أبناء البطة السوداء

بعيدا عن الدوافع الشخصية للأديب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن وما علِق بروايته البطة السوداء من معاني ومفاهيم آيدلوجية وعرقية منذ نشر تلك "الثيمة": 11/11/ 1844، فإنيومنذ ظهور الوباء في بلادنا آثرت الكتابة عنه محاولا قدر استطاعتي التركيز على النصح والتنبيه على مواطن الخلل والنقص لعلاجها، مع تأكدي وقناعتي الراسخة أني لست من أفضل من يكتب عموما وبشكل أخص عن المجال الصحي، إلا أن ذلك جهدي ولا أدخره..، غير أن ما تقوم به شركات التعدين ومسيروها في بلادنا من تضييق على عمالها عموما وبشكل أشد تجاه العمال غير الدائمين، وتجاهل الكثيرين للمعاناه الطويلة والمستمرة التي يعيشونها حيث يتم تشغيلهم في أشد البيئات خطورة وأكثر الأعمال وقتا، مع أقل الأجور وفي أغلب الأحيان غياب الضمان الاجتماعي والصحي أو ضعفه إن وجد، أما الحوافز والعلاوات فهي مسألة أخرى لا ينبغي بحال من الأحوال على "أبناء البطة السوداء" التفكير فيها، كل هذا في ظل واقع يشتد ويتعقد هذه الأيام نتيجة الجائحة التي ألقت بظلالها على الجميع وضاقت حلقاتها عليهم، مما ذكرني بالصفة التي باتت تنطبق عليهم، وأجبرني خذلان الكثيرين لهم على التحدث عنهم والتذكير بحالهم فليس بيدي غير ذلك..

لوقت كتابة هذه الأسطر وحسب ما هو منشور على صفحات شركات التعدين الثلاث – مجموعة الشركة الوطنية للصناعة والمناجم SNIM، كينروس تازيازت موريتانيا، MCM، فإنها مجتمعة تشغل أكثر من 15200 عامل مقسمين على النحو التالي: SNIM: 10000، تازيازت: 3800، MCM: 1400، ومع يقيني بأن العدد الدقيق للعمال غير الدائمين يصعب التحقق منه لأن بعضهم يعمل لأيام وكثير منهم لأشهر وربما لسنة أو أزيد من ذلك، وللأسف أكبر هذه الشركات كان آخر تحديث لصفحتها منذ أربعة أشهر..، ومع أن عمال هذه الشركات الدائمين في أغلب الأحيان لا يصلون لنصف العمال الميدانيين الذين يخدمون في الشركة الواحدة، بل قد يقلوا عن الثلث في بعض الأحيان، وخاصة في الأماكن الأشد خطورة، فإني أريد لفت الانتباه لمسألتين فقط، وهما: الأجر و التحفيز أو المكافأة، ليظهر وبجلاء أننا نتحدث عن نوعين مختلفين تماما من أبناء الشركات، هذا بالرغم من تردي وضعهم جميعا..، أو على الأقل جلهم. 

الأجر

منذ حوالي شهر تقبع الغالبية العظمى من العمال التابعين لمقاولي كينروس تازيازت موريتانيا في بيوتهم بدون أجر، حيث توقف المقاولون الذين يشغلوهم لمصلحة الشركة عن دفع أجورهم لأن الشركة منذ شهر تقريبا أبقت على عمالها الدائمين البالغ عددهم حوالي 1200 عامل فقط – يعملون وفق آلية التناوب المعول بها في الشركة-، مع بعض عمال الصيانة والإعاشة وأفراد آخرين قلة من العمال التابعين لمقاولي كينروس، أما الغالبية فعلق المقاولون عملهم لأجل غير مسمى و بدون تعويض، هذا بالرغم من أن كثيرا منهم يعمل لصالح كينروس منذ أكثر من عام بشكل متواصل، ويتقاضى أجره بشكل منتظم، ويدخل في منظومة التناوب الشهري في الشركة، ويستفيد من العطل السنوية، لكنهم أبناء البطة السوداء غذاؤهم مقابل عملهم، حتى وإن حققوا روح ولفظ المادة 192 من مدونة الشغل..

