ولد ابريد الليل ورؤيته لبعض القضايا والمواقف الوطنية والقومية

 أنجز الأستاذ سيدي سيد احمد، مسؤول التكوين السياسي في حزب الصواب، بحثا حول أعمال الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل ورؤيته لبعض القضايا والمواقف الوطنية والقومية ، وقدمه مساء الجمعة 12/02/2024 في الذكرى الثالثة لرحيله.

 

محاولة للفهم 

 

عندما أسند إلي الرفاق في حزب الصواب مهمة تقديم هذه المحاولة في فهم بعض جوانب النص الفكري للأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل، كان شرف المحاولة  وحده هو مصدر التشجيع الذي أواجه به صعوبات نص ينفتح على عوالم ثقافية كثيرة.

نص يجمع في مدلولاته أقدمَ أنماط الميتولوجيا العالمية إلى آخر تجليات الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر، مرورا بما تناقله المؤرخون من أخبار وتاريخ الأمم والحضارات ومن أمثلتها وحِكَمها، إضافة إلى ماتضمنته أشعار العرب من قيم وتاريخ وما أبدعه فقهاء الإسلام وعلماؤه وفلاسفته من رؤى وتصورات تجمع دقيق العقل إلى صحيح الشرع في تاريخ الحضارة الإسلامية، مازجا ذلك برؤية قومية مفعمة بروح اليساري وذهنية المناضل الكادح الذي يقف على بوابة تتهددها أخطار كثيرة تفرض عليه أمانتُه الوطنية والتزامه السياسي القومي أن يستشرف مآلاتها بعقل السياسي الهادئ وخبرة المجرب الحكيم ليَجْتَرِحَ لها ما أمكن من حلول .

إن مقاربة في الفهم لنص كهذا لاتبدو مهمة صعبة فقط، بل ومستحيلة لكنها تأخذ زادها النفسي مما سيُكْمِلُ به رفاق المرحوم هذا العمل من آرائهم النابعة من تشارك التجربة وتداخل المواقف والخنادق.

إن التيه الذي سيجد باحث قليل الزاد من المعرفة واللغة نفسه عرضة له في مواجهة نص كثيف وشامل يضطرني إلى إقامة فصل منهجي يبدو- أحيانا تعسفيا- ولكنه ضروري جدا لكي يُمَكِّنَ من مقاربة هذا النص وتقديم خلاصات على هامش متْنِه الكثيف.

خلاصات تركزت على عِدّةِ محاور من خلال رصد تعاطي هذا النص مع مفاهيم الأمة والمقاومة والسياسة والمجتمع والدولة والجيش والعلاقة باليسار العالمي.

إن الخيط الناظم لعلاقة هذه المفاهيم يتمثل في صدور الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل عن فهم عميق لفكر وتجربة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي انتمى إليه في بواكير وعيه السياسي وظل مؤمنا به كرؤية للتغيير بحيث لا يخلو نص من نصوصه من إحالة إلى هذا الفكر رؤية أو تجربة، وهو ما سأحاول مقاربته من خلال المحاور المتقدمة.

 

1-  مفهوم الأمة

ينطلق الأستاذ محمد يحظيه ولد ابريد الليل في نظرته للأمة العربية من إيمان عميق بالدور الريادي الحضاري والتاريخي لهذه الأمة الذي يُرَتِبُ عليها مسؤولية كبرى تتناسب مع حجم رسالتها الإنسانية الخالدة اتجاه قضايا التحرر والعدالة، ولأن الأمة كما يقول مؤسس البعث ليست تجميعا عدديا للأفراد بقدرما هي فكرة يؤدي ذبولها إلى الفناء، فإن الأستاذ محمد يحظيه يعتقد أن الفكرة الأساسية التي يجب أن يجتمع عليها العرب والتي يمكن أن تكون وسيلة لاستعادة دورهم الحضاري هي فكرة الوحدة العربية، فبتحقيق الوحدة وبِدَوام التعلق بها يمكن أن تصنع الأمة ثورتها أو أن تأمل في إمكان تحققها، والثورة التي تعيد للأمة أَلَقَها الحضاري هي ثورة الوحدة الشاملة التي يتولى صناعتها القادة الثوريون وليست تلك الوحدة التجميعية العددية التي تظهر من خلال تجمعات ومنظمات قومية أو إقليمية بقيادة رجعية لأنها: " لن تُحقق للجماهير أهدافها المشروعة كما أنها لن تعيد للأمة مكانتها الطبيعية بين الأمم ودورها التاريخي".

