الحراطين ولعنة العقار بموريتانيا

من أكثر الأمور مدعاة لعدم الاطمئنان واقع الحياة اليومية للحراطين  بموريتانيا  ، إذ  نلتمس المظاهر الجلية لتهميشهم بشكل بديهي ومنتظم وبالأخص حين يتعلق الأمر بالمجال  العقاري ، فخلال الستين  سنة الماضية ، وبفعل الرشوة والتحايل ومنح أفضل العقارات السكنية مع احتكار شبه كامل لامتلاك للأراضي الزراعية  والصناعية ، بالإضافة إلى تسخير عقود وقروض المحاباة من طرف البنوك ومؤسسات الدولة لجهات بعينها ، تم إهمال وتجاهل تجمعات كاملة من الحراطين ترسيخا لشتى أشكال هدر الكرامة والاستعباد الحديث ــ من خلال العقار ــ إذ تزايدت مجموعات مكونة الحراطين المحشورين في جيوب الفقر المدقع : سكن غير لائق بداخل أعرشة بائسة ،مركونة إلى جانب الأحياء الراقية بنواكشوط حيث يتكدسون على بعضهم البعض في حالة من الاكتظاظ والاختلاط غير اللائقين ، وعلى مستوى الحواضر الكبرى ، يعيش معظم أفراد هذه المكونة داخل  الكبات  والكزرات وأحياء الصفيح  والترحيل والأحياء الفقيرة التي يشكلون جل سكانها ، أما أولئك الباقون في الأرياف على مرمى حجر من أسيادهم القدامى ، فيعيشون بالبادية في أماكن معزولة ( آدوابه ) تحت رحمة الفقر والبطالة والجهل ،ويقع جلهم ضحية لمغريات الانحراف عند قدومهم إلى المدن ، إن هذه المذلة الفريدة الناتجة عن مصيبة الاسترقاق على مدى قرون ،تستمد ماء حياتها من إرادة إلى الآن  تتخذ من اللامساواة سلاحها النافذ  خصوصا  في  مجال  العقار الذي  استخدم على أوسع  نطاق  وبلا حدود  كأهم آلية لتقزيم  أي دور تنموي للحراطين ، واقتصار جل ما بحوزتهم من العقار  في  الفتات العقاري .

لقد ظل هذا  الظلم المتوارث عن عادات وتقاليد اجتماعية بالية ومتخلفة ساري المفعول في كنف الدولة الموريتانية الحديثة التي أوجدت هيكلة لإدامة انعدام تكافؤ الفرص في مجال العقار ،  بإعادة إنتاج طبقية المجتمع التقليدي وتراتبيته التي لا تزال تلقي بظلالها على الواقع وتكرس إرثا يتميز بحرمان الحراطين  من النفاذ إلى الملكية العقارية، أو على الأقل صعوبة النفاذ إليها  بعد إعادة التسجيلات العقارية باسم الشيوخ والوجهاء لصالح المجموعة التقليدية "  القبيلة  "  الكيان التقليدي  الذي  تنعدم فيه عدالة النفاذ إلى الملكية العقارية بالمفهوم المتداول لقيامه على هرمية ضاغطة على أساس طبقي و فئوي، لا يستفيد فيه من هذا الحق إلا من  هم في قمة الهرم، أما الباقون فلا يحق لهم التملك لعدة عوامل يضيق عنها الحديث هنا ، إن  الآلاف ، إن لم تكن مئات الآلاف من الحراطين  يرزحون تحت نير اختلال ميزان توزيع العقار المقيت الذي  ترجح كفته لصالح  حرمانهم من قطع أرضية  ، فقلما يمر  يوما  إلا  وتجمهر  مواطنون  سوادهم  الأعم  من  الحراطين مطلبهم الأوحد  قطعة أرضية  من مساحة  دولة  تبلغ  مليون  و 30 ألف  و  700 كلم  مربع  ، في وطن فرض عليهم بحكم الولادة والحالة الاجتماعية و الظروف المعيشية ـــ مع ما يلازم ذلك من تبعية وارتهان ومعاملات غير إنسانية  والجهل والفقر و البؤس الاجتماعي والاقتصادي وانسداد الأفق ـــ  اللامساواة  والغبن  المفضوح لهم  في  حق  الحصول  على  مسكن ، فإلى الآن أقل من 10% من 30.000 هكتار الممنوحة قانونا والمستصلحة في ضفة النهر ،تم منحها لصغار المزارعين المحليين والباقي استحوذ عليه العشرات من الموظفين والتجار ورجال الأعمال المنحدرين في أغلبهم من ولايات غيـر زراعية؛ تتراوح مساحة القطعة الأرضية الممنوحة للمزارع المحلي بين 0,25 و 50, هكتار بينما متوسط تلك الممنوحة للموظف أو رجل الأعمال هي 200 هكتار.

ما يناهز 90% من المزارعين الصغار الذين لا يتوفرون على أرض نتيجة المنح التقليدي أو الاستغلال الإقطاعي والإسترقاقي لها ،هم من شريحة لحراطين.

أقل من 0,1% من الفيلات والمنازل الفاخرة بالأحياء الراقية في نواكشوط وانواذيبو وكل  المدن  ،يمتلكها حراطين  ، ومع ذلك فإن الحالة الأكثر تكريسا لإقصاء لحراطين هي حالة المزارعين الصغار الذين لا يمتلكون أرضا والخاضعين لاستغلال الإقطاع والاستعباد

تجسد هذه اللوحة بما فيه الكفاية حالة الإقصاء والمعاناة المتجسدة في مختلف أشكال النبذ الاجتماعي والتمييز الإداري والتهميش الاقتصادي والسياسي بحق الحراطين ، زيادة على العقبات التي كثيرا ما توضع لإعاقة  أي  امتلاك  للحراطين للأراضي ذات القيمة الاستثمارية ، إن هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، لكنها ثمرة للخيارات المقصودة والواعية للذين يعجز جلهم عن إدراك معنى المشروع الوطني للأمة ، أي المصلحة العليا للبلد ؛ إذ لا يبدو أن لمعظمهم من طموح ، سوى المحافظة على القاعدة الجامدة القاضية بإعادة إنتاج امتيازات ماض ولى زمانه إلى غير رجعة.

إن التشخيص اللآنف الذكر  المستخلص من  وثيقة الميثاق  يقودنا ونحن على  أعتاب  تخليد الذكرى  الــ 7  لميثاق  الحراطين إلى التأكيد على ضرورة تصحيح التوازنات المختلة ورفع الظلم عن الحراطين وخاصة في مجال العقار لإزالة العبودية وآثارها وترقيتهم ، ولعل السبيل الأنجع لذلك تنظيم حوار شامل في القريب العاجل ،تشرك فيه كافة وسائل الإعلام والخبراء والشخصيات المرجعية الوطنية والعلماء والفقهاء ،بغية وضع خارطة طريق  لعمل حكومي هادف لمقاومة كافة أشكال التمييز وعدم المساواة من اجل الوصول لاحقا إلى المساواة الحقيقية بين كافة المواطنين ومكونات المجتمع ، والرقي  بمكونة  الحراطين التي تشهد تخلفا لافتا عن ركب باقي فئات المجتمع.

عضو  اللجنة  الدائمة للميثاق  /  مسؤول لجنة التعليم  والتكوين  والتمييز الإيجابي

خميس, 23/04/2020 - 10:10