التحقيب التاريخي ذي الإنتصار الأروبى

يمثل التحقيب التاريخى الشكل الترتيبى للسلسة الزمنية ، التى مرت بها البشرية طيلة مراحلها التاريخية ، وفق سياقات تحولية تغيرت بفعلها الأحوال وتبدلت بموجبتها الدول وإنتقلت على إثرها الحضارات ، فتأسس التحقيب التاريخي بعد تطور ملحوظ عرفته العلوم الإنسانية وعلم التاريخ خاصة فى أروبا إبان إزدهار وتطور ملموس فى الفكر الانسانى والتطور العقلى ؛ الذى بلغ ذروته خلال الفترة الحديثة والمعاصرة ، فحددت المعالم الرئيسية لكل علم وفق نسق مجالي يتحرك فيه ذلك العلم ، بناء على أدوات معرفية مضبوطة ، وإنطلاقا من هذا وذاك فإن علم التاريخ قد هذبته الدراسات وقوضته المناهج فأخضعته  لنظرة أحادية الطرح والتقييم ، فشكل ذلك التحقيب ظلما سافرا جذر وجسد بشكل فعلي صفة الغلبة لأولائك الذين كتبوه بقلم المنتصر ، فكيف كان التحقيب الزمني للتاريخ ؟ وبأي منطق يخضع ذلك التحقيب والتصنيف ؟ ، هذا ما سنحاول الحديث عنه فى إطار تفكيكنا للبنية التركيبة التحولية لعلم التاريخ ، والتطورات المنهجية لهذا الفن 

 

 

لاشك أن الناظر لهذا العلم والمتعطش "للحقيقة التاريخية" يقف حيران فى صفحات مغمورة بالغموض الذي يرسم لوحته الضبابية عند أول وهلة  لتترك صاحبها محتارا يقمش يمنة ثم يسير فلا يجد إلا خيوطا ممتدة وشائكة طويلة ، وبعيدة التأصيل تعود إلى خطوات تدريجية للفعل الإنساني ، ذلكم باختصار هو ما يحتفظ به التاريخ وما يعبر عنه ، فالتاريخ هو ذلك العلم الذي يحفظ للأمم ماضويتهم ويقدم للعلم التريجيبي تطور "الظاهرة" المدروسة معبرا عن وجوده وفارضا لذاته بذاكرته المنيعة ووثائقه التليدة وسجلاته المحفوظة  ، فالتاريخ كما عبر عنه هيغل "هو مستقبل البشرية الحرة " وهو حقيقة ما ذهب إليه بن خلدون حين قال " أما فن التاريخ من الفنون التى تتداولها الأمم والأجيال ، وتشد إليه الركائب والرحال ، وتسرى فى معرفته السوقة والأغفال ، وتستوي فى فمهه العلماء والجهال ؛ وتتنافس فيه الملوك والأقيال " ، وقد عرفه ابراهيم ابو طالب حين قال  " التاريخ هو ملتقى الزمان بالمكان الذى يكون فيه وقوع الحدث ، الفريد من نوعه المنزوع من كل سابقة والممنوع من التكرار ، وآفة المؤرخ هي "الآناكرونية" " الأنا" بمعنى الخروج عن الشيئ و"كرونو" بمعنى الزمان أي الخروج عن الزمان " ، ولم يكن التاريخ يوما منذو بدايته يخضع لقانون التصنيف ولا التحقيب شأنه فى ذلك شأن باقى الفنون المعرفية فى بدائيتها ، فكان كل مجتمع يدون حسب مايمليه عليه العرف التقليدي فى الكتابة من تسجيل للأحداث ،والتحولات ، وأسماء الملوك ، والامبراطوريات 

 

 

فكان مؤرخوا الرومان القدماء ممن دونوا عن تاريخ الحضارة الرومانية القديمة كتيتيوس ليفيوس ، وقبل ذلك مؤرخوا الحضارة المصرية "كمانتيون " ، ثم الحضارة الهندية ، والصينية مع "سوما تشاين" ؛ وكذا الحضارة اليونانية مع هيرودوت و"بوليبيوس" وصولا إلى الحضارة الاسلامية ومع مؤرخيهم العظام " كالطبري" والبلاذورى "والمسعودى" كل هؤلاء المؤرخون حذوا فى كتابتهم للتاريخ حذو الأقدمين ممن دأبوا على كتابة تاريخيهم الإقليمى والبشرى والاقتصادى والاجتماعي ، دون إتخاذ تصنيف حقبوي لتاريخ البشرية وتاريخ الحضارات القدمة 

 

