تدبير المصادر البشرية للتعليم العالي (الفاعلية والديناميكية)

يستخدم مفهوم المصادر/ الموارد البشرية عادة مرادفاً للقوى العاملة، والعمل، والمنظمات، والمواهب، والأشخاص، وشؤون الموظفين، ورأس المال البشري للمنظمات والشركات والقطاعات الاقتصادية والخدمية، بالرغم من تباين وجهات النظر التي تشير إليها هذه المصطلحات. ولقد فرضت أجواء العولمة، والاندماج، والتقدم التقني، وتطور وسائل الاتصال والنقل الحديثة، تغييرا عميقا في النظر إلى حقل المصادر البشرية؛ لا سيما مع بداية القرن الحادي والعشرين، واحتدام المنافسة لاستقطاب الخبرات والكفاءات والأدمغة عبر العالم، وبعد مسار طويل من التجربة والتنظير في مجال إدارة المصادر البشرية؛ فلم يعد ينظر إلى العامل كقطعة في "ماكينة" الإدارة، وإنما كثروة ثمينة وهدف ووسيلة في الوقت ذاته لبلوغ الغايات.

    ولقد كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتقنيات الإعلام والاتصال بقيادة معالي الوزير الدكتور سيدي سالم محمد العبد، وعياً منها بهذه التطورات، حريصةً على أن تضع هدفَ دعمِ قدرات القطاع على مستوى القيادة في صدارة خُطتِها الثلاثية (2015-2016-2017): البرنامج (أ) المشروع (أ2) المتعلق بدعم قدرات القطاع في مجال المصادر البشرية. ولم يكن ذلك لمجرد التلويح بالشعارات البراقة؛ إذ إن الإجراءات المتخذة في هذا الاتجاه والنتائج التي تحققت في هذا الإطار تؤكد كلها جدية الوزارة في اهتمامها بإصلاح المصادر البشرية للقطاع وتحسين أدائها، وهو ما تجسد من خلال حزمة من الإجراءات أهمها:

 

1.      تدقيق المصادر البشرية

    ربما لم تحظ المصادر البشرية للتعليم العالي بالتدقيق اللازم قبل العام 2015، حيث بدأت الوزارة تدقيق لوائح الموظفين والعمال المحسوبين على القطاع، واستطاعت حصر المئات من الأسماء وإعادة أصحابها إلى قطاعاتهم الأصلية لمزاولة الوظائف الموكلة إليهم في إطار الأسلاك التي ينتمون إليها.

   كما قامت الوزارة بالتعاون مع مؤسسات التعليم العالي، بإحصاء أطقم التدريس العاملين بهذه المؤسسات، وهو ما مكن من رصد ومتابعة وضعيات العشرات من المدرسين المنقطعين عن العمل ومساعدتهم على العودة إلى وظائفهم الأصلية في إطار أسلاك التعليم العالي، أو تسوية وضعياتهم الإدارية وفق الشروط والضوابط التي ينص عليها القانون.

2.      تشخيص المصادر البشرية

    في إطار المشروع (أ2) المتعلق بدعم قدرات القطاع في مجال المصادر البشرية ضمن الخطة الثلاثية المذكورة، قامت مديرية المصادر البشرية بمساعدة استشاري مصادر بشرية، بتشخيص الوظائف بالإدارة المركزية، وتحليل المواءمة بين كفاءات الموظفين ومتطلبات المناصب التي يشغلونها، واقتراح الإصلاحات الهيكلية الضرورية لرفع الكفاءة الإدارية والتخفيف من التداخل والأعباء الوظيفية الزائدة عن الحاجة.

    وفي ضوء الدراسة التي أنجزت بهذا الصدد، تم اعتماد جملة من أدوات تسيير المصادر البشرية للرفع من مستوى الأداء وتحسين الانسيابية في مختلف مستويات العمل بالإدارة المركزية، كرسائل المهام، والوصف الوظيفي، والتقييم الدوري للأداء، وغيرها. وقد ساعدت هذه الأدوات إلى حد بعيد في متابعة أداء الموظفين وتحديد احتياجاتهم في مجال التكوين المستمر وتحسين الخبرة.

3.      إصلاح النظم الأساسية لأسلاك التعليم العالي

    وسعياً إلى الرفع من فعالية طواقم التدريس بمؤسسات التعليم العالي والحد من الحاجة إلى متعاونين خارجيين، تم إدخال العديد من الإصلاحات الجوهرية في النظامين الأساسيين للمدرسين الباحثين الجامعيين والاستشفائيين الجامعيين، وللمدرسين التكنولوجيين، تضمن على الخصوص زيادة العبء التدريسي للمدرس من 152 ساعة إلى  208ساعات في السنة، كما تضمن تحسين حجم الإعفاء من العبء التدريسي للمدرسين الباحثين والتكنولوجيين الذين يتولون مسؤوليات إدارية للموازنة بين أداء واجبات العمل وواجبات التأطير، وصاحب ذلك إجراءات متابعة ورقابة صارمة لضمان انتظام تقديم الخدمة التأطيرية في مختلف مؤسسات التعليم العالي.

    كما تم حصر الاكتتاب في الدرجة الأولى (أستاذ مساعد، وتكنولوجي)، مع تحسين الشروط والإجراءات المتعلقة بنظام الانتقال من درجة إلى أخرى في أسلاك التعليم العالي؛ من أجل وضع حد نهائي لفوضى الترقية وإخضاعها لقواعد أكاديمية صارمة وشفافة، تستجيب للاحتياجات الواقعية لمؤسسات التعليم العالي من ناحية، وتحقق حالة من التوازن بينها من حيث توزيع الكفاءات من ناحية ثانية، وتحفز على الإنتاج والبحث العلمي والتأطير من ناحية ثالثة.

