الصناعة الاستخراجية في موريتانيا بين الشفافية الشكلية والفساد

البيريت هو معدن ينتمي إلى مجموعة الكبريتيدات لطالما شكل بلونه الأصفر وبريقه المعدني آمالا كاذبة للمنقبين عن الذهب؛ فكما يقال ليس كل ما يلمع ذهبا، وكذلك ليس كل حبر على ورق عن الشفافية يعني تحقيقها، وتقرير مبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية في موريتانيا لسنتي 2020 -2021  الصادر قبل أيام خير مثال على حالة الذهب الكاذب، حيث رسم لوحة ضبابية ما بين الشفافية الشكلية والفساد عن القطاع، الذي تعتبر البلاد هبتا له وضحيته في نفس الوقت، وهو ما تعكسه مقارنة بسيطة بين مؤشرات مساهمته في الاقتصاد الوطني لسنتي 2018 و 2021، حيث ارتفعت مساهمته في تكوين الناتج المحلي الإجمالي من 9.56%  إلى 21.8 %، وكذلك المساهمة في إيرادات الموازنة التي قفزت من 10.39% إلى 28.7%، هذا بالإضافة إلى انخفاض مساهمته في التوظيف من 1.27% إلى 0.92 % من العمالة الوطنية. كلها مؤشرات تكشف عن مكامن الخلل في القطاع،  وتوضح بجلاء متلازمة الهبة والضحية التي تضع البلد واقتصاده وحياة الشعب تحت رحمة تقلبات أسعار المادة الخام، التي قفزت أسعارها من 71 دولارا للطن إلى حوالي 160 دولارا بالنسبة لخام الحديد، ومن 1250 إلى  حوالي 1800 دولارا  للأونصة بالنسبة للذهب، ولعل الخلل الأكبر يكمن في عدم تجانس الأرقام لنفس السنة، فكيف لقطاع يشكل أكثر من 70% من إجمالي قيمة الصادرات يساهم بأقل من 1% من إجمالي فرص العمل، مفارقة تؤكد أن القطاع حتى الآن لم يلعب أي دور مهم في الحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك،  والقضاء على الفوارق الاجتماعية.

صحيح أن التقرير كشف عن تقدم فني كبير في إصدار تقارير المبادرة نتيجة لمدى تطابقه مع شروط المبادرة للشفافية خاصة معيارسنة 2019، وكذلك نتيجة لشمولية المعطيات التي قدم، حيث تطرق لكم كبيرمن المعطيات والبيانات حول قطاع الصناعة الاستخراجية بشكل عام والتعدين على وجه الخصوص، ولعل إحدى أهم النقاط الإيجابية في التقريرالمذكور تناوله لأول مرة لحوكمة شركة اسنيم وتقييمه للمخاطر المحدقة بها خاصة الدراسة الجيدة الخاصة بالعوامل المؤثرة على ربحية اسنيم، وكذلك تحليل نقاط القوة والضعف في الإطار التشريعي والتنظيمي لقطاع المعادن، هذا بالإضافة إلى التوصيات الجيدة الواردة في نهاية التقرير، وخاصة تلك المتعلقة بإزالة الزئبق من التعدين التقليدي للذهب مع التوصية بتجريب طرق أخرى للاستخلاصه أكثر حفاظا على البيئة والصحة مثل الفصل بالجاذبية، وهو ما طالبنا به أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة.

وكما أن البيريت له مظهرا مماثلا للذهب إلا أنه ذهبا كاذبا، وبضعة اختبارات بسيطة  كفيلة بكشف زيفه وتبيان الفرق بينه والذهب الحقيقي، وكذلك يمكن للشفافية الشكلية أن تبدو للوهلة الأولى على شكل إفصاحات وتقاريرسليمة فنيا، لكن كما يقال الشيطان يكمن في التفاصيل، وتفاصيل هذا التقرير تبين بما لا يدع مجالا للشك بأن موريتانيا لايزال أمامها الكثير من ﺃﺟﻞ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎﺕ  مقبولة ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﻴﺔ، فجميع النظم، والقونين، واللوائح والممارسات، والبيانات والإفصاحات  كلها لا تسمح بتقديم إجابات على الأسئلة الجوهرية الستة حول الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية .

