"مسكونة مثل صاحبها"

"... رن هاتفه فجأة بعد ما كاد يتوقف عن الرنين تماما خلال سنوات سبع عجاف، مرت عليه منذ تسلم رسالة الإحالة إلى المعاش، التي صارع طويلا قبل التسليم بدقة التاريخ الذي اعتمد بخصوصها. 
كانت أغلب المكالمات التي ترد على هاتفه خلال هذه السنوات مجرد اتصالات عائلية، لا تخرج عن "معايدات" من الأحفاد خاصة الذين يعيشون في الخارج، أو استشارات شكلية متباعدة، كانت ترد عليه من جماعة القبيلة التي صارت تنعقد دون علمه في الغالب، وتبت في كل أمورها دون انتظار رأيه، كما كانت تفعل من قبل حين كان يتجول بين المناصب السامية!!
كانت المفاجأة أن المتصل هو قيادي كبير في الحزب الحاكم، يخبره باختياره ضمن الشخصيات المقترحة من قبل الأغلبية لعضوية لجنة الانتخابات، التي يجري الإعداد لتشكيلها منذ عدة أسابيع،
كانت معرفته غير عميقة بالمتصل، رغم أنه بات منذ سنوات معروفا على نطاق واسع بين قيادات الأغلبية، إلا أنه تذكر أنه التقاه آخر مرة في مجلس عزاء، بعد وفاة صديق عزيز من جيله.
امتص وقع المفاجأة السعيدة، وتنفس بعمق، وهو يضع الهاتف أمامه في نهاية المكالمة، ثم مد يده بهدوء وفتح الأزرار العليا من قميصه المزرر بإحكام، وقال في هدوء وثقة في النفس، غمرته فجأة موجها الكلام لزوجته الجالسة على بعد أمتار منه، تخلط بعض الحناء لتخضب بها أصابع يدها:
- "الجماعة" يقترحون أن أكون ضمن لجنة الانتخابات..
ثم سكت قليلا  هو يعود أدراجه سنوات بعيدة، وقد منحته المكالمة والعرض الجديد حياة جديدة ونفسية جديدة، ثم أضاف:
- يبدو أنهم يريدون شخصيات نظيفة ومعروفة لإدارة الانتخابات.
كانت السيدة الستينية تواصل خلط الحناء تمهيدا لاستعمالها، ولم تزد أن رفعت عينيها قليلا نحو زوجها المنشرح بالمكالمة قبل قليل، وسايرته في فرحته بعدة كلمات، مثنية عليه حين تحدث عن رغبة "الجماعة" في اختيار شخصيات نظيفة ومعروفة لعضوية لجنة الانتخابات.
كانت تعلم سر المكالمة وسر الاختيار، رغم أنها لم تخبره بشيء، فقد سعت عبر بنتها المتزوجة من سياسي كبير، إلى يتذكر "الجماعة" زوجها ببعض المهام.
وفي إخر لقاء لها مع زوج بنتها، قالت له دون مواربة متحدثة عن زوجها:
- هو لا يقل أهمية عن كل هولاء الذين يختارونهم يوميا للمهام المختلفة! 
ثم قالت مختتمة مرافعتها المركزة والملحة:
- وهو شخصية خدمت البلد طويلا، ومن حقه أن ينال حقه وحظه من هذه المهام التي يوزعونها يمينا وشمالا..
كانت تعلم سر اختيار زوجها للمهمة، وتعلم جيدا أن مرافعتها كانت حاسمة في الأمر، ولكنها تظاهرت بأنها آخر من يعلم، وطفقت تهيئ زوجها للمهمة الجديدة.
قالت له وهو يمشي متجها نحو غرفة نومه، وقد بات أطول ببضع سنتيمترات:
- يجب أن تفكر في الاستعداد للمهمة، فيتعين عليك أن تجهز ملابسك العصرية، فالدراعة لا تناسب الظرف الجديد..
هز رأسه وغمغم موافقا، وانطلق داخلا الغرفة، ثم فتح خزانة ملابسه، فرأي عدة بدلات مسترخية متجاورة، أُحيلت معه إلى التقاعد منذ سنوات، وكان دائما يتجنب النظر إليها، فهي تذكي في نفسه حنينا مرا وقاسيا لأيام المسؤولية الغابرة.
ورغم أنه كان يدرك استحالة العودة لاستخدام هذه البدلات، فقد قرر الاحتفاظ بها، وكانت زوجته تعتبر ذلك نوعا من "الدگديگ الراس"، وكثيرا ما داعبته بأن عليه أن يخلي مكان هذه البدلات، ويتصدق بها عن عمره وأولاده، وكان في مرات يستشيط غضبا من حديثها، لكنه مع مرور الوقت اعتاد هذه المشاكسات، ولم تعد تثيره، وانتهى به الأمر أن ركنها بعيدا عن نظر الزوجة في جانب قصي من خزانته.
لم تتأخر الزوجة لتلتحق بزوجها الذي وجدته غارقا بين البدلات "المتقاعدة" يفاضل بينها، يرفع هذه ويفرد تلك، ثم يجول بعينه بين اثنتين أخريين ما زالتا معلقتين في الخزانة.
جاءت الزوجة لتقدم له المدد، فقد تذكرت أن أحد أحفادهما عاد العام الماضي في عطلة من اسكتلندا، وجاء لزوجها بثلاث ربطات عنق بألوان مختلفة وزاهية، وقد أخفتها عنه حتى لا تزيد حنينه للعودة المستحيلة للمسؤولية!!
وهاهي تقدمها له لتقنعه باستخدامها بدلا من ربطات العنق التي كانت بحوزته، والتي بدت عند استعراضها باهتة وعتيقة ومتجاوزة.
قال الزوج وقد استقر بعينه على ربطة عنق من الربطات التي كانت في خزانته:
- سأستخدم هذه، وليس أي واحدة أخرى..
ردت الزوجة مقارنة بين الربطات الجديدة وتلك القديمة:
- انظر.. هذه ألوانها ما زالت قوية وحية، أما تلك فباهتة، ماتت منذ زمن بعيد.
تمسك الرجل بربطته ذات اللون الأرجواني تتخللها نقاط وزخارف سوداء خفيفة، ثم قال حاسما النقاش:
- لن أستخدم غير هذه في اليوم الأول، فلي معها ذكريات طيبة، لا تنسى..
ثم أضاف في سعادة غامرة، انعكست على صفحة وجهه المرهق:
- كانت دائما فأل خير بالنسبة لي، فكل المناصب التي أوكلت إلي، كانت هي رفيقي فيها..
غمغمت الزوجة ببضع كلمات، لم يسمع منها سوى قولها وهي تضحك تاركة الغرفة:
-  هذه "العافية عادت مسكونة" مثل صاحبها!!..."

أربعاء, 02/11/2022 - 10:48