الرئيس الراحل المصطفى ولد محمد السالك في ذاكرة الوطن

تحل اليوم  18 ديسمبر تزامنا مع اليوم العالمي للغة العربية الذكرى الثامنة لرحيل شخصية نادرة من ابناء موريتانيا البررة ابناء السيف والقلم الذين واكبوا في مراحل صعبة  اهم التحولات العميقة في مسيرتها الحديثة بحكمة وثبات وصبر رغم قوة التحديات واشتعال نار حرب ضروس جاءت على الأخضر واليابس 

 

في التاسع عشر من ديسمبر عام 2012 ودعت موريتانيا في موكب وطني مهيب واحدا من أبرز رجالات الدولة الموريتانية وأعلامها المعاصرين الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله 

لم تكن هذه الشخصية المتميزة كما عرفتها عن قرب مجرد رجل أمسك بزمام السلطة وصار رئيسا للدولة غداة العاشر من يوليو بعد ان بلغت القلوب الحناجر في حرب الصحراء الطاحنة ، وإنما كان رجلا بكل أبعاد الروح الوطنية لأنه بحق من جيل الاستقلال المؤسس لكيان الدولة في لبناته الأولى المحددة بشكل بارز لهوية الشعب والأمة ألا وهي السيف والقلم حتى قبل إعلان الاستقلال في الثامن والعشرين نفمبر 1960

نعم الرئيس الأسبق  المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله هو عميد السيف والقلم في ذلك الجيل الأول من بناة موريتانيا الحديثة فقد كان اولا احد رجال التربية والتعليم الذين أخذوا على عاتقهم تنوير عقول الأجيال ورواد المدرسة الأولى قبيل الاستقلال حيث قضى سنوات من عمره في مهنة التدريس بواد غير ذي زرع نهاية الخمسينيات وهي مهنة النخبة الوطنية بامتياز في تلك الفترة الاستثنائية قبل الاستقلال قبل ان يتولى إدارة مدرسة بوسطيلة في ولاية الحوض الشرقي آنذاك حيث تعرف عليه الرئيس المرحوم المختار ولد داداه معلما للأجيال ذات يوم من عام 1959 في حكومة الاستقلال الداخلي وهو آنذاك رئيس الحكومة قبل ان يطلب منه رحمه الله الانضمام لأول  نواة تأسيسية للجيش  الموريتاني الحديث من الضباط الشباب كما حدثني بذلك الرئيس المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله في مقابلة وحيدة وخاصة أجريتها معه حصريا أكتوبر عام 2007 لصالح التلفزة الموريتانية في برنامج كنت اقدمه انذاك هو برنامج ( ضيف الساعة ) 

 

 هكذا اذن كان الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله بالإضافة إلى كونه واحدا  من سدنة القلم  والتعليم والمعرفة فقد كان أيضا من رواد السيف والجندية وخدمة الوطن من موقع المؤسسة العسكرية الأولى في البلاد وكأنه وهو يبدأ مشواره الجديد في الحياة يردد مع أبرز الشعراء العرب ابو تمام  : 

 

السيف أصدق أنباء من الكتب 

في حده الحد بين الجد واللعب 

 

باعتباري من مواليد مدينة ازويرات منتصف الستينيات واحد ابناء الشغيلة الوطنية حيث كان والدي رحمه الله من عمال شركة ميفرما وبعدها اسنيم فقد كنت مثل سائر أطفال تلك المدينة المنجمية في الشمال مسكونا بصور تلك الحرب وآثارها النفسية والاجتماعية المدمرة حتى أننا في ازويرات كأطفال صغار كنا نجسد بعض تبعات هذه الحرب فيما بيننا فنخوض مواجهات عنيفة فيما بيننا كجبهتين متحاربتين في أطراف المدينة تأخذ كل واحدة منهما اسرى لديها من العدو الآخر الصغير وتظل الشرطة في مطاردات معنا لفك الاشتباكات

 

كانت الحرب والعداوة  وصوت الرصاص والخوف هي الأجواء المحيطة بنا من كل جانب حتى ونحن ذاهبون او عائدون من المدرسة الوحيدة في ازويرات المدرسة رقم 1 الخاصة بأبناء عمال شركة ميفرما 

 

استعرض هذا الكلام لأصل إلى طبيعة اهتمامي الخاص بشخصية الرئيس المرحوم المصطفى ولد محمد السالك بطل السلام الذي جعل هذه الحرب اللعينة بين الأشقاء تضع أوزارها عندما قاد بهدوء تام انقلاب العاشر يوليو 1978 دون قطرة دم واحد متحكما في إرهاصات كثيرة كانت ربما ستكون عنيفة داخل الجيش آنذاك وهو يرى البلاد تسير نحو جرف هار من الانهيار الاقتصادي  والخوف الاجتماعي بسبب هذه الحرب الحارقة التي دمرت كل شيء 