التحفيز والمكافأة

كان ارتفاع أسعار خامات الحديد في الآونة الأخيرة، ومن ثم إعلان الشركة الوطنية للصناعة والمناجم عن أرباحها مدعاة لفرح الكثير من المواطنين حتى وإن لم تكن لهم ارتباطات مباشرة بالشركة الأهم في بلادنا، فالجميع ينتظر أرباحها لدعم التنمية في مختلف المناطق والتخفيف من البطالة ...، غير أن عمال اليومية في الشركة والذين هم شركاء في كل ما وصلت إليه، وكانوا أحوج من يُتذكر في هذا الظرف قد علموا بمكافآت مجلس الإدارة للعمال الدائمين لديها فينفس الوقت الذي علم به المستفيدون، بقدر من الفرح لزملائهم وكثير من الأسى على حالهم، فعليهم أن يضاعفوا جهدهم ويصفوا أذهانهم حتى يُحافظ لهم على وضعهم، وليس من حقهم أنيطالبوا بضمان صحي أو اجتماعي ممن يعملون في مناجمه ويرفعون من إنتاجه، أما المطالبة بعلاوة أو مكافأة أو التهديد بالإضراب فذلك مدعاة لإخراجهم من ركيزة اقتصادنا الوطني فهمشركاء في الإنتاج فقط، و ليسوا كأبناء الشركة الآخرين، فحق لمسيري أسنيم بعدما تحقق من أرباح بسبب ارتفاع الأسعار وزيادة الإنتاج، أن يعتبروا العمال غير الدائمين على الأقل من أولي القربى واليتامى والمساكين..

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (8) النساء 

أما شركة MCM فقد دأبت على الفصل التعسفي لعمالها الدائمين والذي كان آخره بداية العام الجاري حيث قامت بفصل 140 عاملا دفعة واحدة، ودون أن يرف لها جفن، وكما يقال إذا ضرب الإمام خاف المؤذن وعليه فلم تُوزِّع تحفيزات ولا مكافآت، بالرغم من زيادة العمالة غير الدائمة بعيد فصل العمال..

بالرغم من أن الضمان الاجتماعي والصحي يغيب عن هذه الفئة أو يكاد، وتشغيلهم تتنازعه حاجتهم الملحة لأي دخل يمكن أن يتحصلوا عليه، وحاجة شركات التعدين لعمال في أوقات محدودة، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في المسألتين ووضع مقاربة قانونية عادلة تحقق للشركات رغبتها في توظيف عمال للفترات التي تحتاجهم فيها، مع توفير كافة الضمانات الاجتماعية والصحية لهم طيلة تلك الفترة، دون الحاجة للالتفاف على الحقوق، والاستثمار في الثغرات التشريعية، وقتل روح القانون، إضافة لأن هذه الشركات تستخدم مواد شديدة الخطورة وتحتاج لجهات خبرة مستقلة، تُقيِّم مدى السلامة التي توفرها وسائل الحماية التي تقدمهالعمالها، ومدى توفرها للجميع.

ليس هذا تحقيقا أمنيا، ولا استقصاء صحفيا، وإنما هو إلقاء ضوء خافت، على بقعة حالكة،نرجوا من العلي القدير ألا تكون في أجواء معتمة، أردت من هذه الأسطر أن أدعوا من يكثرونالدفاع والجدال عن مشغلي هذه الفئة الضعيفة أن تأخذهم بها الرحمة ويخشوا جدال الله عنهايوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها..

هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا                                                                 (109) النساء

وليتق الله مشغلوهم ولا يبخسوهم حقهم ...

وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ              (85) هود

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قَالَ : قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ.

أبعد الله عنا الظلم وأهله، وردنا إليه ردا جميلا بلطفه ومنه

د.سالم فال ابحيدة

 

سبت, 06/06/2020 - 22:18