مقابلة نادرة مع المؤرخ المختار بن حامدٌ

كان أول لقاء لي مع تراث المؤرخ الكبير المختار بن حامد، عندما أشرفت على رسالة جامعية عنه تحت عنوان: تحقيق غرض الغزل في شعر المختار بن حامدٌ، أعدها الطالب: محمد بن محمد فال في سنة الدراسية 1987_1988،في المدرسة العليا للتعليم، وبعدها تتبعت تراثه واستفدت من موسوعته التاريخية عندما حققت شرح ميمية حميد بن ثور الهلالي للعلامة اللغوي محمذ بن سيدي أحمد بن الأمين المالكي، وعاودت الرجوع إليها عندما حققت شرح فائية ابن رازكه لعبد بن الحاج حمى الله، كما عرفته محبا لعلماء مدينة شنقيط وأهلها، ولعلي إن شاء الله أعود لذلك بتفصيل أكثر. ومتابعة لذلك وقفت على هذه المقابلة النادرة التي أذاعتها إذاعة موريتانيا في وقت قديم لم يحدده المقدم، وإذا بها تحمل معلومات نادرة عن المؤرخ الكبير، مثل بداية تحصيله وتعلمه ومدة عمله، وبعض أشياخه ومؤلفاته وغير ذلك مما تحدث به علامتنا، بأسلوبه الرائع الجميل، واستعماله، لعبارات لغوية نادرة مثل: عجرهوبجره، ومثل: مكروه أخاك لا بطل. وغير ذلك مما هو طريف ونادر. ولهذه الأسباب عكفت عليها مستمعا، حتى حصلتها، فأردت أن أتحف بها عشاقه ممن لا يطالعون العالم الافتراضي ووسائل التواصل، وكذا أولئك الذين لا يستمعون إلى أرشيف الإذاعة الوطنية التي قد تبثه ولا يتوفر إلا للمتتبع الفطن، فهي تملك أرشيفا علميا رائعا لبداية تشكل ثقافة موريتانيا، ونتاج رعيلها الأول. وأقولأن ما أنشره هنا هو مساعدة في نشر ثقافة هذا البلد سواء عن طريق ما أقف عليه مخطوطا أو مسموعا، وقد لا يكون لي من فضل فيه إلا النقل والإشهار به. وعلى الله قصد السبيل. 

 

إذاعة الجمهورية الإسلامية الموريتانية 

 

سؤال: الأستاذ المختار، ما هي المنازع التي دفعتكم إلى الاهتمام بالتاريخ الموريتاني؟

جواب: كنت في عام 1936 ميلادية، أعمل تاجرا في كولخفجئت ذات عشية إلى تاجر سوري فاشتريت منه كيسا من الصابون، فدخل علينا شامي يسمى إيميل فقال ليالتاجر هذا شاعر العرب فقلت له، وهل يوجد شاعر العرب إلا في البيضان؟ فقال لي إيميل لعلك شاعر فقلت نعم، فقال أنشدني، فأنشدته أبياتا، فقال عندي أحسن من هذا، وأنشدني أبياتا، فقلت له هذا أحسن من أبياتي، ولكن من أين لي أنها من إنشائك، فلنصف هذا الكيسفأينا أسرع بديهة وأحسن شعرا فهو شاعر العرب، فقال لي ماذا يقول واصف كيس الصابون فقلت يعرفه الشاعر فقال لا يعرفه الشاعر ولا الناثر فقلت أنا أعرفه قال ماذا تقول قلت أقول: إنه في صندوق من الخشب مكعب معصوب وفيه انكسار يبدو منه صابون رديئ غال عندك ولا تسلفه لعملائك. فقال لي أنت غريب، أريد منك لقاء الليلة في دار الحاج علي بيضون السوري. جئناه ونحن خمسة نفر فوجدنا معه جماعة من أدباء العرب السوريين واللبنانيين، فسمرنا معهم وكان من حديثنا أنهم سألونا عن مذهبنا في الدين، فقلنا: مالكيون أشعريون جنيديونفقالوا لم لم تتمذهبوا بمذهب جعفر الصادق؟ فإنه ابن الرسول، وهو أعلم بسنته، فقلت: إنكم سميتمونا بأهل السنة، وتسميتم بالشيعة، وهو لقب عنصري. فقالوا: نحن لا نخالف أهل السنة إلا في مسألتين: نفضل عليا على أبي بكر، ونلعن معاوية. فقلنا: أما تفضيل علي فلا نناقشكم فيه، لأن علم ذلك عند الله ولا إجماع فيه إلا عند أهل السنة. وأما لعن معاوية فما حجتكم فيه، فقالوا: إن الرسول قال لعلي: اللهم والي من والاه، وعادي من عاداه،ومعاوية عاداه، فإذن هو عدو لله. وقال الرسول أيضا:وعمار تقتله الفئة الباغية ومعاوية هو قاتله فهو باغ. فقلت لهم: إن عليا خطيب فصيح، فإذا كان سيخاطب معاوية يوم القيامة فهو ألحن بحجته، وإن كان لا يريد خصومتَه فلا نفتات عليه. فقالوا: هذا جواب أديب وملفت.  

