موريتانيا والحِيادُ المُستحيل

يعود مصطلح الحياد(بمفهومه الواسع)، في التاريخ الرّاهن إلى حركة عدم الانحياز التي تأسست عام 1955م في مؤتمر (باندونغ) الشهير، الذي جاء نتيجة مباشرة  للتحالفات التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم لمعسكرين، وقد انضمت موريتانيا لهذه الحركة مبكراً، وذلك بعد استقلالها بأربع سنوات، وتحديداُ في العام 1964، لكنّ المهتمين بالتاريخ الموريتاني يرون أن الانضمام لتلك الحركة في ذلك الوقت بالذات، كان مجرد ردة فعل غير واضحة المعالم  لدولة تحاول  إثبات ذاتها على المسرح الدولي بعد أن خرجت بصعوبة بالغة من رحم أطماع تاريخية بالغة التعقيد.

كان الحُلم الموريتاني بتأسيس دولة جامعة "للبيظان" يتنافى بطبعه مع الحياد، ببعديه الإقليمي والدولي، لكنه كان ضرورة إستراتيجية أملتها مصالح الفرنسيين الذين تحكموا في الحياد الموريتاني على طريقتهم الخاصة، وهو ما اتضح لاحقا في حرب الصحراء التي انسحبت منها موريتانيا في العام 1979 م، دون تحقيق أي نتيجة، إذا ما استثنينا التوتر الحاد بينها وبين الجزائر، رغم الدور الكبير الأخيرة في دعم العملة الوطنية سنة 1973 والتي تُعد واحدةً من رموز السيادة في البلد.

والحق أن الدبلوماسية الموريتانية ظلت ، ولا تزال، متمسكةً بمصطلح الحياد، للنّأي بنفسها عن الصراعات بين الأطراف في المنطقة، وقد يجد ذلك تفسيره في التباين الواضح في ميزان القوة وفي غياب آليات بديلة جعلت من دبلوماسيتنا لا تملك من الأدوات ما يؤهلها للتأثير على مجريات الأحداث، التي وقعت بعد سنة 1975 م، فضلا عن التطورات المتلاحقة في السنوات الأخيرة، مثل أزمة معبر الكركرات في العام 2020 ، وصولا إلى قطع العلاقات بين المغرب والجزائر، الذي بات يهدد استقرار المغرب العربي برمته، في ظل عجز موريتانيا الواضح عن تقديم حلول تُمكن الطرفين من الجلوس على طاولة الحوار، يُضاف إلى ذلك ما عُرف إعلامياً "بزَوْبَعةِالريسوني"، التي كادت أن تخلق أزمة دبلوماسية بين موريتانيا والمغرب.

ما ينبغي التأكيد عليه هنا أنني أحاول تتبع الأحداث التي أثرت بشكل مباشر في الحياد الموريتاني في نزاع إقليمي، بعيداً عن التّخندق في صراع له أطرافه التي تمتلك من المبررات والمصالح ما يمنحها الأحقية في اتخاذ قرارات سيادية تمكنها من حماية أمنها القومي بالمفهوم الإستراتيجي للكلمة.

صراع دولي يُعقِّدُ المُهمة

 

فرضت الحرب الأوكرانية متغيرات جديدة في سياسات لكرملين، دفعتالرئيس الروسي لمضايقة فرنسا في مناطق نفوذها التقليدية معتمدا علىالأساليب ذاتها التي اعتمدها الإليزيه في التعامل مع الرؤساء الأفارقة، ولاشك أن تغيير الحكم في مالي وبوركينافاسو، جعل من موريتانيا وجهة مهمة لأطماع دولية مستعدة لاستخدام القوة لحماية مصالحها خارج حدودها التربية.

مؤشرات الاهتمام المتزايد بالمجال الموريتاني بدأت مع بداية العلمية العسكرية في أوكرانيا، حين قامت طائرات عسكرية أمريكية من نوع B52بعملية استطلاع شملت كافة الأراضي الموريتانية، وكان الهدف المعلن منها هو حماية الثروة السمكية الموريتانية من سفن الصيد العملاقة، وقبل عدة أشهر من الآن قدّمت الاستخبارات الروسية تقريرا لمجلس الأمن القومي تضمن مخاوف جدية من أن تكون موريتانيا جبهة أمامية لحلف شمال الأطلسي لضرب مصالح القيصر في إفريقيا، وفي هذا الصدد تأتي زيارة (سيرجي لا فروف) الأخيرة لموريتانيا، التي تبعها تزاحم غير مألوف لسفراء دول غربية على مكتب ولد مروزك في مشهد يعكس حجم الضغط على موريتانيا.

 

القتل بدم بارد

 

يشكل  قتل الموريتانيين على حدودهم الشمالية بشكل مستمر قلقاً يهدد حياد موريتانيا في نزاع أصبح مواطنوها هم غالبية ضحاياه ، فلا يكاد يمر يوم دون أن تقرأ خبرا عن قصف سيارة موريتانية وقتل من كان فيها، بواسطة الطائرات المسيرة تارة أو عن طريق القصف بالمدفعية، لدرجة أن المواطن العادي أصبح يُعيد بإلحاح طرح السؤال المحرج لدبلوماسية الحياد، وهو،هل يعني الحياد في نظرهم الصمت على قتل أبنائنا دون مراعاة لحق الدين والجار؟ .

واضح أن سياسة النعامة ليست هي أفضل الحلول للتعامل مع وضع يزداد تعقيدا مع الوقت، باعتبار كوننا الحلقة الأضعف، في نظر البعض، التي يريد الجميع العبور من خلالها وبأقل الأثمان، مستغلا سياسة الحياد عند واجهتنا الخارجية التي باتت مجبرة على تغيير أساليبها من خلال اتخاذ إجراءات تكتيكية، كالتلويح بإلحاق الضرر بالمصالح الاقتصادية لكل من يهدد أمننا، وذلك لفرض نوع من التوازن، على اعتبار أن الحياد في ظل ظروف كهذه صار أقرب إلى المستحيل، بحكم سياسة الأمر الواقع التي تعني في نظر قوى إقليمية ودولية قتل أبنائنا واستخدام أراضينا الأغراض جيو سياسية واقتصادية وربما لحروب بالوكالة...

 

د. أمم ولد عبد الله

أحد, 12/02/2023 - 23:26