في إحداث نقلة نوعية علي مستوي مناطقهم(القرى والأرياف عادة).

فالنموذج الياباني بعد الحرب العالمية الثانية ومن بعده بقية النمور الأسيوية يقدم شواهد صارخة علي مدي أهمية النخبة الثقافية في تمهيد الطريق,عندما تطوع آلاف المدرسين والمعلمين علي تدريس الطلبة في عموم اليابان مجانا ولعدة سنوات, حيث جاب هؤلاء الرسل البيض(التسمية اليابانية لهؤلاء المدرسين والمعلمين)القرى والأرياف والجبال الوعرة لتدريس الطلبة ولمحو الأمية وكانت البنية التحتية محطمة تماما بعيد الحرب العالمية الثانية لذا كانت معظم الدروس تعطي في العراء وتحت الأشجار.......الخ.

وبعد أن تم بناء المدارس والمعاهد والجامعات في العام 1951 بجهد ذاتي وتطوعي من الشعب الياباني الذي جعلته كتابات وخطابات النخبة المثقفة اليابانية يتوحد خلف هدف واحد هو وضع اليابان في الصدارة مهما كان الثمن, من هنا يمكننا فهم النص الذي كتبه الروائي الياباني"ياسوناري كواباتا" بشغف وحميمية شعرية راقية وهو يتحدث عن مدي الغبطة والحبور والسعادة الغامرة التي يستشعرها مدرس متطوع حيال عمله الذي يضعه في مرتبة القداسة!(رواية البحيرة لكواباتا).في منتصف العام 1951 ومع انتظام الحياة وعودتها إلي طبيعتها تم وقف برنامج العمل التطوعي وتقديم رواتب للمدرسين والمعلمين بعد عقد من الزمن.

دون الدخول في تفاصيل التجربة اليابانية الرائعة والمدهشة التي تقدم نموذجا ناصعا عن الوطنية الحقة وروح التحدي. أما تجارب كل من ماليزيا وكوريا وسنغافورة التي يجمع بينها قواسم مشتركة ثلاثة هي:

1. أن كل بلد من هذه البلدان الثلاث كان فقيرا ويقبع في ذيل القائمة ويعاني التخلف والجهل وتنهشه الأمراض والأوبئة.

2. عملت النخبة الثقافية الوطنية في كل بلد من البلدان الثلاث وفي بحر عقود قليلة علي تغيير عقلية الناس عبر نتاج إبداعي ضخم شمل الرواية والمقالة والمسرح والشعر والموسيقي والاهم القدوة الحسنة وعيش التجربة!

3. المورد الرئيسي والاهم الذي عولت عليه هذه الدول في انطلاقتها نحو المستقبل بثقة هو العلم والتعليم كأهم رأسمال بشري، لذا كان استثمارها في العقول هو الطريق الذي قاد هذه الدول إلي أن تصبح في عقود قليلة فواعل حضارية تناطح الكبار بعد أن كانت كمًا مهملاً وعبئًا علي الإنسانية!.   

في منتصف الخمسينات وحتى أواخر الستينات من القرن المنصرم كانت البنية التحية لدولة لبنان تفوق دولا غربية كاسبانيا والبرتغال واليونان وايطاليا وبلجيكا بل إن المنتجات الصناعية اللبنانية في تلك الحقبة كانت وجهتها الرئيسية أسواق" نخب أول" في دول أوروبية كفرنسا وألمانياوهولندا ومعظم دول أوروبا الغربية! فما الذي جعل لبنان البلد العربي الذي لا تمتلك حكومته أي موارد لإنشاء بنية تحتية بهذا التقدم والرقي في تلك الحقبة؟! قبل أن تحطمه الحرب الأهلية وترجعه إلي دائرة الدول المتخلفة التي لم يستطع لبنان الخروج منها حتى الآن!