 

(1) 

 

وعلى رأس الأسئلة الكشف عن الملاك الحقيقيين للشركات العاملة في القطاع  أوالمستفيدين الفعليين من ثرواتنا، والتقرير يتحدث عن ثغرة قانونية تجعل من الإجابة على هذا السؤال شبه مستحيلة، حيث ذكرأن موريتانيا متخلفة عن الركب نتيجة لغياب إطار قانوني محدد للكشف عن بيانات الملكية الحقيقية،  والأخطر من ذلك أن هذه الثغرة تمنع تطبيق قانون مكافحة تضارب المصالح، مما يزيد من خطر هيمنة النخبة التي باتت تعيش نتيجة لنفوذها ولوحدها نعمة الثروة، بينما يعيش بقية الشعب 99% من الساكنة نقمتها، وياليت تأثير احتكار النخبة الحاكمة لريع الثروة الاستخراجية يتوقف على ذلك،  بل يمتد ليشكل أكبرعائق أمام التطور المجتمعي، والتحول الديمقراطي، وتحقيق التنمية الشاملة، فهؤلاء يرون في التغيير المنشود على كافة الأصعدة عدوهم الأكبر.
 

(2)

 

السؤال الثاني يتعلق بالإفصاح عن العقود والاتفاقيات بين الحكومة، والشركات الاستخراجية، وقد نجح التقرير في تقديم الأدلة على  نشر الجهات المعنية للعقود دون ملحقاتها، مع عدم التطرق لكيفية وآلية منح العقود، التي من الواضح أنها  في مجال التعدين تمت وفق قاعدة من يأتي أولا يخدم أولا بعيدا عن المنافسة والشفافية، وهذا ما يعكسه حجم الفوضى وعدم الاستقرار والتعقيد في النظام الضريبي المطبق، حيث لكل شركة من الشركات الثلاثة العاملة في القطاع (اسنيم تازيازت أم سي أم) نظامها الخاص، والاعفاءات الضريبية الخاصة بها، وهو ما انعكس سلبا على إيرادات البلد من موارده المعدنية، والحقيقة أن الفساد الكبير والخطير في هذا القطاع يتم في مرحلة  منح التراخيص والتعاقد لما لها من تأثيرمباشر على العائدات، والمسؤولية البيئية والاجتماعية، والمحتوى المحلي، فالعقد كما يقال هو شريعة المتعاقدين.

    
(3

 

أما السؤال الثالث فيتعلق بالإيرادات التي لم تظهر في التقرير مفصلة حسب كل مشروع بالنسبة لقطاع المعادن، كما أن بعض الأرقام تختلف باختلاف مصادرها، ولنا في الفروق الكبيرة بين الأرقام التي أعلنتها شركة اسنيم، وأرقام المديرية العامة للضرائب خير مثال. بل إن التقرير أشار إلى جزئية هامة يمكنها أن تنسف كل ما يتعلق بالشفافية، ألا وهي الافتقار إلى الدقة في اختيار المدققين والغياب الفعلي لمعايير الشفافية لعضوية النظام الوطني للمحاسبين القانونيين، مما يطرح علامة استفهام أمام عمليات التدقيق والرقابة في القطاع، هذا بالإضافة إلى الفروق بين بيانات التصدير من الجمارك والشركات الاستخراجية، والتي تكررت في أكثر من تقرير دون اتخاذ إجراءات لتصحيحها. 
 