ثم بعد عدة محاضرات مع هؤلاء العرب لقيني الأديب زكي بيضون، فقال لي: اكتب عن البيضان لتعرف العالم العربي بجزئه هذا الذي ليس له علم به، فبدأت من ذلك الحين على عجري وبجري ألتقط من أفواه المسنين، ومن بطون الأوراق ما استطعت وكان تحصيلي قليل لاشتغالي بمهنة البيت والتدبير معا، وقلة ذات اليد وكثرة المؤن.فتوظفت في التعليم خمس سنين، وفي المعهد العلمي الإفريقيا السوداء سبع سنين، ثم في المعهد العلمي بأبي تلميت سنتين. ثم فرغني الرئيس المختار بن داداهللبحث التاريخي على حين بلغت من الكبر عتيا. وكانتتتخلل أبحاثي أشياء تعرقلها أهمها بحثي عن المخطوطات الموجودة في موريتانيا التي استغرقت وقتا طويلا، ومنها مقابلة الزوار الأجانب الباحثين الذين شغلوا وقتا هم أيضا، والذين زودتهم بكثير من معلوماتي. كما زودت الأديب محمد يوسف مقلِد بجمهور ما كتبه في كتابه شعراء موريتانيا. هذا إلى عرقلة المرض المزمن الذي شغل وقتا في المستشفات، وبفضل فخامة الرئيس استطعت أخيرا مقاومة المرض بتسهيل الاستجمام في كناري وفي الرباط وبالإعانات المادية المشجعة.  

 

سؤال: أول ما يتبادر إلى ذهن من يريد استجوابكم هو طرح سؤال حول التاريخ وبالذات حول تأليفكم في التاريخ الموريتاني  فماذا عن هذا الموضوع؟

 

جواب: كتبت هذا الكتاب وغالبا ما كتبت بالأسلوب القديم إلا في فقرات من هذا الكتاب راجيا أن يقوم باحثو الجيل الحاضر بإعادة صياغة المادة الخام التي قدمتها في هذا الكتاب وتحريت فيما أخذته عن الحكايات الشفوية التي تختلف رواياتها غالبا ما رأيته أقرب إلى الصحة بعد المقارنة تاركا للباحثين رأيهم ورواياتهم ورائدي في كل ذلك صيانة تاريخ هذه البلاد. إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

 

سؤال: الأستاذ الحديث عن هذا الكتاب الذي ذكرتم يجرنا جرا لسؤالكم عن مؤلفاتكم ؟

 

الجواب: في الحقيقة ليس عندي شيء مهم ومسجل: ولكن لمساعدتكم أذكر لكم

أولا_ معجما مدرسيا بالهجة الصنهاجية التي هي من البربرية 

ثانيا_ مؤلفا في علوم البلاغة أستشهد فيه بشعر الشناقطة وأدبهم 

ثالثا_ أنظام متعددة في المنطق منها:

احمرار لنظم الأخضري المسمى السلم المرونق في المنطق 

ثانيا: احمرار لابن الطيب، في المنطق مع تعليق عليهما.