الإجابة أن المهاجرين اللبنانيين(معظمهم تجار)الذين هاجروا من لبنان في أواخر عهد الدولة العثمانية هربا من أتون الحرب العالمية الأولي إلياستراليا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا,عاد معظمهم بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية إلي لبنان وقد قام الكثير منهم ببناء وإنشاء بنية تحتية حديثة(شوارع – مدارس – مستشفيات – مراكز صحية وعيادات – بريد – مصانع – محطات الكهرباء – شبكات الصرف الصحي – جامعات – معاهد فنية متخصصة – مسارح – دور سينما .....الخ) كلا في قريته أو ضيعته (البلدة باللهجة اللبنانية) وبالمقابل صار المواطنون يدفعون ضرائب نظير هذه الخدمات والتسهيلات لهذا التاجر ابن قريتهم أو ضيعتهم الذي تكفل ببناء هذه الإنشاءات والمرافق الصحية بدلا من الدولة وأصبح مثل هؤلاء التجار أعيان لا ينافسهم احد في قراهم أو ضيعهم عند الانتخابات.

هكذا يكون الاستثمار الحق أن تساهم في بناء دولتك دون أن تخسر أوقية واحدة بل كان ربح هؤلاء التجار مضاعفا وحققوا المكانة الاجتماعية التي لا يجلبها المال والاهم محبة الناس وامتنانهم وتقديرهم!

تجارب الشعوب كثيرة التي تفصح عن أهمية دور النخبة الثقافية والمالية في تمهيد الطريق للنخبة السياسية لإحداث نقلة نوعية في المجتمع لعل أبرزها تجربة مهاتير محمد الذي حول ماليزيا من أفقر دولة في العالم  وفي بحر عقدين من الزمن إلي عملاق اقتصادي وعلمي وحضاري يحتل المرتبة التاسعة حاليا في جوقة الكبار,بعد أن مهدت له الطريق ثورة ثقافية صامتة قادها مثقفون من العيار الثقيل في ماليزيا لمحاربة الفساد والرشوة والمحسوبية وكل أدران التخلف.

تخيلوا معي أعزائى الموريتانيين لو أن كل ثري أو رجل أعمال موريتاني قام بإنشاء جزء من البنية التحتية في قريته أو مدينته أو حيه لساهم المال الوطني في التسريع من إنجاز الحد الأدني من البنية التحتية عندنا. لكن عقلية التخلف التي نرسف تحت أغلالها مثقفين كنا أو تجارا أو ساسة أو حتى مواطنين عاديين هي التي جعلت البرجوازية الوطنية الموريتانية تساهم وتجذر تخلفنا حيث كانت وللأسف وطيلة العقود الستة الماضية من عمر مشروع الدولة الذي لم يستكمل بعد(الدولة الخديج),كانت هذه البرجوازية الوطنية معول هدم ساهم في تبديد الثروة الوطنية في نشاطات تجارية ربحية لا تعود في معظمها بأدنى فائدة علي اقتصادنا الوطني وشكلت هذه البرجوازية الوطنية شرخا في الدورة المالية في موريتانيا. وأصحاب النوايا الحسنة والخيريين من البرجوازية الوطنية تكتفي بإخراج الزكاة وبعضها محسن وصاحب أيادي بيضاء حيث يتصدق كثيرا ويساعد الفقراء والمعوزين،فقد سمعت مؤخرا أن تاجرا محسنا تصدق بــــ1000 كبش في عيد الأضحى الماضي، في احدي مناطق الداخل الموريتاني، لو أخذنامتوسط قيمة الكبش 3000 أوقية جديدة، فهذا يعني 83 ألف دولار، وهو ما يقارب تكلفة إنشاء مركز صحي أولي كامل التجهيز في قرية ما، وهذا أنجاز باقي وصدقة جارية ستعود بالنفع باستمرار ولعقود، خلاف الكباش التي سيتم استهلاكها دون تجدد! 

النخبة الثقافية الموريتانية هي المسئولة أولا وأخيرا عن تخلفنا شعبا وحكومة,حيث أننا وعند الاستقلال منذ ستة عقود ونصف كنا شعبا بدويا متخلفا نقطن في الفريك ولكصر وأدباي وثقافتنا ووعينا الحضاري لا يتعدي تخوم البادية والغابة,لذا عندما سكنا لاحقا في مدنا فقد نقلنا معنا ميراث البادية والغابة إلي الحواضر التي سكناها وبديهيا أننا سنتصرف بعقلية البادية والغابة لأن هذا هو الطبيعي.

