الاستمراريةُ المستحيلة...

ليس سراً أن معظم الرؤساء الذين حكموا موريتانيا، حاولوا بشتى الطرق أن يحافظوا على استمراريتهم في الحكم، لكن الأقدار شاءت أن تكون نهاياتهم متشابهة، فمن وصل منهم بالقوة أُخرج بالأساليب ذاتها التي استخدمها للوصول إلى السلطة، ربما يُشكل ولد عبد العزيز الرئيس السابق حالةً استثنائيةً لكونهاستطاع تحديد وجهته بنفسه، وإن كان ذلك تم على عجل، دون أن تُفرض عليه الإقامة بإحدى المدن التاريخية التي قد يكون غير مرحب به فيها.

والظّاهر أن إصرار عزيز على الاستمرارية قد تكون له نتائجه السلبية، فالرجل الذي رفض أوامر قادته ثلاث مرات سبيلاً للحفاظ على منصبه في الحرس الرئاسي، وقام بخطوات توصف وقتها بالمتهورة، كانت أولها انقلابه على معاوية ولد الطايع بعد تعيينه له في حامية لمغيطي، وثانيهما رفضه أوامر الرئيس الراحل رغم العلاقة المهنية والقرابية بينهما، ويبدو من خلال دخوله للمشهد في الأسبوع الماضي أنه مازال ينوي تكرار سيناريو سيدي ولد الشيخ عبد الله مع زميل الدراسة والسلاح.

 

منطقٌ ضد الاستمرار

لم يدرك الرئيس السابق أن هناك متغيراتٍ كثيرة، سواءً داخل المؤسسة العسكرية أوخارجها، فجيله من الضباط  أصبح يَعي خطورةَ الوضع،  فداخل المؤسسة العسكرية ذاتها هناك صراعٌ بين الأجيال، تغذيه الفوارق العُمرية والفكرية وحتى المادية، وتوتره معاييرالتقدم في الرتب العسكرية التي تخضع في غالبها لأمزجة الجنرالات والعقداء، الأمرالذي أنتج حالات معقدةً من التذمرالمزمن الذي يعكس بجلاء هشاشة البنية العمودية لمؤسسة توصف بأنها الأكثر تماسكاً في البلد، كل هذا جعل من قادة الجيش يقفون في وجه استمرارية قد تكلفهم من الخسائر ما لايستطيعون التحكم في مآلاته، "فالضمير الجمعي"للجنرالات يكاد يكون مجمعاً على ضرورة الخروج من المشهد بسهولة وبدون أعباء تكدر عليهم صفوحياة ما بعد التقاعد، وفي هذا الصدد يأتي اختيارهم للرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني الذي يعتبر الرجل الوحيد القادر ضمن جيله من الضباط على إخراجهم من ورطات عزيز الثلاث دون الاصطدام بالمؤسستين العسكرية والمدنية، وأظن أن هذا التصور أقنع جل الجنرالات الذين استطاعوا مواجهة عزيز بصراحة، حين كان ينوي تمديد فترة حكمه.

 

المواجهةُ الاستباقية

يقول العارفون بولد عبد العزيز إنه يملك نفساً طويلاً في المغامرة،  فضلاً عن رصيد من النفوذ داخل الحرس الرئاسي وغيره قد يستخدمه في أي وقت للحفاظ على استمراريته في السلطة حتى ولوكان الثمن حياته، ولعل رفاق السلاح أدرى بهذه الحقيقة أكثر من غيرهم، وهو ما جعلهم يعتمدون التكتيك الاستباقي في كل الجبهات، وبأساليب هادئة، على المستويين الداخلي والخارجي. ففي الداخل حُركت كتائب من المدونين للتنديد بدخول عزيز للمشهد من جديد  وفُتح المجال أمام أصحاب الشوسال ميديا لتفكيك السؤال الذي طُرح عن قصد، وهو لما ذا يأتي عزيز وأفراد أسرته في رحلة خاصة على حساب دافعي الضرائب من الشعب الموريتاني؟ ، ولكي تزداد حدة الاحتقان ضده أكثر تُرِك الأمر لآمال منتمولود لفصل موظّف في الموريتانية للطيران لمجرد أنه نشر صورة سلفي بصحبة الرئيس السابق. ويبدو أن المعارضة التقليدية لها نصيبها ضمن حملة الرفاق ضد نهج الاستمرارية، حيث صرحت عضو  المكتب التنفيذي في  RFD مُنى منت الدّيْ لتفزيون العربي بأن  بعض القوى السياسية في موريتانيا تجهز ملفاً لمحاسبة عزيز على تجاوزاته خلال مأموريتيْه، وفي حال لم ينصفهم القضاء الموريتاني سيلجؤون لرفع قضايا ضدعزيز في المحاكم الدولية. وأعتقد أن غزواني ورفاقه أرادوا تصفية عزيز عبر بوابة محددةسلفاً، وفي هذا الإطار يمكننا فهم إصدار الأوامر لبعض الكتل البرلمانية ورابطة العمد بالتوقف عن تحركاتها لأنها قد تمنح الفرصة لعزيز لإعادة التحكم في خيوط اللعبة من جديد.