وفي هذا السياق يتساءل الأستاذ محمد يحظيه قائلا: " إذا لم يكن المشروع النهضوي المعاصر للعرب يتمثل في الوحدة ففيمَ يتمثل؟"

ثم يضيف" المسألة المركزية للعرب في الزمن الحديث هي وحدتهم، المسألة المركزية هي تلك التي بحلها تحل جميع المعضلات: وهي تتمثل في السيطرة الأجنبية والتخلف وجميع مناحي الضعف مثل التفرج على فلسطين وهي تذبح لليوم مرتين.

إن الوحدة تحل القضية الفلسطينية بينما العكس غير صحيح".

والوحدة المقصودة هنا هي الوحدة الثورية الشاملة لأن "استرجاع أمة لزمام أمورها إما أن يكون شاملا وتاما أو لا يكون".

إن هذا المنظور الوحدوي الجامع والتصور الشمولي لقضايا الأمة ضمن كلية نظرية أساسها الوحدة ليس غريبا على رجل تَجذرتْ في نفسه عقيدة البعث السياسية. ولكن هذه الرؤية القومية لا تؤدي بصاحبها إلى الانفصال أو التعالي عن واقع قطره كما يروج دائما خصوم القوميين العرب، ممن يعتبرون التعلق بالقضايا الشمولية للعرب حاجزا دون رؤية موضوعية لمشاكل الأقطار منفردة.

فالأستاذ يُسَخِّر قلمه وفكره لنقاش قضايا وإشكاليات الوطن الخاص مقدما رؤية حصيفة لقضايا المقاومة والدولة والسياسة والجيش ودور النخبة الوطنية في التغيير المنشود.

 

 2- نظرته للمقاومة

يركز الأستاذ محمد يحظيه في حديثه عن المقاومة على الأبعاد الإستراتيجية لتلك المقاومة وعلى الدروس المستخلصة منها، التي يمكن أن تنير النخب السياسية في وضعها الراهن الذي اختلطت فيه القيم بالمنافع وتغيرت فيه كثيرا دلالات الأشياء تاركا للمؤرخ مجاله في سرد الأحداث وتَزْمِينها.

إن الإرث الوحيد الذي يجد الموريتانيون في الزمن الحديث ما يجمعهم فيه هو المقاومة حسب الأستاذ محمد يحظيه، فهي الحدث الذي كان يعني الجميع ولم يُسْتَثْنَ منه أحد ف"أربعة وثلاثون عاما من القتال(1900- 1934) من (الصماره) إلى (فصاله)،ومن (السطاره) إلى (واد ادْرَ) ومن (أنواذيبو) إلى (تيمبكتو)، من الشيخ ماء العينين إلى سيد ولد هنونْ، ومن ولد محمد لحبيب إلى ولد الكيحل كانت بحق هَبَّة شعب ونهضة قتال، كُلٌّ يتحمل مسؤوليته ويؤدي واجبه فرادى وجماعات"

لكن ما يستدرك عليه الأستاذ محمد يحظيه في سياق حديثه عن المقاومة هو عجز النخب السياسية عن الاستفادة من دروس المقاومة حيث يقول:

" من الجلي أن النخب السياسية في الأعوام الأخيرة لم تُفِدْ من هذه الدروس الغنية بالمثل العليا وقوة الإرادة والتضحية وتحدي الصعاب".

مبينا بعد ذلك الفرق الكبير بين ما كان مطلوبا من الأجداد وما هو مطلوب من النخب اليوم.

وفي سياق حديثه عن المقاومة يخصص الأستاذ محمديحظيه جزءا، كبيرا للحديث عن مشروعين من مشاريع التصدي للاستعمار كانت لهما طبيعتهما الخاصة.

أحدهما محاولة الشيخ سيديا الكبير تأسيس جبهة للمقاومة واصفا تلك المحاولة بقوله" ثقافة الرجل الواسعة فتحت عينيه أكثر من رجالات عصره فحاول تأسيس جبهة للمقاومة بجمعه الأمراء الذين تَسنتْ لهم فرصة التعبئة في اجل معقول( أي التموقع غرب رأس آكْرَرايْ) ولكن هيهات من يستطيع وقتها أن ينظر بعيدا؟ لقد كان ذلك الطلب أكبر من هؤلاء القادة ومن تلك العقليات ومن ظروف ذلك الزمان.