وبدل أن تتولي النخبة الثقافية الموريتانية العمل علي تغيير العقلية البدوية لتكون عقلية حضارية تواكب روح المدينة وروح العصر حتى نكون جزءً من عالم اليوم عملت هذه النخبة بشكل متخلف علي تمييع وعينا الحضاري عبر نتاج ثقافي وأدبي هو إمتداد لثقافة البادية التي حتما لا تصلح للمدينة من هنا وطيلة الستة عقود ونصف الماضية كانت نخبتنا الثقافية تتجاهل واقع الإنسان الموريتاني، ولا تتناول أو تتحدث عن متطلبات عملية الانتقال من الريف والبادية إلي المدينة وما يصاحبها من سلوكيات ومتطلبات العيش المشترك في مدن مكتظة، تتجاهل كل ذلك بغباء مركب وتحدث عن إشكاليات معرفية وفلسفية تصلح لشعوب تجاوزت الحداثة وتعيش مكتسبات عصرها وليس حتما الشعب الموريتاني الذي لا يتمتع بأبسط مقومات الحياة الكريمة اللائقة ببني البشر في القرن الواحد والعشرين!

كان حري بنخبتنا الثقافية أن تعلمنا وتعمل علي تغيير عقليتنا عبر نتاج روائي ومسرحي وثقافي وأدبي وسنمائي وجمالي يزرع فينا قيم المدنية متمثلا في:

- أهمية الوقت لأنه رأسمال الشعوب والأفراد ودون إدراك أهمية الوقت الذي هو أهم رأسمال في الحياة قاطبة سنظل قابعين في التخلف,لذا تجد الوقت عندنا ممطوط ولا قيمة له(هذه مسئولية النخبة الثقافية أولا وأخيرا).

- قيمة العمل حيث أن العمل بمثله وقيمه التي علي ضوئها تتحدد قيمة ومكانة الفرد في المجتمع.

- النظافة وما يترتب عليها: حيث نلاحظ كلنا ودون استثناء كبير يذكر أن مفهومنا للنظافة مفهوم نظري(يكاد ينحصر في الطهارة !) أما واقعيا فنحن أعداء للنظافة حيث نعيش بمصاحبة القاذورات في البيت والشارع وفي محيط العمل أو الدراسة ونتبول في الشوارع ونرمي الأوساخفي أي مكان,من المسئول عن تجذر هذه القيمة اللا أخلاقية في حياتنا كموريتانيين؟ إنها النخبة الثقافية الموريتانية بكل تفريعاتها, فلو عملت النخبة الثقافية عبر نتاجها الأدبي والمعرفي علي تغيير عقلية المواطن الموريتاني وعبر القدوة الحسنة لكان الإنسان الموريتاني نظيفا. الطفل في كل بلاد المعمورة يتعلم أن ينظف ويرتب سريره عند الاستيقاظ وان يفرك أسنانه بالفرشاة والمعجون, الطفل في كل بلاد الدنيا لا يمكنه أن يتعايش مع القاذورات لأن ذويه يعلمانه حب النظافة من الصغر من خلال نظافة البيت والمحيط والشارع ومن خلال الثقافة الجمالية كالورد والزهور,نحن الموريتانيون لا نعرف هذه القيم لأننا بدو قادمين من(الفريك ولكصر وأدباى) لكن كان علي نخبتنا الثقافية أن تعلمنا هذا عبر القدوة الحسنة بمعني أن تقدم هي النموذج كواقع معاش في حياتها اليومية أولا أي أن تعيش هذه النخبة هذه المثل والقيم المدينية في حياتها لينقلها عنهم أبنائهم وجيرانهم وأقربائهم وثانيا عبر نتاجهم الثقافي الذي كان حري بهم أن يوظفوه لمثل هذه القيم النبيلة. عدم إدراكأهمية النظافة التي تعني الصحة وإبعاد الجراثيم المسببة للأمراض يشكل نزفا في الأرواح والمال دون طائل(للعلم إني أتحدث عن النظافة وليس عن الطهارة). ثقافة التخلف هي التي تربط النظافة بالمستوي المعيشي حتى قر في وطرنا أن الفقر مرادف للقذارة وانه لا يمكن أنيكون المرء نظيفا إلا إدا كان غنيا,في حين أن النظافة أمر يتشاطره كل سكان المعمورة بفقرائهم وأغنيائهم.

