الحلّ يوجد في الداخلْ

يحكي فيلم (The Shawshank Redemption) كيف استطاع محاسب شاب سُجن ظلما، أن يتولى "تطهير" أموال مدير السجن وإيداعها يوميا في خزانته عبر شيكات نظيفة. كان السجّان أهدى السجين أول يوم طبعة فخمة من كتاب اختاره وشجعه على أن يتذكر منهحكْمة تقول "الحلُّ يوجد في الدّاخل".

تلاعب الشاب بأموال السجّان وحوّلها ببراعة إلى حساب شخص وهمي عبر البريد، ودبر خطة للخروج من السجن عبر قنوات الصرف الصحي قاطعا مسافة ثلاثة ملاعب ليخرج نظيفا على الطرف الآخر، وليترك صاحبه يتخبط في أحزانه بعد أن لم يجد في خزانته غير قصاصة ورقية تقول: الحق معك ( الحلّ يوجد في الدّاخل).

في بلادنا لم يعد أحد، من الشباب، يصدّق تلك الحكمة الأزلية، بل باتوا مقتنعين بأن الحل هو الهروب نحو الخارج، لقد بات الكل يبحث عن سبيل إلى الفرار من سجن كبير اسمه الوطن، أو في الحقيقة من أنفسهم، التي يغمرها الفراغ المتوحش، الذي يشعرون بهويصارعونه منذ عقود.

من حقهم المغامرة فهي هدف مشروع وتجربة رائعة، وحلم شبابي نقي، ولو كان قاسيا ومريرا، المغامرة تستحق وهي جزء من تراثنا العريق، هي دليل على الشجاعة لكنها ستكون شجاعة يتيمة بلا شهود.

حال بائس لم يسلم منه إلا القلة التي تقبض على جمر الغضا، تأكلها المرارات ويمنعها التردد أو الشعور بالإثم، لتفيئ إلى ظل قالص وشيئ من سدر قليل، لترتاح من عذابات الضمير ومن ضوضاء تعيّرها بالعجز والكسل. 

 

الهروب الكبير

 

عبر تاريخنا الوسيط، كانت الهجرة إلى سهول المغرب في عهد المرابطين،هي الحل الممكن، لكنها أفرغت صحراءنا من خيرة المُنْتجين، وعززت شعورا بالخواء، لم تملؤه إلا تلك الهجرات الاضطرارية لقبائل معقل ومن نحا نحوها من سكان الحواضر التي لاذت بالفرار هربا من بطش الحكّام الجدد وسياساتهم الدموية تحت شعار"التمييز" الموحدي.

اليوم؛ نواجه تحديا من نوع آخر، أشدّ و أدهى، هو هجرة أبنائنا إلى المنافي الأمريكية، وهم في ريعان الشباب، يعزز ذلك شعور طاغ بفقدان الأمل!

قد يرى البعض، في تلك الهجرة حلا لبعض المشاكل، أو تأجيلا للبعض الآخر منها، أو حتى حلا أمنيا لمشكل بنيوي ظل يؤرق السلطة على الدوام، أو ربما مؤامرة لإفراغ البلاد من سكانها الفاعلين، لكن الهجرة عن الأوطان تبقى حلا انتحاريا وليس نبيلا.

لكن ما هو البديل، هناك خيارات متعددة، بل كثيرة، لكنها لا تعني أحدا لأن فقدان الأمل، يعمي البصيرة ويجعلها تقتنع بالسراب وتظنه نهرا متدفقا، تماما كالهجرة إلى مناجم الذهب وهو في أرضنا، لكن له أيضا بريقا يخطف الأبصار ثم يتلاشى وقد يصيب صاحبه بالعَتَهْ، بعد أن أنفق ما يملك من أجل الحصول على ما لا يملك. غير أنه يبقى على الأقل حلا من الداخل وأكثر نبالة وسترا، لأن صاحبه سيطمئن في مثواه الآخر، أما الهجرة إلى المنافي فطريق شاق ومخيف، يبدأ بالمغامرة ولا ينتهي بين فكي تمساح أو في جوف نهر موبوء في قلب غابات الأمازون.

لا يمكنك اليوم أن تقنع أي شاب بأن الحلم الأمريكي سراب بقيعة، لأنك ـ ببساطة ـ  لم تستطع ذات يوم منعه من "إلقاء نقوده في التراب والبحث عنها بآلة زمنية".

 

لنصنع الأمل

 

هل يمكننا صنع الأمل، حتى ولو كان زائفا، أو حتى خائبا كذلك الأمل الذي تحدث عنه دبلوماسي سابق عاش لحظة ليبرالية خاطفة أعقبها حزن كبير.

لقد تلاشى الأمل، ليس لأنه غير ممكن التحقق، بل لأن الجميع لم يعد مقتنعا بشيئ يسمى النهايات السعيدة والأحلام الكبيرة، لقد بات لكل فرد من شعبنا أمله الخاص، تارة يكون انتحارا زائفا، لينال الشهرة، وتارة يكون انتحارا حقيقيا ولكنه بلا ثمن، وأطوارا تكون الآمال هي ما تأتي به الأقدار. نحن شعب لا يرى ضوءا في نهاية النفق لأن لكل منا طريقه الخاص يتحسس الجدار بخبث ونفاق ولا أحد منا يكلم الآخر، أو يستند إلى منكبه ليستريح أو لينجو من هوة عميقة لا يراها في الظلام الحالك.

لقد بات لكل فرد هنا منطق واحد هو الخلاص الفردي، أما كيف ومتى، فلا أحد يعرف.، لأن المغامرة هي الحَكَمْ.

لم تعرف بلادنا حالة من الوفرة في المال، حتى لو كان بين أيدي القلة، قبل أيامنا هذه، ولم تمتلء خزائننا قبل الفترة الحالية، لكنه الحظ العاثر هو ذلك الذي يجعلنا لا نشبع ولا نرتوي، لأن جوعنا يستمد اليوم من بئر عميقة، لا قعر لها، تنبع من نهر سرمدي متوحشهو غول المادة الذي يعرفنا جيدا ويدرك مخاوفنا وأحلامنا.

هل عاش أسلافنا في هذه الأرض وبنو قصور الرمال وأساطيرهم النصف حقيقية، بالذهب والحرير، كلا؛ لقد كانوا سادة القوافل التي يقودها الرجال الصبورون عبر دروب مهولة ومسالك مخيفة، ليسلّموا الأمانات من غير نقص، مكتفين ببضاعة لا تنفد هي القناعة، و معوّلين على سلاح أشد مضاء من كل السيوف الهندية هو الثقة بالنفس ومقتنعين بأنهم أهل هذه الأرض الكريمة وأنهم ملحها منذ ألف سنة.

لنراهن على من يتشبثون بهذه الأرض الجرداء، ويحلمون بغد أفضل، ويصبرون على كل المكاره، ويفتحون قلوبهم للجميع من أجل وطن آمن، ولنترك للمغامرين حقهم في خوض تجارب الموت والمصارعة مع الغيلان والأغْرابْ.

وفي النهاية؛ كلُّ شعْب يصْنعُ قدَرَهُ وكلّ أمّة تلِدُ من يُنْقذَها!

الحلّ يوجد في الداخل،

اثنين, 12/06/2023 - 23:19