أما الثانية فهي مؤتمر (الصمارة) الذي تم بدعوة من الشيخ ماء العينين والذي كان هو الآخر محاولة للوقوف في وجه خطر الاستعمار المرتقب.

وقد خصص الأستاذ لهذا المؤتمر كتابته المشهور (غزي لركاب).

 

3-  نظرته للسياسة

 

يقول الأستاذ محمد يحظيه ( السياسة كأي حقل آخر بحاجة إلى مهنييها ليس بالضرورة الذين يعيشون منها بل لأجلها، الذين يجعلونها مألوفهم..)

ثم يحدد أساسين جوهريين للسياسة الناجحة هما: النقاش والدراسة فهما على حد قوله( يشكلان مختبر السياسة).

والسياسة في منظوره ميدان حساس وخطير لدرجة أنه لا يصلح للهواة ويحتاج المبتدؤون فيه إلى التوجيه والمتابعة لكي يتجنبوا المغامرة والسلوك الم!عيب،وهذا ربما هو وجه العلاقة الدقيق بين السياسة والشعر والسحر.

في الميادين الثلاثة يواجه كل مبتدئ خطر الانزلاق.

إن السياسة في نظر الأستاذ محمد يحظيه (ميدان تبدو بالقياس إليه كياسةُ ومهارةُ الجراح خشنة لأن الجراح يعمل على الملموس بينما السياسي يعمل أحيانا كمن يراود غيمة في الهواء في ضوء الغسق)

ثم يبين الأستاذ محمد يحظيه خطورة أخطاء السياسيين وحجمَ تأثيرها بحيث تبدو أعظم من جميع الأخطاء لأن( الخسائر فيها أكثر فداحة لأنها أعم وتشمل المرضى والأصحاء في كافة المجالات)

وهنا يتوقف الأستاذ محمد يحظيه مستغربا من صدور حكم شامل على الساسة لأن ذلك يفترض كونهم مجموعة من المتآمرين والحال كما يقول هو (أن السياسيين هم البشر الأقل اتفاقا على وجه الأرض إن كانوا عندنا أو في بلدان أخرى)

ذلك لأن اتفاق الساسة يجعلهم مجرد محترفين ( ينظرون إلى السياسة باعتبارها بقرة حلوبا).

هنا يميز الأستاذ محمد يحظيه بين سياسة المحترفين وسياسة الساسة مستوحيا ذلك التمييز الشهير الذي يقيمه الفيلسوف اسبينوزا بين سياسة الساسة وبين سياسة الفلاسفة واضعا الساسة الحقيقيين في منزلة الفلاسفة لأنهم( ودون أن يكونوا موحدين فإن لهم مع ذلك مدونة مشتركة غير مكتوبة ومن ينتهكها يسقط في الخانة الأخرى : فيئة السلوك المعيب وتلك عقوبة كافية).

 

وهذا تماما هو حال الفلاسفة.

ثم يشترط الأستاذ محمد يحظيه للسياسة الصحيحة وجود مدونة مهنية أو مدونة شرف( تفترض حدا أدنى من المدنية والكياسة والالتزام وتُمكن من تنمية المهارات السياسية للداخلين الجدد وتحافظ على التقليد المستوحى من التجربة والعقل السليم).

وفي حال غياب مثل هذه المدونة فإن( السياسة تصبح ميدانا للتناوش البائس).

ولذلك فإن( أول واجبات رجل السياسة معرفة ضرورة الاعتدال) لأن( من يقذف بكل ما في نفسه من جيد أو رديء لم يخلق للسياسة).

إن رجل السياسة في نظر الأستاذ محمديحظيه (مشدود بلجامين متينين : أولهما الاحتراز من المغامرة التي ليست هي الجرأة... أما اللجام الثاني فهو التمسك بالأخلاقيات التي تحكم دائما السياسة الرفيعة).

 

4- نظرته إلى المجتمع

 

يقدم الأستاذ محمد يحظيه سمات كثيرة تُميز المجتمع الموريتاني منها تعلقه الدائم بالسلم وحرصه على المواساة والتضامن في الأوقات الحرجة لكنه يتوقف بشكل خاص عند سمتين بارزتين هما غياب التوقع، والسرعة إلى تسوية الأمور بشكل إجمالي كلما بدا أنها قد تؤدي تصدعات أو أخطار.

