الفكر السياسي لمفكري عصر المرابطين

اتصل علي  زميل  قائلا  لماذا  انت تكتب عن الفكر السياسي  لمفكري عصر المرابطين، ونحن في القرن الواحد والعشرين، وهو  عصر ما بعد ايديولوجيات التحديث، والحداثة؟
وكان جوابي  ان عليه ان ينتظر حتى اكتب  هذا المقال ــ والذي يليه  من مقالات ــ لقراءته في الموقع "وكالة نواذيبو" ــ مع  واجب تقديم  الشكر للقائمين عليه ــ واذا  كان عنده ــ او غيره ــ  اي اعتراض، او اضافة، فالهدف الأولى  من هذه المقالات هو لفت الانتباه الى تراثنا الفكري، واهمية مراجعته، ولاباس  اذا نحن  اختلفنا ،  على ان الاختلاف في  المبادئ مطلب مشروع  عند اهل الفكر،  وحتى عند اهل  السياسة غير الاقصائيين، ومن باب المطلوب الاستزادة في الاثراء  الفكري، وعرض  وجهات النظر  حول التراث السياسي، والثقافي..
  ان  رأيي الشخصي يستنير  بما ذهب اليه  " سقراط " عن اهمية الاختلاف للتمييز بين  الظواهر، ولتفرد  المختلفين عن بعضهم البعض، وذلك فيما  كتب عنه : " كان ما نقيس به ذاتنا، او نلامسه  كبيرا، او ابيضا، او حارا، ووقع هو نفسه على آخر  دون  ان يتحول، لما امسى هذا الآخر، آخر..."
لذلك يسعدني ان كلا منا  يفتح بقلمه  خزان معارفه، لأن الذاكرة لن تحتفظ دائما  بما فيها .
ومن قيم المعرفة في الجانب النفعي،  تقديمها لابناء الوطن،  فيعرفون اكثر  ان بلادنا  التي  نعرفهاــ من التعريف ــ احيانا ب "جزيرة الرمال المتحركة"، و" بلاد السيبية "، و "المنكب" ،وغيرها من التعريفات المعبرة عن واقع الحال، كما يراه البعض منا، ولكن الجهل واقع ، او التجاهل على ما كانت عليه  الحواضر  فيها قبل تسعة قرون، وعن الادوار التي قام بها اسلافنا لانجاز مشروع، تجاوزوا به  الجغرافية المحيطة بهم، وصنعوا به تاريخا حضاريا لنا على هذا الموقع من بلاد امتنا، الامر الذي جعله مركزا قياديا وقاعدة انطلاق لمواجهة التحديات التي كانت تواجه الامة في الاندلس، وامارات التجزئة، والاستبداد السياسي،  والفساد الاجتماعي، وغياب الوعي والثقافة..
وكما كان لنا  تراثا في الاستبداد السياسي في الماضي، كما هو  في الحاضر ثقافة للنخبة فى انظمة الحكم ، فان لنا ايضا تراثا انصع منه  في مواجهته والانتصار عليه، وهو التراث الذي يستدعينا اكثر من دافع لاستبعاثه...  
وقد عرف  عصر المرابطين  ثورة فكرية في مجال السياسة غيرت انظمة الحكم في بلادنا، وجعلته مركزا حضاريا رائدا،، 
وهذا الذي نقدمه من فكر رواده السياسيين، يعد  نماذج، ربما تكون  باعثا  " للوعي بالذات الحضارية " لابناء وطننا الذين يتطلعون لغد مشرق، فسينعمون فيه بالتحديث،  والنهضة المعاصرة، ولكن عليهم ان يساهموا، كما ساهم اسلافهم في نهضة الامة عن طريق استشراف التغيير بالفكر، وتاليا بالتحولات الحضارية المنشودة في اقطار الوطن العربي .
وقد قال الله جل من قائل "وتلك الايام نداولها بين الناس "( صدق الله العظيم) 
والتداول ياتي اراديا  بعد عون الله تعالى، ولا يأتي اعتباطا، صدفة، وهو يحتاج لمنهج تربوي وعملي معا، ومن اهم خطوات المنهج التكاملي  :  " الوعي،  والحركة،  والعمل...."
وان يكون موجها برؤية واضحة للتغيير الاستراتيجي المعتمد على خطط تنموية، وعمرانية، وتكوين تربوي وتعليمي لكل افراد المجتمع، وفئاته، واجياله. 
ولعل هذا من مناهج التحصيل الحداثي الذي يقود خطوات التقدم، ويساهم في تنوير الوعي لدى الراي العام في وطننا..

