نجل القذافي ما زال حيا ويريد أن يستعيد ليبيا (مقابلة)

في أول مقابلة له مع صحفي، بعد اختفاء دام عشر سنوات، يصف سيف الإسلام القذافي سنواته المأساوية في الأسر ويلمّح الى احتمال الترشح للانتخابات ليصبح الرئيس القادم للبلد.

قبل عشر سنوات وبالقرب من مدينة “أوباري” الليبية الصحراوية، اعترضت مجموعة من المتمرّدين المسلّحين موكبًا صغيرًا أثناء محاولة الفرار جنوبًا باتجاه النيجر. استوقف المسلّحون السيارات ليجدوا رجلًا أصلع صغير السنّ تغطي الضماداتُ يدَه اليمنى. رأوا وجهًا كان دائم الظهور على شاشات التلفزيون الليبي. إنه سيف الإسلام القذافي، الابن الثاني لديكتاتور ليبيا سيء السّمعة وأحد الأهداف الرئيسية للمتمرّدين.

قبل اندلاع الانتفاضة الليبية في فبراير عام 2011، كان الغرب يعقد الآمال على سيف الإسلام لإحداث إصلاح تدريجي في البلاد. فمظهره المهندم ونظّارته الطبية وطلاقته في الحديث باللغة الإنجليزية جعلته يبدو مختلفًا تمامًا عن أبيه الذي عُرف بمظهره المبهرج وطباعه الغريبة. درس سيف الإسلام في “كلية لندن للاقتصاد” وتحدّث لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وكوّن صداقات مع علماء سياسة مرموقين، وحاضَرَ الشباب الليبي عن التربية المدنية، حتى إن بعض أصدقائه في الغرب اعتبروه المُنقِذ المنتَظر لليبيا.

لكن عندما قامت الثورة، سارع سيف الإسلام بالانضمام إلى حملة القمع الغاشمة التي أطلقها نظام القذافي. كان من السهل على الثوار الذين انتصروا بعد تسعة أشهر أن يكافئوه بالإعدام دون محاكمة مثلما فعلوا مع أبيه وعدد من كبار المسئولين بالدولة، لكنه، ولحسن حظه، وقع أسيرًا لدى كتيبة ذات توجّه مستقل حمته من الفصائل المتمردة الأخرى ونقلته جوًّا إلى مدينة “الزنتان”، موطنها في الجبال جنوب غربي العاصمة. ولأنه كان مطلوبًا أيضًا للمحكمة الجنائية الدولية، فقد اعتُبر رهينةً غالية. وظل أسيرًا لدى الزنتانيين حتى بعد انتخابات ليبيا عام 2012.

وفي السنوات التالية، انقسمت ليبيا إلى ميليشيات متناحرة، ونهب الإرهابيون مخازن الأسلحة مما أدى إلى تأجيج حركات التمرّد والحروب في أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط. وتفاقم الاتّجار بالبشر، مما تسبب في إرسال عدد كبير من المهاجرين إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط. وأسّس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” خلافةً مصغّرة على الساحل الليبي. وشيئًا فشيئًا، بدأ الليبيون يغيّرون نظرتهم إلى سيف الإسلام الذي سبق أن تنبأ بانقسام ليبيا في الأيام الأولى من الثورة عام 2011. وأفادت التقارير بأن خاطفيه أطلقوا سراحه، بل وأنه ينوي الترشّح للرئاسة، غير أن مكانه لم يكن معروفًا لأحد.

في صباح يوم عاصف حارٍّ في مايو الماضي، غادرتُ فندقي في طرابلس وجلستُ في المقعد الخلفي لسيارة سيدان رمادية متهالكة. كان سائق السيارة يُدعى سالم وكنتُ قد تحدثتُ معه من قبل دون أن ألتقيه قط. انتابني كثيرٌ من التوتر، فقد قضيتُ عامين ونصف أرتّب لهذه المقابلة مع سيف الإسلام، وخلال هذه الفترة تحدثتُ معه عدة مرات عبر الهاتف. لكنني الآن أتساءل عن الصوت الذي كنت أسمعه على الطرف الآخر من الهاتف. فلم يحدث أن التقاه أي صحافي أجنبي منذ عشر سنوات. وقد أخبرتني منظمة “هيومان رايتس ووتش” أنه لا يوجد دليل على أن سيف الإسلام حيٌّ منذ عام 2014. ومعظم الأشخاص الذين قابلتُهم في ليبيا قالوا إنهم لا يعرفون إن كان حيًّا أم ميّتًا.

كنا في شهر رمضان، وكادت شوارع العاصمة تخلو من الناس والسيارات. لم نمرّ على أي من نقاط التفتيش التي توقعتُ المرور بها ونحن نغادر المدينة باتجاه الجنوب الغربي نحو جبل “نفوسة”. وبعد ساعتين تقريبًا، صعدنا ببطء وسط قمم بنية داكنة حتى وصلنا إلى هضبة “الزنتان”. وعلى أطراف إحدى القرى، أوقف سالم السيارة وطلب مني أنا والمصوّر الذي يرافقني، جهاد نجا، الانتظار.