ثم جمع قصائد الشعر العربي التي وردت أبيات منها شواهد في التعاليق النحوية مثل طرة محنض باب على الخلاصة. ثم هذا الكتاب الموسع الذي يشتمل على تاريخ الملثمين الذين في موريتانية، وهم لمتونة واكدالة ومسوفة،وعلى السودان المجاورين لهم، ووصف بلادهم، وعلى ملوك الملثمين في أول دخول الإسلام إلى هذه البلاد،وعلى ذكر غانا وسير أهلها وملوكها، وعلى طرق الفاتحين والتجار إلى موريتانية، وعلى قيام دولة المرابطين ورؤسائهم وفتوحهم وحضارتهم، وعلى تاريخ القبائل المنحدرة من الأنصار أو من شتى بطون قريش من فهريين وبكريين وهاشميين، وحياتهم الدينية والثقافية،وعلى تاريخ بني حسان من عرب المعقل وإماراتهم ورؤسائهم وحروبهم في موريتانية. ويقع الجزء الجغرافي من هذا الكتاب في مجلد تذكر فيه الجغرافية العمرانية والاقتصادية والتاريخية والبشرية، وفي هذه الأخيرة تذكر لائحة جميع القبائل والمديريات التي تتبعها هذه القبائل بتفصيل واف.

 

سؤال: هل اهتمامكم بالتاريخ مقصور على التاريخ الموريتاني كما رأينا، أم هو اهتمام يتجاوز القطرية والإقليمية؟

 

الجواب: في الحقيقة إنما أردت التاريخ الموريتاني لأن أوائلنا بالأسف لم يهتموا به لأنهم لا يعتبرون غير الحياة الدينية والأدبية ويرون الأنساب والتاريخ حشوا، وتسود عندهم العبارة التي قيل: إن علم الأنساب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.

سؤال: ما هي أهم المصادر التي استعنتم بها في بحثكم التاريخي؟

جواب: اعتمدت من المصادر المخطوطة والمطبوعة على زهاء سبع وخمسين مخطوطة منها مثلا شيم الزوايا لليدالي وكتب والد الديماني وتواريخ ولاتة والنعمة، وغير ذلك. واعتمدت من الكتب المطبوعة على زهاء واحد وأربعين، إلا أنها لم تزودنا إلا بالقليل من تاريخ هذه البلاد. هذا إذا ما أخذته من أفواه المسنين، ومن الحكايات الشعبية التي في الحقيقة هي أهم  .. مصادرهذا الكتاب وغيره من الكتب الحديثة.

 

سؤال: عرفنا منذ دقائق أنكم ختمتم القرآن وما يتعلق بهمن رسم وضبط وتجويد على أيد والدكم وبعض من أعمامكم وأخوالكم، وعلمنا كذلك أنكم قرأتم أيضا مبادئ من العروض والفقه والتصوف، ثم ماذا ؟ 

 

جواب: علمني والدي مبادئ من السيرة والفقه قليلا، وأخذت الإعراب عن عمي باب بن محمودا بن محنضباب، ثم عن عمي الأخر بارك الله فيه بن محنض باب، ثم أقرأني والدي جزءا من العاصمية والتصريف من الألفية.وقرأت الألفية على عمي بارك الله، وعلى خالي عبد الرحمن بن بيدح، ثم قرأت التجويد على عبد الرحمن بن أحمد، أحد أعمامي. وفي الثالثة عشرة من عمري دخلت المدرسة الفرنسية مكرها لا بطل، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فأغلقت المدرسة وخرجت منها. وهكذا كنت أحضر دروس والدي في مدرسته، وأطالع الكتب وكنت مولعا بمطالعة الكتب أولا طالعت كتب التصوف للغزالي وكتب زروق، ثم قرأت ديوان المعري بشرحه، وديوان الحماسة.وطالعت كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ولما قرأت النحو كنت مولعا بجمع القصائد التي منها الشواهد فجمعت من ذلك ما شاء الله بمطالعة خزانة الأدب للبغدادي، ثم كان الاقتصاد يفرض علي تقطع التعلم إلا أني في أوقات متقطعة قرأت الأصول أولا على المختار بن محمد انبارك بن سليمان، ثم أتممتها على والدي. وقرأت عليه المنطق وحضرت درسه للعاصمية ثانية،وحضرتها أيضا عند باب بن محمودا بن محنض باب.واستفدت من مدرسة الشيخ يحظيه بن عبد الودود.وأخذت تحقيقات عن الشيخ محمد عالي بن عبد الودود،والشيخ المختار بن ابلول الحاجي، ثم خرجت إلى آل محمد سالم المجلسيين حضرت دروسهم الفقهية والتوحيدية والسيرية. وهكذا كنت أقرأ متقطعا ولكن ذلك لم يحصل عندي منه إلا الشعور فقط.

ثلاثاء, 13/02/2024 - 18:22