الصناعة التقليدية الموريتانية : تناقضات واقتراحات

تثمينا لتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني واهتمامه بهذا القطاع , أقدم هذا المقال على شكل عرض في ندوة حول الصناعة التقليدية الموريتانية التي نظمتها وزارة الثقافة والصناعة التقليدية  والعلاقات مع البرلمان.

 

1. تاريخ الهوية والصناعة التقليدية

اعتبر المفكرون وعلماء الاقتصاد من أمثال انجلز أن التاريخ الإنساني تاريخ أدواتي. فقد ابتكرالإنسان الأدوات في العصر الحجري وظل يطورها وحتى عصرنا الراهن. فكان لكل حضارة مايميزها من الصناعات والحرف التي تدل على عبقريتها الفذة والخلاقة ، وسلامة ذائقتها الفنية ، وحتى قدرتها على السيطرة على محيطها. 

 

و تقاس ثقافة كل مجتمع و حضارته بمدي تحكمها في الطبيعة و تسخيرها لصالح نفسه. ولقدأمنت الصناعات التقليدية الحرفية، ردحا من الزمن ، للموريتاني كل الحاجات الضرورية للتأقلممع البيئة رغم قساوتها  وذلك قبل مجيء المستعمر ، و حتى أثناء وجوده. ، فلم نكن نحتاج إلى أننستورد من المستعمر حاجاتنا الضرورية ، لأن الصانع التقليدي يستطيع بكل مهارة و إتقان أنيوفر مستلزمات المنازل و حاجات الأسر و يغنيهم عن المستورَد من المستعمر. فهو في خدمة كفاحسلمي ضد بضائع المستعمر على الطريقة الهندية في عهد غاندي. 

 

2. عوامل تدهور الصناعة التقليدية

و لحقب طويلة من الزمان، اشتهر الموريتانيون وصناعاتهم الحرفية التقليدية المختلفة الأشكال والأنواع. لكن هذه الصناعات بدأت تعاني مؤخرا من إهمال غير مسبوق ، حتى بات الكثير منهامهددا بالانقراض ، إذ يستحيل أن تتكيف كما يقول أصحاب نظرية التطور ، لأن العوامل الجديدة التي أصبحت تحيط بها قاسية. و نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 

● عامل اجتماعي : وهو الموقف السلبي من الصناعة التقليدية، الذي يتداوله السذج منالعامة. 

● و عامل نفسي : نفور الشباب عن الحرف و الأعمال اليدوية . 

● و عامل اقتصادي: ويتمثل في ضعف المردودية فيما يتعلق بعائدات الصناعة التقليدية. 

● و عامل تجاري: و هو تدفق المنتجات الصناعية الحديثة ، على السوق الوطنية وخصوصا المنتجات الصينية الرخيصة ، و التي تنتجها الشركات الصينية للتجارانطلاقا من نماذج تقليدية

● وعامل سياسي: و يتمثل في عدم توفر الإرادة السياسية لحماية المنتوج التقليدي ، والتعريف به، وعدم تشجيع القطاع عموما ، و دعم القائمين عليه. 

إن هذه الأمور المختلفة التي جئنا على ذكرها ، تتطلب وعيا وحزما و عناية اكثر من طرف الدولة ، ليتبوأ هذا القطاع الحيوي، الذي لا يوجد في محيطنا الإقليمي ما هو أبدع منه ، مكانته فيالداخل و الخارج . 

 

3. الديالكتيك الهيجلي وتناقض المجتمع

و بما أن " لكل فعل ردة فعل "حسب تعبير الفيزيائيين" فلا شك وأن المستعمِر بدوره قد غالى فيإهانة الصناع التقليديين و إذلالهم ، ودحض منتجاتهم و إشعارهم بالدونية سعيا منه إلى ترويجللبضائع التي جاء يبحث لها عن الأسواق ، و إضعافا للمقاومة. مما ساهم في تكريس نظرةتمييزية غريبة على ثقافتنا الإسلامية ، و سوء فهم في اللاوعي الجمعي للموريتانيين تجلى فيعدم تثمين قيمة الصناعات التقليدية ، وبناء صورة نمطية جد سلبية ، لها و للحرفيين ، الذيناستطاعوا بذكائهم الفائق، إنشاء أشكال و بناء تصاميم لكل ما يحتاج إليه المجتمع منالمستلزمات المنزلية، من الأواني والملابس والسجاد والحصير والاغطية و آليات ركوب الخيلوالجمال. وقد حققت هذه الوسائل للمجتمع، الإكتفاء الذاتي ، وعكست الوجه المشرق لحضارته. 