بالنسبة للأولى يجد محمد يحظيه مبررها في الطبيعة البدوية وهي ليست سمة ضارة لأنها تتحول إلى مجابهة وتصدي كلما تمت مباشرة الخطر.

وفي هذا يقول( كانت معاينة الخطر في مجتمعنا ضرورية كي تحدث التعبئة وينهض الرجال،فغياب التوقعات من سمات المجتمع البدوي حتى إذا وقع المحذور حينئذ تكون الوثبة ويتقد الحماس فيتحول الخاملون من الرجال إلى ثوار بواسل فتاكين لا يلقون للموت بالا).

وأما الثانية فيرى أن مردها هو ( عادة قديمة نابعة من أعماق المجتمع تظهر من حين لآخر في الأوقات الصعبة عندما تكون هناك خشية من تفاقم العنف وانتشاره مفادها: أن يتم تقدير الوضعية إجمالا بشكل مسبق ويُسْتَنْتَجُ أن ما هو مناسب ومفيد غير ممكن دون خسائر ثم يتوج المسؤول بتاج الفضيلة في احتفال علني، وفي الليل يتخافت من توجوه مُسْتَعِيذينَ مما فعلوا في الظهيرة).

ولنا أن نتساءل: هل كانت مثل هذه العادة المتأصلة في أعماق المجتمع تعبر عن جذور شيعية في الوعي والسلوك أساسها مبدأ التقية؟

ذلك ما يمكن فعلا توقعه.

 

5-  نظرته إلى الدولة

 

يلاحظ الأستاذ محمد يحظيه ضعف مستوى الشعور بأهمية الدولة في وعي الإنسان الموريتاني فيؤسس لذلك الضعف مبررا تاريخيا عندما يقول( في الواقع كل ما يشكل فخرا للأجيال الماضية والحالية على طول وعرض غرب الصحراء الكبرى لا يوجد فيه شيء اسمه دولة، مجتمعنا لا يتذكر دولة صنهاجة وملوكها يَتْلُتَانْ وترجوتْ وتِلَلَّاكاكينْ وغيرهم في حدود القرون من السابع إلى التاسع).

غير أن ذلك الضعف في الشعور بأهمية الدولة لا ينفي في نظره أنه كان هناك علماء كبار يتمنون وجود الدولة ويشكون من غيابها، ومن هؤلاء العالم الشيخ سيديا الذي يعتبره الأستاذ محمد يحظيه بحكم معارفه الجمة ( ووعيه السياسي والتاريخي كان من جبلة مؤسسي الإمبراطوريات لكنه سقط في وسط مجتمع قد وصل من قبله إلى مرحلة متقدمة من الانحطاط والتيه).

ثم يلاحظ الأستاذ محمد يحظيه أن الدولة الحديثة ومنذ أن وجدت ( عرفت تضخما هائلا رافقه ضمور بَيًنٌ للمجتمع وأن هذا التضخم حصل على حساب المجتمع)

والدولة في نظر الأستاذ محمديحظيه أداة والمجتمع غاية( ومن الضروري أن نتجنب، من أجل رؤية صحيحة على مدى بعيد، كل خلط بين الغاية والوسيلة).

ثم يقدم تمييزا دقيقا بين الدولة والسلطة بقوله: ( إنما يميز الدولة عن الأشكال الأخرى للسلطة يكمن بالدرجة الأساس في هذه الرؤية البعيدة المعروفة بالإستراتيجية،هذا الاستشراف الذي يقي من مكر المفاجآت).

وعن تقويمه لتجربة رؤساء الدولة يقول الأستاذ محمد يحظيه( كلما استولى رئيس على السلطة في هذا البلد أصيب بالصمم المفاجئ واقتنع بِعُلْوِيَته اتجاه جمهور المواطنين.

إنه ما تسميه الحكمة الصينية" سُكْرُ القمم" الذي كان يتحدث عنه دائما شوان لاي من أجل الاحتراس منه كأنه الطاعون).