- تقاعس النخبة الثقافية الموريتانية عن أداء دورها التنويري والحضاري هو ما  شكل هذه الظاهرة الغريبة في مجتمعنا: الهوس المرضي بالسياسة حيث يتعاطى الجميع السياسة وكل شيء في مجتمعنا مسيس حتى النخاع!.

- تقاعس النخبة الثقافية الموريتانية عن أداء دورها التنويري والحضاري هو ما جعل الإنسان الموريتاني لا يعي ولا يدرك أهمية السلوك المتحضر والراقي عندما يسافر حيث نلاحظ جميعا أن سلوك الموريتاني أو الموريتانية في المطارات العالمية سلوك يتسم بالتخلف ومربك ومحرج ويخلف انطباع غاية في السوء عن الشعب الموريتاني, هنا الذنب والخطأ لا يقعان علي عاتق الموريتاني المتخلف الحامل لثقافة الفريك او لكصر او أدباي بل المسئولية بالدرجة الأولي تقع علي عاتق النخبة الثقافية الموريتانية التي عجزت وتقاعست طيلة ستة عقود ونصف عن إحداث ثورة ثقافية وثورة مفاهيمية تغير عقلية الناس نحو التمدن.

الأمثلة كثيرة وعديدة وتطال كافة مناحي حياتنا كموريتانيين لكن الأخطر من نكوص نخبتنا الثقافية وتقاعسها عن أداء دورها التنويري والحضاري هو إحلالها لثقافة مخاتلة عملت علي تمييع وعي الناشئة وجذرت التخلف إلي حد أن التغيير أصبح أصعب من ذي قبل. هذه النخبة للأسف التي لم تستوعب من المدنية غير القشور هي التي جذرت ثقافة "العلامة التجارية - الماركة" حتى أضحت الناشئة تختزل الرقي والتحضر في عطر أو بدلة أوحذاء أو قميص من ماركة مشهورة, ونسيت أو تناست هذه النخبة أن الرقي والتحضر سلوك قبل أن يكون شكل. بدل أن تزرع هذه النخبة الثقافية ثقافة الورد والجمال في الناشئة وان تجعلهم يستهجنون رمي الأوساخ والقمامة أينما عنَّ لهم.

هذه النخبة الثقافية للأسف هي التي زرعت ثقافة الاسترزاق وسرقة المال العام.

الهوس المرضي بالسياسة الذي جرف الناشئة وحولها عن دورها الطبيعي حيث تغيب الهوايات وممارسة الرياضات, فالعديد من الأبطال الاولمبيين هم من دول فقيرة توجوا بالميداليات الذهبية في العديد من ألعاب القوي دون أن يتمرنوا أو يتدربوا في أندية!

في دراسة أقوم بها صحبة 7 باحثين موريتانيين منذ سنوات ستري النور قريبا حول النخبة الثقافية الموريتانية وجدنا :

1. أن 88% من حملة الشهادات العليا في موريتانيا لا تقوم بنشاط تأليفي وجهد أكاديمي منتظم. وهو رقم قياسي دولي.

2. وجدنا أن معظم حملة الشهادات العليا في موريتانيا يدمنون كتابة المقالات بل إن شريحة كبيرة منهم يقتات من وراء كتابة المقالات! وان 94.7% من مقالات الموريتانيين في الشأن السياسي وهو الآخر رقم قياسي دولي! الدولة الثانية في الترتيب العالمي بعد موريتانيا، هي الأخرى دولة عربية، هي دولة السودان حيث تصل نسبة المقالات التي تتناول الشأن السياسي 26% من مجمل المقالات المكتوبة في السودان.  

3. 91% من كتابات النخبة الثقافية لا تتناول الواقع المعاش للناس بل تهرب الي تهويمات فلسفية واستعراض للعضلات بطريقة فجة معظمها يتناول الشأن السياسي داخليا وخارجيا أو أطروحات أكاديمية تعتبر ترفا فكريا في مثل الحالة الموريتانية. 