وفي ضوء الديالكتيك الهيجلي تتجلى نظرة المجتمع الموريتاني للحرف والأنشطة التقليدية في صورة اطروحتين متعارضتين و متقابلتين تُقابل و تُضاد إحداهما قوامها الأَحكام المسبقة التيلا تستند على دليل أو برهان و التي تهدر قيمة العمل اليدوي و تحط من شأنه، والأخرى تقدره وترفعه. 

لقد تجاوزت الإنسانية اليوم ذلك الموقف السلبي من الحرف و الصناعات الذي بلورته عقليةالإغريق والرومان، في العهد الكلاسيكي القديم ، وذلك حينما أدركت قيمة العمل بشقيه التقليديو الصناعي.

 

4. أشادت وابداعات

وقد برز بعض الصناع التقليديون بمهارة فائقة وذوق رفيع إذ ابدعت منهم أسر في صناعةالمدافع واصلاحها مثل أسرة اهل سيدي سيْقَ في لعصابة واسرة أهل اعبيدي  في ادرار والتيصممت راحلة لعبيْدية المشهورة وأسرة أهل الهادي في الحوض الغربي في صناعة الآبار والتيلقبت ب "اهل الهادي الما" .. "وجعلنا من الماء كل شيء حي" (الآية) -- لا تزال الأسرة تمارسهذه المهنة. وفي إمارة لبراكنه كان هناك تجمع "لمكلْبه" والذي كان تحت حماية الأمير لجودة ماكانوا يصممون من الاسلحة و الادوات الاخرى. 

إن الصناعات التقليدية الموريتانية تغطي مجالات بالغة التنوع والاتساع: من الغزل والنسيج وتصنيع الملابس والسجاد والحصير والفخار، وكذلك الأعمال اليدوية ، لإنشاء المساكن وإقامةالسدود وحفر الآبار و صناعة الأسلحة و صيانتها. 

 

وبالنسبة للجمل والذي يعود وجوده إلى دخول القبائل الصنهاجية إلى الصحراء الموريتانية فقدابتدعوا له تقنية لركوبه وطوروها. فقد عرف الصنهاجيين الأعمال ذات الصلة بالموضوع كالعدانةوالدباغة والاعمال الاخري في مدنهم التي أسسوها كما عرف الأقدمون من سكان بلاد شعبالبافور صناعة الجلود والأخشاب والمعادن  بل إن المصادر التاريخية تفيد ان العديد من الفنونكفن صهر الحديد قادمة فعلا من مملكة كوش. 

فقد درس بعض المؤرخين الحرف في بلاد الملثمين واعجبوا بها كالبكري و الليون الافريقيوالسيدة "اودت دى بيكاردو" الذين اشادوا بازدهار مدننا القديمة كقولاتن "ولاتة" واوداغوست فيمجال الصناعات الحرفية. فكانت هذه المدن بمثابة عواصم اقتصادية. وعلى مستوى عمران البلدتكون جودة الصانع حسب ابن خلدون الذي يقول "ان رسوخ الصنائع في الامصار انماهو برسوخ الحضارة وطول أمدها".

 

5. اقتراحات عملية

يعتبرُ الخبراء في ميدان علم الاجتماع  و الاقتصاد أن الثقافة بما فيها الصناعة التقليدية رافداأساسيا من روافد الاقتصاد والتطور. وعليه فإني أقترح مايلي:

 

اولا : إدماج الصناعة التقليدية في إنتاج حاجيات ومستلزمات كل من وزارة التعليم والتنميةالريفية والدفاع الوطني من الصناعات الخفيفة.

ثانيا : إنشاء وحدات صناعية صغيرة ومتوسطة تعتمد في هويتها وتصميمها على الصناعةالتقليدية الموريتانية لكي تكون بداية لنهضة صناعية محلية على نمط ما حصل في أوروباحيث تحولت الصناعة التقليدية من تعاونيات إلى صناعة مانيفاكتوزا.

ثالثا : تدريس الصناعة التقليدية كمادة تربوية وتاريخية في البرامج الابتدائية والاعدادية. بالإضافة إلى تنظيم زيارات مدرسية لورشات الصناع التقليديين. مما سيوفر فرصا لإزالةالعقد وتنمية الاعتزاز بشرفية العمل ولكي يتماشى البرنامج  التربوي مع حاجيات المجتمعوالواقع.

رابعا : إشراك الإعلام والبرامج الفولكلورية الموسيقية للقيام بدورها لتقبل المجتمع لهذه المهنة وفهم مدى أهميتها للهوية وامتصاص البطالة وتقديمها على أنها مهنة غير فئوية تمارس منالجميع من أجل تطور المجتمع. 

حماده ولد اصوينع

41 73 55 39

أربعاء, 25/12/2019 - 20:37