ومن جهة تقييمه لعلاقة البعثيين بالسلطة يستحضر الأستاذ محمد يحظيه في معظم كتاباته جوانب من تجربة تلك العلاقة مبينا أن البعثيين إلى جانب رفاقهم في الحركة الوطنية الديمقراطية عارضوا بشدة حرب الصحراء كما عارضوا الوجود العسكري المغربي على أرض موريتانيا ولكنهم منذ أن بدأ تداول تلك المساومات التي تحدث عنها الرئيس السينغالي آنذاك حول إمكانية تقسيم موريتانيا اكتشفوا( هشاشة موريتانيا وأنها مقدسة فقط عند أهلها، وهذا ما يفسر رفضهم العنيد المتواصل لأي مغامرة مع أن الفرص المغرية لم تنقصهم.

صوبوا الأنظار على هذا الاكتشاف: هشاشة موريتانيا،هذه التي صارت لازمة أحاديثهم إلى درجة الاستغراق، ذلك ما يفسر صعوبة انفصالهم عن أي نظام قائم حتى ولو كان مؤذيا لهم).

وفي هذا السياق يستحضر أنه إلى جانب رفيقه ممد ولد أحمد ظلا متمسكين بعدم مقاطعة نظام الرئيس محمد خونه ولد هيداله رغم ما يتهدد الحركة من أخطار من طرف نظامه، وأنهما كانا ضمن قيادة الحزب المصوتِينٍ الوحيدين ضد قرار فك الارتباط بالنظام الذي كان قد بدأ رفقة الحركة الوطنية الديمقراطية وأثمر قرارات مهمة منها إلغاء الرق وتجربة الحركة التطوعية.

وفي توضيح لمنهج حركة البعث في السياسة الموريتانية يقول الأستاذ محمديحظيه( منهج هذه الجماعة هو دائما تفادي - وتعرفون أن هذا ليس سهلا في موريتانيا- الهيجان، تفادي أن يُسَيِّرَ حدثٌ واحد السياسة وبالعكس العمل على أن تُسَيِّر السياسةُ الأحداث)

ثم يضيف( كان المنهج دائما هو تحمل شريك يسدد لهم الضربات تحت الحزام ورَفْضِ التعامل مع أي محاب تكون صيغه وسياساته من شأنها أن تقود إلى تلاشي موريتانيا).

 

6-  نظرته إلى الجيش

 

يميز الأستاذ محمد يحظيه في نظرته إلى الجيش بين صورتين: صورة الجيش المحترف الذي تحتاجه البلاد للدفاع عن حوزتها وتأمين حدودها ومواطنيها، وصورة الجيش الذي يمتهن السياسة فتتراجع حصانة عقيدته العسكرية والوطنية.

عن الصورة الأولى يقول الأستاذ محمد يحظيه( المؤسسات العسكرية والأمنية ضرورية لكل الدول وبدونها فليودع بعضنا بعضا).

إن الخيار بسيط: إنه بين السَّيبة والفوضى وبين الجيش الرادع القوي بمعنى أن معنوياته مرتفعة وأن الشعب،بغض النظر عن النخبة، يدعمه ويحترمه ويقدر الدور الصعب والخَطِر أحيانا الذي يؤديه).

وفي هذا المعنى يحذر الأستاذ محمد يحظيه من الاندفاع في خلق العُقَدِ لدى الجيش من خلال الإيحاء له بأن لا فائدة من وجوده.

ثم يقدم الأستاذ محمد يحظيه خاصية أساسية للجيش الموريتاني الذي تكون إبان ظروف الحرب قائلا إنه( جيش شعبي ينحدر من طبقات السكان الفقيرة ولايمكن أن تكون لديه روح الخصوصية المغلقة).

مضيفا أنه من الموضوعية الاعتراف بأن التدخلات التي تمت من قِبَلِ الجيش لتغيير الأنظمة لم تصاحبها إراقة دماء بينما يظهر أن ( كل المرات التي ندبنا فيها قتلى وجرحى كانت بفعل الإدارة المشخصنة لشؤون البلد من قبل رؤساء مدنيين أو مُمَدَّنين).

أما عن صورة الجيش السياسي فينقل الأستاذ ممد ولد أحمد في لقاء تأبيني سابق أن الأستاذ محمد يحظيه كان خارج العاصمة إبان فترة الإعداد لانقلاب العاشر من يوليو وأنه تحفظ كثيرا على الانقلاب عند عودته ومن ضمن ماقال في تبرير رفضه إن العسكر إذا استلم السلطة فإنه لن يسلمها بعد ذلك.