ولن يعيقنا ما اصاب "عداد"
التار يخ  من توقفه  بالكاد، وطمس الذاكرة الجمعوية  بالخدوش، فكانت هناك حلقات مفرغة من تاريخنا لانعرف فيها ماذا حدث؟ وكيف حدث الغياب بعد الحضور المشرف؟ 
الامر الذي جعل البعض  لم يتورع عن ابتداع  افتراضات لمحطات التاريخ العام،  غير انه قزمها  " بمتخيله"  الفكري الاكاديمي لا بالوثائق، والبحث التاريخي  الموضوعي،  فكتب  عن الاعراق، و عن القبائل المستأنفة التي حافظت للمجتمع على وجوده من الاندثار فقط،  ولكنه ــ المجتمع ــ   لم ينتج معها معطى حضاريا، لان الوحدات القبلية هي  من مظاهر الانحطاط، والتخلف الاجتماعي والثقافي، وكانت في علاقلاتها فيما بينها  ترجع  بالمجتمع  الى مراحل الاطوار البدائية في سابق تاريخه،، 
فقد وقعت هجرة من  الحواضر  الى المناطق الريفية، وبذلك  فتحت ثغرة في مجاهل  الضياع والاختزال، ونتج عن ذلك  حشر  العقل، والفعل  الاجتماعيين في زوايا مظلمة، وتعطيلهما خلافا لما كان قبل ذلك في القرون الاربعة:  الخامس ، والسادس  والسابع، والثامن  للهجرة، ففيها  تفاعلت  الانظمة الاجتماعية في وحدة متكاملة ــ كدأبها في كل اجتماع حضري ــ لتحقيق الاهداف العامة، وتوحيد الجماعات في مجتمع عام...

وكان لاخراج الاندلسيين من بلادهم، ولغارات القراصنة في  الاساطيل الهولندية،  والاسبانية،  والبرتغالية على مرافئ بلادنا  ومدننا الساحلية،  التاثير المدمر،  اذ حولوا بلادنا الى مراكز  احتلالية  لاستجلاب الصمغ العربي، والذهب، وتصدير الرقيق،  وكان اول الموانئ حوض" ارغن" وذلك  منذ منتصف القرن  (9) الهجري
كما اقام البرتغاليون مزاكز اخري في مدن الشمال ..
وقد  انطمس، خبا الاشعاع الفكري، وتفكك المجتمع الى ان بدأ الاستعمار الفرنسي معبرا  غزوه عن هشاشة القوة ومظاهر  التخاذل في عصر الامارات  القبلية  في القرن (12) الهجري..
ان هذه  العوامل الخارجية،  قد ادت  لهجرة  مجتمعنا  من الحواضر،  والهروب الى اقاصي البلاد، والتوغل في المناطق الوعرة، فاضطر  لاستعادة الترابطبات  العائلية الممتدة ــ القبائل ــ  التي توزعت في المناطق، ولم يجمعها هدف  مشترك...