قد لاتختلف الصورة التي يُراد للعزيز أن يظهر بها في الداخل عن تلك التي يسعى الجنرالات لرسمها له في الخارج خصوصاً في دول الجوار، فخطاب الرئيس الحالي في داكار نقض عُرى السياسة الخارجية لسفه وأظهره بمظهر المتهور، وقد بدت تلك الصورة واضحةً في الصحف السينغالية، التي أشادت بهدوء غزواني وبتعامله بجدية مع القضايا الشائكة، ففي مقال للكاتب Mamadou N´DIAY بعنوان  Un Mauritanien  á Dakar  أو  "موريتانيٌ في داكار" أشاد الكاتب بسياسات غزواني وبأساليبه السلسة دون أن ينسى ما سماه بالفوضى والاحتقار، التي مارسها سلفه، ساخراً من أساليب بعض حاشية عزيز حين استخد مصطلح "موريتانيا النافعة" la Mauritnie utile في إشارة واضحة لتسجيلات مسربة تُسيئ لمناطق مختلفة من موريتانيا.

 

خُطواتٌ متسارعة

إننا أمام صراع معقد يعتمد أساليب غير مباشرة تُستغل فيها موجة الانتقام ضد ولد عبد العزيز، ونظامه لتُشكل وعياً جماعياً يجعل من البيئة السياسية في البلد طاردةً لكل وجوه العشرية الأخيرة ودعاة استمراريتها، والمتتبع لمايحدث في الساحة يدرك أن ثمة أفعالاً خفية تتم عبر خطوات متسارعة وممنهجة للغاية بهدف بلورة الاستياء من الفترة العزيزية في شكل أكثر تنظيماً، بحيث تستطيع توفير الظروف المناسبة لأصحاب القرار لوضع حد لثنائية النفوذ التي تهدد موريتانيا، وربما يكون عزيز قد فهم عبر تعيينات الخميس 14/11/ 19 أن الأمور خرجت عن نطاق حساباته القديمة، لكن أوان التحرك بالنسبة له قد فات، لذلك لم يجد بداً من اعتماد تكتيكات يحاول صاحبها أن يوهم الرأي العام أنه مازال رقماً صعباًفي معادلة سياسية تحاول كل أطرافها الدفع به من البوابة الخلفية للتاريخ.

ثمة شبه إجماع بين فئات عريضة من الشعب وبين معظم الضباط السامين في الجيش على أن استمراية عزيز في السلطة قد تكلف موريتانيا استقرارها، وهذا النوع من الاجماع يشكل حالةً نادرة في بلد كان يُدار خلال العشرية الماضية بمنطق فرق تسد، تطبيقاً لإستراتيجية عزيز التفكيكية المعتمدة على خلق عداواتٍ وهمية بين الفئات الثلاث المكونة للمجتمع الموريتاني التي أدركت قبل مائة يوم من الآن ما عجزت عن فهمه خلال عقد من الزمن، لذلك من الطّبيعي أن تتعامل بحزم مع من يحاول تكرار نفس السيناريو عبر النوافذ بعد أن أُغلِقت الأبواب في وجهه، وهذا ما جعل عزيز يدرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن استمراريته في السلطة ضربٌ من المستحيل، وليست محاولة تحريك الكتلة البرلمانية للالتفاف على السلطة سوى دق آخر مسمار في نعش مسار سياسي استمر قُرابة عقدين من الزمن.  

د. أمم ولد عبد الله

 

 

سبت, 23/11/2019 - 23:45