وفي حفل تكريم للأستاذ محمدن ولد باباه بمناسبة دوره في الدفاع عن اللغة العربية قال الأستاذ محمد يحظيه إنه أقبل على تغيير العاشر من يوليو بقدر كبير من التهيب وإن كان اندفع في عملية التغيير عندما أصبحت قرارا سياسيا لحركته.

وفي موضوع آخر يستغرب الأستاذ محمد يحظيه ذلك التداخل الذي يحصل في بعض الأذهان بين مفهوم الانقلابية في فكر البعث وبين الانقلاب بدلالته العسكرية مبينا أن الانقلابية في فكر البعث تعني إعادة بناء الإنسان الجديد كشرط لتحقيق الثورة عند الأستاذ ميشيل عفلق الذي كان الوحيد الذي حقق هذا الشرط في حياته إلى جانب رفيقه صلاح الدين البيطار.

ولتوضيح هذا الفهم المشوش يسرد الأستاذ محمد يحظيه قصة توحي بأن الرئيس معاوية كان يعاني من هذا الفهم السيء للانقلابية.

يبقى أخيرا في موضوع الدولة والسياسة والبعث أن الأستاذ محمد يحظيه قد بين أن الديمقراطية التعددية لم تكن يوما مطلبا سياسيا للحركات الوطنية،وذلك ما أتاح لحركة العاشر من يوليو سهولة خُلْفِ وعدها بتطبيق الديمقراطية التعددية الذي جاء في بياناتها الأولى.

 

7- نظرته إلى اليسار الوطني والعالمي

 

يذكر الأستاذ محمد يحظيه ضمن استطراداته الكثيرة في معظم مقالاته وخصوصا في التأبين المتميز للمصطفى بدر الدين أن التقارب والتنسيق في أمور كثيرة قد جمع بين البعثيين والحركة الوطنية الديمقراطية كما يعبر عن إعجابه بكثير من مواقف الحركة خصوصا محاربتها العنيدة للرق رغم ما يترتب على ذلك من أذى وأوصاف بالكفر والزندقة في مجتمع جامد منذ قرون ولكنه مع ذلك يلاحظ أنه مما يمكن أخذه على هذه الحركة أنها تخطو في السياسة غير مثقلة بكثير من قيود الأخلاقيات السياسية.

أما عن اليسار العربي فيستغرب الأستاذ محمد يحظيه عجز الشيوعيين العرب عن اكتشاف الرابط الجوهري بين الحرية والوحدة بالنسبة للعرب مما أدى بهم إلى التناقض مع أحاسيس الجماهير فانتهوا إلى تبني خطأ فظيع عندما اعتبروا أن الأقليات القومية هي وحدها الثورية وصاحبة المصلحة في الثورة فتحولوا إلى حراس للتجزئة التي هي البئة الحاضنة لاستمرار الاستعمار.

ولا يفوت الأستاذ محمد يحظيه هنا أن يبرز الفرق في هذا الموقف بين الشيوعيين العرب وبين الماركسيين العرب من أمثال جورج طرابشي وإلياس مرقص، فهذان من بين الماركسيين العرب الذين تفطنوا للعلاقة الجدلية بين الوحدة والحرية.

أما عن اليسار العالمي فتبدو تجربة الصين بالنسبة له تجربة مذهلة في تصوراتها وممارساتها وأهم ما فيها أنها نجحت في الحيلولة دون أن تشكل لها النظرية الماركسية نظارات تشوه الواقع الصيني وتحول دون إدراك خصوصيته كما حصل مع الشيوعيين العرب.

فقد قدمت تجربة الصين نموذجا فريدا في بناء تجربة قومية وإنسانية استنادا إلى النظرية الماركسية.

إن جملة الملاحظات المتقدمة ستكون موفقة إذا كانت استطاعت أن تقدم على هامش نص عميق ما يمكن أن يكون موضوعا للنقاش والتساؤل،وهي فخورة إذا كانت استطاعت أن تقدم الأستاذ محمد يحظيه ولو بصورة مجتزأة جدا باعتباره رجلا من جبلة المفكرين الكبار وقع للأسف وسط مجتمع كان قد قرر أن الاستغناء عن العظماء.

 

سبت, 13/01/2024 - 16:06