واليوم  كما اخطأ بعض المؤرخين الاكاديميين في تفسير الظواهر الاجتماعية، والركود الحضاري جراء عوامل الانحطاط،  كذلك اخطأ الاحترافيون في صناعة التاريخ عبر الروايات الشفوية في جتمعنا ممن يمكن وصفهم  ب " الحكواتيين" في رسائلهم الصوتية الموزعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها بمحاولاتهم البائسة  لانعاش الذاكرة بخرافاتهم واهازيجهم الغنائية التي  تستند الى " الاحاجي"  الطفولية، زاعمين انها تاريخ  للتجمعات في قرانا وحواضرنا المقفرة جراء رحلة الغياب بعد ذلك الحضور السابق المتميز...
.......

ان الاسهام الفكري في كتاب الحضرمي "السياسة في تدبير الامارة 
يحتاج منا الى  تقديم  صاحبه ــ الحضرمي ــ للقراء،  لان فكره السياسي يلقي الضوء الكاشف على تلك الفترة  التي كانت بداية لتاسيس  مشروع النهضة العربية الاولى هاهنا على نظام سياسي مركزي فشلت الدولة" الفاطمية"  في الجزائر  خلال القرن( 4)الهجري في تمكينه على قواعد راسخة من الفكر السياسي، ليضمن لها الاخير  الاستجابة والسعي للتغيير في  المنطقة: ديموغرفيا، وعمرانيا، وسياسيا، وثقافيا..

وقد سعى الخصوم السياسيون  من قادة الموحدين، ومن  ساندهم من المؤرخين  في  تكثيف  غيوم من الشك اللامعرفي محاولة لاحد من الأهمية التاريخية لدور حكم  المرابطين، لكن ذلك  استعصى عليهم  نظرا للحضور الماثل في القيم الفكرية التي انتجتها النخبة المثقفة في تلك الفترة لغاية التغيير، والتحولات التي كانت مطلبا شعبيا دون ريب، 
وقد عبر عن تلك المطالب كوكبة  العلماء ــ النخبة 
المثقفة في الوقت الراهن ــ  التي بلورت الرؤية حول  المشروع التغييري للاوضاع السياسية التي كانت قائمة .
كما استجاب لتلك الطالب العامة قادة الحكم في عصر المرابطين مستعينين بوعي المجتمع في  حواضرنا     ..

لذلك فالحضرمي، هو شخصية  فكرية، وسياسية، وكان قاضيا شرعيا في مدينة " القروان"، وهي اولى مراكز الفكر والعلم في المنطقة عموما منذ الفتوحات العربية الاسلامية..
ومكانته العلمية تشير  الى انه العقل السياسي الموجه لقادته من المرابطين في كل سياساتهم،  ان على مستوى  التسيير الداخلي، او الخاوجي،  ولعله من  وجههم  نحو مراكز المغرب العربي لبدء المرحلة الثانية من نجاح الحكم  واسقاط الانظمة،  وخلالها ــ المرحلة ــ انطفأت  احدى مشاعل الفكر التغييري  باستشهاد "عبد الله بن ياسين"  ــ رحمه الله ــ في احدى المعارك  بنواحي مدينة" الرباط" حاليا..
فالحضرمي كان  مفكرا سياسيا وتربويا، وتشهد على ذلك فصول كتابه  في علم السياسة والتبية  وكان على اطلاع واضح بحركة الترجمة للفلسفة السياسية اليونانية. 
كما كان عالما  في علم اصول الفقه، 
و يشير تخصصه المعرفي الى قدرته على تقديم الحلول للمشاكل الاجتماعية للفرد والمجتمع وفق الشرع، والسياسة معا،  وذلك  لدرايته ب"فقه الواقع"، فيما يسمى اليوم  بعلم الاجتماع في العلوم الانسانية المعاصرة .. 
كما كان عالما لغويا، وكتابه  يتميز باسلوب سهل وجميل، وهو اسلوب لايكاد يمتيز عن اللغة المتداولة في الادبيات السياسية المعاصرة.
وعلي الرغم من الصاق التهمة ــ من طرف المحققين للكتاب ــ  في الحكم على الحضرمي  بتاثره  بالادب السياسي " النفساني" ــ على راي " ابن باجة " في توصيفه لكتابات " ابن المقفع"  في الادب الصغير والكبير، وكتاب " كليلة ودمنة" ــ  غير ان اسلوب الحضرمي كان بعيدا عن الصنعة الادبية، واقتناص الجناس، والطباق، والمحسنات اللفظية، والاكثار من الامثال والحكم.. بل ان غاية الحضرمي اللغوية كانت توصيل  رسالتيه السياسية، والتربوية،، 
اما من جهة الادوار التي قام بها، فهو يعد  اول  الشخصيات السياسية من الاربعة الذين وجهوا سياسة المرابطين خلال حكمهم  في المائة سنة ونيف، وبعد غياب تلك الشخصيات، افتفدت القيادة المرابطية البوصلة السياسية،  حيث سادت  السياسة الارتجالية، وغاب التخطيط الاستراتيجي، كما حل الضعف محل القوة،  وسرى في مفاصل  الدولة في الداخل قبل اطرافها.