لم يمض وقتٌ طويل حتى توقفت خلفنا سيارةٌ بيضاء من طراز تويوتا لاند كروزر، وخرج منها رجل يرتدي ثوبًا ناصع البياض. طَلب منا أن نترك هواتفنا في سيارة سالم. كانت سيارة لاند كروزر مصفّحة ذات أبواب ثقيلة جدًّا حتى إنها حجبت جميع الأصوات من الخارج. عرّف السائق نفسه بأنه محمد، ثم قاد السيارة دون أن ينبس بكلمة لمدة عشرين دقيقة تقريبًا، إلى أن دخل مجمّعًا سكنيًّا محاطًا بالبوابات وأوقف السيارة أمام فيلّا من طابقين تبدو عليها مظاهر الترف. فتح محمد الباب الأمامي، ودلفتُ عبر مدخلٍ خافت الإضاءة.

تقدّم نحوي رجل ومدّ يده قائلًا: “مرحبا!”

لم يكن لديّ شكٌ في أنه سيف الإسلام، مع أن ملامحه بدت أكبر سنًّا وكست وجهه لحيةٌ طويلةٌ غزاها الشيب. كان إبهامُ يده اليمنى وسبّابتها مبتورين – نتيجة إصابته بشظية في إحدى الغارات الجوية عام 2011 على حدّ قوله. كان يرتدي عباءة سوداء خليجية الطراز تزيّنها أهدابٌ ذهبية، كأنه رئيس دولة، ووشاحًا ملفوفًا بشكلٍ مهندمٍ حول رأسه. لو أن سيف الإسلام ورث شيئًا واحدًا فقط عن أبيه، فهو أسلوبه المتكلّف. قادنا إلى قاعةٍ جلسنا فيها على أرائك جديدة بلونٍ مائلٍ إلى الخُضرة. وغلبت مظاهر الترف والبهرجة على أثاث القاعة، بسجّادها السميك وثريّاتها الكريستالية وستائرها الأرجوانية. وفي تنافر واضح مع هذه الأجواء، عُلّقت على الجدار لوحةٌ بها صورة جبال وإحدى بحيرات الألب. لم يكن في المنزل أحدٌ غيرنا.

مرت فترةٌ من الصمت المشوب بالارتباك قبل أن أسأله إن كان لا يزال سجينًا، فقال إنه رجلٌ حرٌّ وإنه يرتّب لعودته إلى الساحة السياسية. أوضح أن المقاتلين الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات قد تحرّروا من وهْم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفًا قويًّا لهم. ارتسمت على وجهه ابتسامة وهو يصف تحوّله من أسير إلى أمير منتظر، فقال: “هل لك أن تتخيل؟ الرجال الذين كانوا حرّاسي هم الآن أصدقائي.”

استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم “الحركة الخضراء”. ورغم تحفّظه بشأن الحديث عن احتمالية ترشّحه للرئاسة، فهو يعتقد أن الحركة التي يقودها بإمكانها أن تعيد للبلاد وحدتها المفقودة. والحقيقة أن الشعار الذي اختاره لحملته نجح في العديد من الدول، بما فيها دولتنا، وهو: السياسيون لم يقدّموا لكم شيئًا سوى المعاناة. حان وقت العودة إلى الماضي. قال سيف الإسلام: “لقد اغتصبوا بلادنا وأذلّوها. ليس لدينا مالٌ ولا أمنٌ ولا حياة. إذا ذهبتَ إلى محطة الوقود، فلن تجد وقودًا. نحن نصدّر النفط والغاز إلى إيطاليا – نحن نضيء نصف إيطاليا ونعاني نحن من انقطاع الكهرباء. ما يحدث تخطّى حدود الفشل. إنه مهزلة.”

بعد مرور عشر سنوات على حالة النشوة التي صاحبت الثورة، يتفق معظم الليبيين مع هذه الرؤية. ففي طرابلس، تحتل أسراب النورس “الفندق الكبير” الذي لم يكتمل بناؤه، والذي يتخذ شكل كتلة رمادية عملاقة من الطوب الإسمنتي والرافعات المطلّة على المحيط. وهذا المشروع واحدٌ من عدة مشاريع دعمها سيف الإسلام، لكنه لم يُستكمَل بناؤه منذ عام 2011. وهناك العديد من المباني الخاوية الأخرى التي تشوّه سماء ليبيا بعد عزوف الممولين الأجانب عن المخاطرة بأموالهم في ظل هذه الأوضاع المتردية. كدّس بعض أمراء الحرب في ليبيا ثروات طائلة - تضخّ ليبيا نحو مليون برميل من النفط يوميًّا - في حين يعاني أغلب الناس من انقطاع الكهرباء لمدة ساعات في اليوم، إلى جانب معاناتهم للحصول على مياه الشرب. وتقف آثار ثقوب الرصاص في طرابلس وغيرها من المدن الكبرى شاهدًا على حرب دارت رحاها على نحو متقطع على مدار عقد كامل.

 

جمعة, 30/07/2021 - 21:52