 

 

توجهت ذات يوم من خريف 2007 إلى مدينة كيفة التي علمت أن الرئيس السابق يقطن فيها لم تكن لدي أدنى معرفة سابقة به ولم امهد الاتصال به عن طريق أي احد من أبنائه أو أقاربه أو من يرتبطون به كانت رحلة صحفية أشبه بالمغامرة تماما فكبار المسؤولين سابقا في موريتانيا يبتعدون تماما عن الإدلاء بأي معلومات للصحافة فكيف بالرؤساء فمابالك باول  رئيس عسكري حكم البلاد وفي ظروف صعبة وطبيعته الصمت والبعد عن الأضواء ولم يتحدث منذ مغادرته السلطة لأية وسيلة إعلامية وخاصة التلفزة الموريتانية 

 

 

 

وصلت بعد صلاة المغرب إلى منزله في مدينة كيفة لم يكن قصرا منيفا بل بيتا متواضعا اشبه بالبيت الريفي لكنه لم يكن متواجدا فيه بل هو أساسا لإقامة بعض أقاربه وذويه من قاطني المدينة اما الرئيس المصطفى رحمه الله فيسكن أبعد من ذلك بكثير على بعد سبعة وستين 67 كلم في قرية آمرجل موطن آبائه وأجداده في نواحي كيفة بولاية لعصابة 

 

 

 

قررت مع الفريق التلفزيوني ان نتوجه إلى القرية النائية التي وصلنا إليها بعد صلاة العشاء عبر رحلة مكوكية بين المرتفعات الرملية في جوف الظلام 

 

 

 

اخيرا وجدنا الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك جالسا تحت ضوء القمر مع أفراد عائلته في هذه البادية البعيدة فتلقى لنا بحفاوة بالغة وكرم فياض وبعد مؤانسة في الحديث واستراحة قصيرة طلبت منه إجراء أول مقابلة معه في التلفزيون حول فترة رئاسته لموريتانيا والتطورات المختلفة التي مرت بها بشكل صريح فوافق على الفور  والغريب عكس ما توقع الزملاء المرافقون لي انه بالإضافة إلى مفاجأة الموافقة على الحوار لم يكلف نفسه عناء الأسئلة التقليدية عن الهوية الضيقة لكل واحد منا كما يفعل سكان أية قرية بعيدة مع الغرباء 

 

 

في صباح اليوم الموالي بدأنا المقابلة مع الرئيس  الذي يستحق فعلا ان يسمى رئيس الفقراء كان الاستيديو هو عريش بسيط جلس تحته الرئيس على اريكة مرتفعة بعض الشيء يسمونها الخبطة حوله مذياع قديم  مازال بحوزته وأصوات بقرات من حولنا تحاول أحيانا قطع مجرى الحديث 

 

 

أجاب الرئيس عن كل شيء عن قصته كأحد رجال التعليم وعن رحلته إلى فرنسا مع أول دفعة من الضباط الأوائل لموريتانيا قبل الاستقلال ضمت إلى جانبه كلا من الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد احمد الطايع والعقيد المرحوم الشيخ ولد بيدة واثنين آخرين نسيت اسميهما حيث احتفل هؤلاء بعيد الاستقلال الأول في الكلية العسكرية بباريس 

 

 

 

اعجبتني في شخصية الرئيس الراحل المصطفى ولد محمد السالك عدة خصال ألخصها فيما يلي : 

 

 

 

اولا : وطنيته الشديدة وحبه الازلي لموريتانيا فالرجل لا يعتبر ان الانقلاب الذي قاده غداة العاشر يوليو 1978 كان من أجل السلطة وإنما لإيقاف نزيف الحرب الذي كان سيقضي على كيان الوطن الهش تماما وقد أخبرني ان اللجنة العسكرية للخلاص الوطني التي ترأسها آنذاك حددت لها ثلاثة اهداف فقط رسمها شخصيا وهي : 

 

 

1- إنهاء الحرب وعودة السلام 

 

 

 

2- تقويم السياسة الاقتصادية وخاصة في مجال الصيد البحري 

 

 

 

3- التناوب السلمي على السلطة وتحقيق الديموقراطية 

 

 

 