وهولاء المفكرون السياسيون ــ رحمهم الله تعالى ــ  هم الحضرمي، وعبد الله بن ياسين وابن رشد الجد، قاضي القضاة في قرطبة، وابن باجة اول فلاسفة الاندلس.

وقد قسم الحضرمي كتابه الى قسمين على 30 فصلا، منها  13 في السياسة التدبيرية، بينما 17 في  التربية العملية.
و كانت الفصول غير مدرجة تحت  ابواب ، ولعله تاثر  بمنهجية "ارسطو" في كتابه "السياسة" الذي لم يبوبه ،  بل بوبه  طلابه من "المشائيين" فيما بعده  ــ على راي ابن رشد الفيلسوف في تلخيصه لكتاب السياسة لارسطو ــ  حيث قسموه الى بابين: واحد في السياسة،  والثاني في التربية.

أما فصول  كتاب الحضرمي، بقيت  على حالها الاول متداخلة، الامر الذي يشير الى انها ربما  قدمت كدروس تعليمية تم  فيها مراعاة الجانب النفسي والتربوي للمستقبلين  سواء اكانوا  من قادة المرابطين ام  من جمهور المتعلمين، وربما كانت الدروس السياسية،  تقدم للسياسيين، بينما دروس التربية كانت تقدم لعامة جمهور المرابطين  لتثقيفه، لكن الدروس في مجملها تميزت  بالمنهج التربوي الذي وحد الخطاب التربوي بغض النظر عن احتمال اختلاف  المتلقين...
والامر الاحتمالي  انها كانت  دروسا  توجيهية قبل ان تكتب من طرف الحضرمي، او من طرف  احد طلابه. وقد دل على ذلك مراعاة التوقيت، لان بعض  الفصول  كتبت في صفحة واحدة، وبعضها في صفحتين، واطولها في ثلاث صغحات..
ومن المحتمل ان تكون  قدمت  في محراب واحد من  تلك الرباطات ــ الجوامع ــ او منزل امير المرابطين...  

وسيتم تقديم  كل فصل على حدة في هذه المقالات مراعين  المقارنة بين  الافكار السياسية والتربوية في الفكر السياسي المعاصر، والمصادر الفلسفية السابقة التي كانت الاستفادة منها واضحة، وبالاخص كتابات  افلاطون في  "الجمهورية، وارسطو في "السياسة"،   والفارابي في "المدينة الفاضلة"، وابن سينا في "السياسة "،،

لذلك نتساءل عما هي مظاهر الاستفادة من تلك الفلسفات السياسية فيما قدمه الحضرمي لقادته،  وطلابه، وكذلك تاثره  بمجريات الواقع المتغير سياسيا واجتماعيا ؟
                 (يتبع)

أحد, 12/07/2020 - 12:36