(4)

 

السؤال الرابع والمهم يتعلق بكيفة إدارة العائدات وإنفاقها، حيث أن الشفافية لا تنتهي بمعرفة ونشر مصادر الإيرادات وحجمها بل الأهم من ذلك كيفية إدارتها، وفيما أنفقت، وللأسف التقرير لم يقدم تحليلا دقيقا للميزانية لتبيان توزيع عادل للإيرادات، وخفايا حركتها وخاصة التبيان بالأرقام كيف صرفت العائدات فيما يخدم القضاء على الفقر والتهميش والغبن، أي بكل بساطة تبيان كيف تحول طن خام الحديد أو طن الذهب إلى مدرسة أو شارع أو مستشفى أو حقوق للطبقات المهمشة والمغبونة، هذا بالإضافة إلى الفشل في تبيان الآليات والسياسات التي اتبعتها الحكومة من أجل الحد من تقلبات الأسعار على الإيرادات والإنفاق الحكومي،  وكذلك الفشل في تبيان مخصصات الأجيال القادمة، وقد تجاهل التقريرأيضا  تقييم المستوى المعيشي للسكان المحليين حيث توجد الثروة،  فلا يمكن استمرار قبول مستويات عالية من الفقر والبطالة وتردي الخدمات جنبا إلى جنب مع أكبر مناجم الذهب والحديد في العالم.

 

(5)

 

السؤال الخامس يتعلق بالإنفاق العام ما دون المستوى الوطني، وفي هذا المجال أيضا بلادنا متخلفة عن الركب نتيجة لغياب إطار قانوني لتوزيع الإيرادات على المستوى ما دون الوطني، وهو ما يطرح علامة استفهام كبيرة حول إعادة توزيع الدخل والثروة، وكذلك علامة استفهام أكبر حول الجدوى من اللامركزية الإدارية في ظل مركزة الإنفاق العام الوطني، حيث كل الإيرادات تقريبا تتدفق إلى الحساب الموحد لدى الخزينة العامة، والقليل منها إلى الصندوق الوطني لعائدات المحروقات، وأكثر من 95% منها تم صرفها لصالح الميزانية العامة للدولة،  كما أن التقرير بين أن حجم الإنفاق الاجتماعي والبيئي دون المستوى، حيث بلغ الأول حوالي 5.5% من إجمالي إيرادات الدولة لسنة 2021 المتأتيىة من أنشطة الصناعة الاستخراجية وتمثل مساهمة شركة اسنيم لوحدها حوالي 95% منه.

 

(6)

 

بخصوص السؤال الأخير يتعلق بالإفصاح البيئي، حيث أظهر التقرير الحاجة الماسة والملحة إلى تعميقه خاصة بعد الحديث عن أكثر من 240 طن من الزئبق تبخرت في بئتنا نتيجة لاستخلاص الذهب بالطرق التقليدية، ومن المؤسف أن التقرير لم يقدم أي قياسات لرصد مستوى التلوث البيئي وتبيان حجمه وتأثيره الحالي والمستقبلي المحتمل على البيئة، وعلى التجمعات السكانية قرب أماكن التعدين.

قد يكون الإفصاح الشامل الذي نجح التقرير إلى حد كبير جدا في تحقيقه هو الخطوة الأولى على طريق الشفافية في مجال الصناعة الاستخراجة، وتستحق التثمين، وقد تكون الشفافية ضرورية ولكنها وحدها لاتكفي، لابد من استكمالها بالمساءلة، ولابد من اتباع المساءلة بالمحاسبة عن طريق تطبيق القانون وإنزال العقوبات، والأهم من ذلك كله استخلاص الدروس والعبر، ومراكمة الخبرات للتعلم من التاريخ، وتجنب أخطاء الماضي من أجل تفادي استنزاف ثرواتنا أوتبديدها، مما قد يؤدي إلى تقويض الاستقرار الاقتصادي وإذكاء الصراعات الاجتماعية، فكما يقال لا توجد دولة غنية بالمطلق، ولا أخرى فقيرة بالمطلق بل توجد إدارة جيدة وأخرى سيئة تحول الثروات من النعمة إلى نقمة، ولطالما كان سوء الإدارة والفساد سببين كافيين للفشل التنموي الذي يقود إلى المزيد من الفقر والجهل والارهاب، مما يضاعف من المخاطر على  بلادنا الكائنة في منطقة  ملتهبة أصلا، وفي فترة تعتبر الأكثر حساسية في الصراع بين الشرق والغرب، الذي قد تلعب الدول الغنية بالموارد المعدنية والطاقوية فيه دوراحاسما.

أربعاء, 25/01/2023 - 23:24