هذا الهوس المرضي بتعاطي السياسة وبشكل متخلف هو ما أوجد معارضة عتيدة وكلاسيكية تري أن التغيير السياسي هو المدخل وهو الأهمللتغيير.

متخلف من يتصور أن تغيير الهرم السياسي سيغير واقع موريتانيا نحو الأفضل لأن الثقافة السائدة المتخلفة ستعيد إنتاج أزماتها وستظل نفس الممارسات سارية لأن ثقافة الاسترزاق التي تبيح سرقة المال العام والتي تري في السياسة وسيلة للاسترزاق وتحقيق الذات من خلال الموالاة والمحاباة والتزلف وتلميع صورة الحاكم والتطبيل، هذه العقلية لا تعرف أن تبني. أيضا متخلف من يتصور أن إنشاء بنية تحتية لائقة وحده كفيل بتغيير واقع الناس وتقدم البلد.

كما تكونوا يولي عليكم, حكامنا مرآة عاكسة لما نحن عليه, أعني أنه كيف نفكر سيتم حكمنا,فالشعب الواعي والمتحضر والذي يعي حقوقه وواجباته لا يمكن أن يحكم بالحديد والنار ولا يمكن لشعب واعي أن يحكمه مستبد أو طاغي, لذا أري أنه قد آن الأوان لنخبتنا الثقافية والسياسية أن تعي أن معركتها في البناء والتشييد ليست في الحقل السياسي وحده علي أهميته.

حتى أحزابنا ومعارضتنا متخلفة كنخبتنا الثقافية ,فمعظم الأحزاب العتيدة والتقليدية في العالم لديها مصانع ومزارع بل بعضها لديه مدنا صناعية متكاملة ومدارس وجامعات وكلها من اشتراكات الأعضاء علي شكل أسهم في هذه المؤسسات الإنتاجية ومن خلال هذه الوحدات يتم تدريب الناشئة في مجالات الرياضة والفن والمعرفة ليكونوا نخبة في المجتمع وقلة منهم تعد للشأن السياسي وأخري كقادة نقابيين ومهنيين, إلا عندنا نحن في موريتانيا وكأننا من كوكب آخر فلا الأحزاب عندنا تشبه أحزاب العالم ولا الساسة عندنا يناظرون ساسة العالم من حولنا , فثقافة التخلف التي جذرتها النخبة الثقافية عندنا هي التي جعلت الجميع لا يرى في الوطن غير كعكعة يجب اقتسامها,مما جعل الجميع يتخذ من السياسة وسيلة للاسترزاق والتوظيف وتحقيق الذات وذاك لعمري لهو التخلف المركب. ثقافة تمجد سارق المال العام" متفكرش" وتحط من قيمة الموظف النزيه والشريف والمواطن العصامي "منفوش"

الأدهى والأنكي أن نخبتنا الثقافية التي استمرأت الاستسهال تختبئ وراء أطروحات نخبوية تلوكها صبح مساء لتوهمنا أن هذه هي الثقافة الحقة وتري هذه النخبة ذات الحس المتلبد والسقيم أن معايشة واقع الناس والكتابة عنه يقلل من شأنها وتتجاهل أن الثقافة نتاج معرفي لا أهمية له إن لم يسهم في تغيير واقع الناس نحو الأفضل. هذه الثقافة المتخلفة هي التي زرعت اليأس والقنوط لدي الناشئة وسدت الآفاق وحطمت بذرة الأمل بغد أفضل لدولتنا.

ورغم كل هذا فإنني متفائل جدا لمستقبل موريتانيا لأن الجيل الجديد الذي استطاع أن يفلت من ربقة ثقافة التخلف عبر استمتاعه بمخرجات ثورة الاتصالات الهائلة وأصبح علي تماس يومي مع مخرجات التراكم المعرفي في العالم, هذا الجيل هو الذي سيأخذ بيد موريتانيا إلي ذري المجد والسؤدد عكس الأجداث المحنطة من جيلي والأجيال التي سبقتنا والذين يعيشون مشدودين إلي ثقافة الموات والماضي دون فكاك.

................. يتبع إن شاء الله.

د.الحسين الشيخ العلوي

27 سبتمبر 2019 / تونس

سبت, 28/09/2019 - 12:33