وقد.تحدث في هذا اللقاء بشجاعة ومسؤولية ان الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة العسكرية بعده هي محاولة الالتفاف على المسار الديموقراطي  فكانت الصراعات الداخلية والانقلابات المتوالية التي أهدرت كل طاقات البلاد 

 

 

 

ثانيا : المستوى الثقافي الرفيع للرجل

 

 

فبالإضافة إلى تكوينه العلمي والمحظري فقد درس في المدارس النظامية قبل الاستقلال حتى أصبح من نخبة المدرسين الأوائل في البلاد وهو من القلائل من جيله آنذاك الذين ثقفوا لغة موليير بشكل عميق كما يقول العارفون به عن قرب وعلى مستوى عال جدا 

 

 

وقد ربطته علاقات طبية مع العديد من زعماء العالم الذين اعجبوا بحكمته وشخصيته العربية الأصيلة خاصة زعماء المنطقة المغاربية والإفريقية الذين التقوا به في سدة الحكم مثل الملك الحسن الثاني والرئيس هواري بومدين رحمها الله 

 

 

 

 

ثالثا : أخلاقه وحبه الكبير للبساطة والتواضع 

 

 

من الغريب ان الرجل الذي عاش في الغرب وفي عاصمة الأنوار باروريا  قبل الاستقلال لم تستهوه مظاهر الحياة الغربية والماديةو لم ينسلخ من عاداته وتقاليده العربية العريقة وقد حدثني أنه لا يشعر بالراحة إلا في قريته الأم  آمرجل مسقط راسه ومدفن آبائه وأجداده جيلا بعد جيل  وبين مراتع شبابه وصباه وهو يؤمن بأن العلم والثقافة هما اولا اساس التقدم في كل شيء 

 

 

وكان رحمه الله يتحدث بتقدير خاص وكبير عن الرئيس المؤسس المختار ولد داداه رحمه الله ويقول إنه رجل دولة بامتياز ولم يكن له خطأ في نظره سوى قرار الدخول في الحرب الذي لم يخضع لمنطق عسكري حقيقي في نظره في تلك الفترة المبكرة من نشأة كيان الدولة 

 

 

ويضيف الرئيس المصطفى رحمه الله إنه مرة في أوج الحرب سال الرئيس المرحوم المختار هل قرار الحرب قرار  عسكري ليقدم فيه رأي خبير في الميدان ام قرار سياسي لحزب الشعب  فرد عليه الرئيس المختار رحمه الله هذا قرار سيادي لا رجعة فيه حتى آخر قطرة لآخر رجل في البلاد حينها قلت له - على لسان الرئيس المصطفى رحمه الله - انا كونتموني  في المجال العسكري سيادة الرئيس إذا لم يكن لي راي في ذلك فأرجو إبعادي عن أية مسؤولية فيه 

 

 

وفعلا عينت بعد فترة مديرا لشركة سونمكس لكن يقول الرئيس المصطفى ولد محمد السالك بينما كنت ضحى ذات يوم بمكتبي في نواكشوط  اذا بصوت الرصاص يلعلع حول القصر الرئاسي وفي وسط المدينة في هجوم عسكري مفاجئ للبوليزاريو على العاصمة اتصلت على الفور بوزير الدفاع حينها الأستاذ محمذن ولد باباه وقلت له إنني أستاذنه في زيارة قيادة الأركان والتوجه لصد هذا العدوان لأن ضميري الوطني لا يسمح لي بالجلوس بين السكر والشاي وبلدي يتعرض للاعتداء العسكري وفي عاصمته فتقبل وزير الدفاع طلبي واذن لي بزيارة قيادة الجيش  والتنسيق معها لدحر الهجوم وهو ما تم بسرعة على مشارف نواكشوط طريق اكجوجت حيث قتل فيه قائد الفيلق المهاجم آنذاك الولي 

 

 

بعدها وجد الرئيس الراحل المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله نفسه في قلب الأحداث والمسؤوليات الكبرى حتى  قرر بهدوء ذات يوم في يوليو 1978 ان يضع جدا   نهائيا للحرب وفترة الحزب الواحد ويحقق السلام الذي كان ينتظره الجميع في موريتانيا والمغرب العربي وتتخذ موريتانيا موقف الحياد التام في نزاع الصحراء الذي ما زالت متمسكة به حتى اليوم 

 

 

 رحم الله الرئيس الراحل المصطفى ولد محمد السالك واسكنه  فسيح جناته  فقد كان رجلا عظيما سيبقى في ذاكرة الوطن 

 

سيدي ولد الأمجاد 

 

كاتب وإعلامي

أربعاء, 18/12/2019 - 10:22