وبعد أن وصلت العلوم الانسانية إلى ما وصلت إليه من التدقيق والتحليل ، وما إنثنت عليه المدارس التاريخية من "الميتدولوجية" عند "سنبوس" والحولية عند "مارك بلوك" و"برودل " و" الوثائقية" ..وصولا إلى المدرسة الخلدونية وما توصلت  إليه من  نقد وتحليل ، كان لزاما على الباحثين وضع شروط منهجية قويمة ، فكان للتاريخ حظه من قبل المختصين الغرب فوضعوا شروطا وحددوا معالما ظلت مشروخة من قبل "العرب المسلمين " الذين لم يروا ذلك التحقيب إلا تغيبا ممنهجا خاضعا لأهواء الصناع والمحترفين ، متناسيين الموضوعية المطلوبة والتى يداعى إليها الغرب جيئة على ألسنتهم وذهابا فى كتاباتهم ؛ فجعلوا حقبة ماقبل التاريخ  ، وحقبة التاريخ القديم ، ثم التاريخ الوسيط ، وكذلك الحديث ، وأخيرا المعاصر "وتجوزا" الراهن ، وكانت نهاية كل حقبة إيذانا بتحول جسيم وثورة عظيمة تغير مسار حياة البشرية من نمط إلى نمط ، وحال إلى حال .

 

أما حقبة ماقبل التاريخ : فتعنى العصور الحجرية نسبة إلى الحجارة التى كان يعتمد عليها الانسان البدائي فى غدوائه وروحائه فى تحقيق معاشه ،  وتذليله للطبيعة وتمتد هذه الحقبة أزيد من 30.000 قبل الميلاد وتنتهي  3200 قبل الميلاد وهو مايعنى ظهور الكتابة .

 

- حقبة العصر القديم : وتشمل هذه الحقبة حضارات عتيدة وتطورات إنسانية عظيمة ، حيث تبدأ هذه الفترة من 3200 قبل الميلاد وتنتهي 476 م ، وتتميز هذه الفترة بتحولات عميقة غيرت أساليب المعيشة وتطور فى ظلها الإنسان وشيدت فى داخلها الحضارات .

 

- حقبة العصر الوسيط : وتبدأ حقبة العصر الوسيط من 476 م وتنتهي 1453 ، حيث يمثل التاريخ الأول سقوط روما على يد البرابرة الجرمان  فى خطة نفذها "إدواكر الاسكيري" والثانى سقوط القسطنطينة على يد "محمد الفاتح " وهي الحقبة التى تطور فيها العرب وظهر فيها الإسلام وحكم المسلون العالم .

 

- حقبة التاريخ الحديث : وتبدأ هذه المرحلة من 1453 م حتي 1789 فهذا التاريخ الأخير يعنى الثورة الفرنسية ضد الملك "الويس السادس عشر " والتى بفعلها تحول الأروبيون وانتموا فى ثوب نهضوي جديد للتهيئ فى إبتلاع العالم .

 

-حقبة التاريخ المعاصر  : وتبدأ هذه الحقبة من إنتهاء الثورة الفرنسية 1789 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية  1945 م 

 

- حقبة التاريخ الراهن : وتعد هذه الحقبة من الحقب التى طالب بإلصاقها جملة من المؤرخين الذين دعوا بضرورة تقدم وتحديث ، مناهج هذا العلم محددين بداية هذه الحقبة من1947 وصولا إلى الآن ، معتبرين أن الحرب الباردة هي جزء من الماضي القريب وبعض المشاركين فيها لازالوا أحياء يرزقون وطالبوا بضرورة مسايرة العلوم ودراسة الظواهر التاريخية الآنية ، كالحركات "الارهابية" و"الأزمات الاقتصادية " نابذين بذلك شرط تمتع الحدث "بخمسين سنة" حتى يكون خاضعا لمبدأ الماضوية التاريخية  .

 

إن هذا التحقيب رغم رصانته وضبطه إلا أن الناظر العربي إليه يرى إقصاء بينا وواضح المعالم ، فالتاريخ الذي أدمجت فيه صفحة ناصعة للمسلمين ما كان ينبغى أن يكون وسيطا ، وماهو حديث "حديث" فقط فى نظر الواضع لهذا التحقيب الذى يرى من "عين واحدة" ويفتش بيد مشلولة  ، ومع ذلك يبقى هنالك تبرير لايخلو من الحقيقة التى قالها بن خلدون هي " أن المنتصر  هو الذي يكتب التاريخ وهو الذى يملي شروطه ويحقق رغباته " وما على المغلوب إلا تقليده .

 

باحث فى مجال العلوم الانسانية. 

 

أبهاه عبدالله بودادية 

أحد, 26/07/2020 - 21:23