    وفي إطار السياسة المنتهجة حاليا لدعم البحث العلمي وتطويره، يجري التحضير الآن لإنشاء سلك للباحثين من أجل إسناد مختبرات البحث بالخبرات الوطنية اللازمة لانتظام عملها وسيرورته، والرفع من مستوى الفاعلية في بنيات البحث العلمي بالمؤسسات المعنية.

4.     تصحيح الوضعيات النظامية للمدرسين

    وبتعليمات صارمة ومتابعة دائمة من طرف معالي الوزير، حرصت مديرية المصادر البشرية خلال السنوات الست المنصرمة على تصحيح الوضعيات النظامية لمدرسي التعليم العالي، الذين يعملون خارج الإطار سواء في الداخل أو الخارج، فألزمت العشرات ممن كانوا يعملون بعقود عمل مخالفة لقوانين الوظيفة العمومية، بالاختيار بين إلغاء العقد، والاستقالة من التعليم العالي، وطلب الإعارة، كما يسرت للمدرسين المرتبطين بالعمل في الخارج الحصول على وضعيات إعارة أو استيداع، وتم تفعيل نظام الإجازة السبتية. كل ذلك من أجل وضع كل مدرس في وضعية قانونية تجاه الوظيفة العمومية، فضلا عن توجيه الطاقات والعقول إلى ما يخدم البلاد ويحمي مصالحها، دون المساس بحقوق الموظف.

5.      تعزيز القدرات المؤسسية في مجال المصادر البشرية

    ومع زيادة عدد مؤسسات التعليم العالي في البلاد، وتنويع عروض التكوين، وافتتاح مسالك الماستر ومدارس الدكتوراه في عدد من التخصصات، كان يتحتم على قطاع التعليم العالي، العمل على تعزيز القدرات المؤسسية من حيث زيادة طواقم التدريس واستقطاب الكفاءات الوطنية اللازمة لتلبية الحاجة المتزايدة في هذا المجال.

    وهكذا فقد نظمت الوزارة خلال السنوات الست المنصرمة، أربعة اكتتابات متتالية لشغل 185 مقعدا في التعليم العالي، وذلك على النحو الآتي:

·        سنة 2016 أعلن عن 119 مقعدا شاغرا، تم شغل 75 مقعدا منها بالفعل ( 34 لجامعة انواكشوط العصرية، و17 للمعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات، و09 للمعهد العالي للتعليم التكنلوجي بروصو، و05 للمدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، و04 للمدرسة العليا للتعليم، و03 للمدرسة العليا متعددة التقنيات، و03 للمعهد العالي المهني للغات وللترجمة والترجمة الفورية).

·        سنة 2017 أعلن عن 24 مقعدا شاغرا، تم شغل 05 مقاعد منها بالفعل (04 للمدرسة العليا متعددة التقنيات، و01 للأكاديمية البحرية).

·        سنة 2017 أعلن عن 04 مقاعد شاغرة، تم شغل 03 مقاعد منها بالفعل (لصالح المعهد العالي للشباب والرياضة).

·        سنة 2018 أعلن عن 38 مقعدا شاغرا، تم شغل 19 مقعدا منها بالفعل (14 للمدرسة العليا متعددة التقنيات، و05 للأكاديمية البحرية).

    وأعلن هذه السنة (2020) أيضا عن الحاجة إلى اكتتاب 201 من المدرسين الباحثين والتكنولوجيين، بناء على تحليل الاحتياجات الفعلية لمؤسسات التعليم العالي، وتعكف لجان الاكتتاب حالياً على انتقاء ملفات المترشحين.

    يشار إلى أن هذه الاكتتابات تخضع في مجملها لعمليات انتقاء صارمة، وفقاً لمسار واضح وشبكة تنقيط شفافة معتمدة بموجب مرسوم، من أجل اختيار الكفاءات الوطنية الأنسب لشغل المقاعد المفتوحة للمسابقة، وسد الباب أمام أي تلاعب في مسابقات اكتتاب مدرسي التعليم العالي.

    وعلاوة على تنظيم الاكتتابات المذكورة أعلاه، فقد تم تفعيل سلك الأساتذة المبرزين لدعم الطاقم التدريسي للمدرسة العليا متعددة التقنيات بكفاءات وطنية قادرة على تلبية احتياجاتها في مجال التأطير. 

    وبالفعل، فقد ساعدت سياسة الاستقطاب هذه، على تقريب متوسط التأطير في التعليم العالي إلى حدود أستاذ لكل 23 طالبا.   

    إنها خطوات مهمة إلى الأمام، على طريق إصلاح جدي لمنظومة التعليم العالي وتطويرها. ويبقى العمل دؤوبا لمواصلة العطاء والإصلاح وتنمية القطاع من أجل مواكبة الاحتياجات التنموية للبلاد، والاستجابة لتطلعات شعب يستحق كل تقدم وازدهار.

    وبعد، فإن إدارةً استراتيجيةً للمصادر البشرية اليوم، لا بد أن تتخذ من الوعي بقيمة العمل وجسامة مسؤولية إدارة البشر وقدراتهم ومواهبهم وعلاقاتهم واحتياجاتهم، منطلقَها الأولَ نحو تحقيق أهدافها العليا، وهو ما ينسجم مع فلسفة البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي شَدَّد على الأولوية التي يلزم إعطاؤها للتدابير التي من شأنها أن تمكن من تثمين الموارد البشرية الوطنية.

والله ولي التوفيق.

مدير المصادر البشرية

بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي

وتقنيات الإعلام والاتصال

ثلاثاء, 28/07/2020 - 13:41