كيف استجابت الطريقة القادرية لتحديات الفراغ السياسي

قدمت الطرق الصوفية وبشكل خاص القادرية البكائية وزعيمها الشيخ سيد المختار الكنتي (ت 1811) وتلاميذه من بعده استجابة عميقة لتحديات شعوب الصحراء والسودان الغربي المتمثلة بدرجة رئيسة في معضل الفراغ السياسي، وكما يسجل المؤرخ حسن مكي"شخّص الشيخ سيد المختار الكنتي علة الانحطاط في المجتمع السوداني)مالي (في إسقاط المغاربة لدولة صونغاي (1595) دون تقديم بديل، حيث أدى تدمير السلطنة الإسلامية إلى حدوث فراغ وفوضى، وسلب ونهب... مما دفع الكنتي إلى تفضيل وجود دولة ـ حتى لو كانت ظالمة ـ على غرار الدولة المغربية على الفوضى، لأنه ـ على الأقل ـ يوجد عند المغاربة فكر الملكية وحفظ الأمن وإقامة المؤسسات على الشريعة الإسلامية"( ). 
حظيت قضية الفراغ السياسي بنصيب وافر من البحث والاهتمام في كتابات رواد هذه الطريقة الصوفية الإصلاحية، فكان الشيخ سيد محمد الخليفة الكنتي (ت 1826) يطلق على المجال الصحراوي -على سبيل الإدانة والتهكم -لقب "البلاد السائبة"، داعيا في كتابه "أوثق عرى الاعتصام للأمرء والوزراء والحكام" إلى إنهاء الفوضى وإقامة الدولة: "فصل في وجوب نصب الإمام لما يترتب عليه من أمور المسلمين"( ). 
في المرحلة الأولى انصب اهتمام شيوخ الحركة الصوفية (بحكم موقعهم الجغرافي) على إنهاء الفراغ السياسي القائم في بلاد السودان (مالي حاليا)، وهو الفراغ المستمر منذ الغزو المغربي لسلطنة صنغاي (1595م/999هـ) وما تسبب فيه من متواليات الخراب السياسي والحضاري، والتي لخصها الشيخ سيدي محمد الخليفة بألفاظ جزلة عميقة الدلالة، حيث كتب لتلميذه أحمد لبو المتطلع إلى إقامة دولة إسلامية لأول مرة في تاريخ السودان (مالي)، منذ انهيار دولة الصنغاي: "وشرح ذلك يخرج بنا عما نحن بصدده من تحرير المقالة في أحكام الولاية والعمالة، وإنما صدرت بذكر المحتسب لأن غالب المتصدرين بهذه البلاد السائبة السودانية البعيدة عن بسطة يد السلطان الأعظم، ومن تحته من النواب الخارجة عن نظرهم، إنما هو فيما مر من الانتصار بحكم التغلب والترؤس بدعوى تولية الأمراء... وآخرهم الرماة المتغلبون بتسليط مولاي أحمد الذهبي... فأذهبوا ريح دولة الصنغانيين، وأوهنوا دولة العلم بالبلاد السودانية، وأظهروا الحيف في البلاد، وشهروا السيف على العباد، وطبقوا البلدان بالخراب ووضعوا الجزية والمكوس على الرقاب، فضعفت دولة السودان وانحلت وأدبرت عمارتهم، وتولت على بقية من رسوم الإمارة وتحلة من آثار العمارة، حتى طرقت السودان دولة الطوارق، فدمدمت تلك الرسوم بالدمار، وعفت بالإخلاء والإجلاء بقايا تلك الآثار، فلم يبق من الإسلام إلا اسمه ولا من الدين إلا رسمه"( ). 
اتجه الإسهام الفكري والتربوي والسياسي للحركة الصوفية إلى هدف مركزي هو إنهاء الفراغ السياسي، ومما شجعها على المضي قدما في هذا الاتجاه علامات الترهل والانقسام التي بدأت تظهر على القوى الفوضوية المسيطرة، وهي المؤشرات التي رصدها الشيخ سيد المختار الكنتي بشكل مبكر، كما يبرز ذلك بوضوح في رسالته لهنون ولد بيده "وإني لأرى مخائل ذهاب دولة الطوارق وغيرهم من عمار هذه الأرض، لأن الدولة كالفرس الغائرة إذا أقبلت أسرعت، وإذا تولت أسرعت، وقد تدبر ثم تقبل، وقد لا تقبل...وأمر لصوص هذه الأرض اليوم في إدبار"( ). 
ولم يكتف شيوخ المدرسة الإصلاحية بالتفرس وانتظار حصول الكرامات كما يفعل دراويش المتصوفة، بل انتهجوا مقاربات فعالة مبنية على فهم مميز لـ"سنة التدافع"، كما نلمس ذلك بوضوح في ثنايا كلام مؤسس المدرسة، الذي كتب في إحدى رسائله: "قال الله تعالى: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)البقرة: 249؛ يعني لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض فيدفع به القوي عن الضعيف وينتصر للمظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف ولتواثب الخلق بعضهم على بعض، فلا ينتظم لهم حال ولا يستقر لهم قرار، فتفسد الأرض ومن عليها، ثم امتن الله على الخلق بإقامة السلطان فقال: (ولكن الله ذو فضل على العالمين) يعني في إقامته السلطان ليكون فضله على الظالم كفّ يده، وفضله على المظلوم كف يد الظالم"( ). 
لقد أثمر الوعي الحركي الذي بثته الحركة الصوفية قيام دولة ماسينا الإسلامية عام 1818 في وسط مالي وشمالها بقيادة أحد كبار المتصوفة من أتباع نفس الحركة - الطريقة هو الشيخ أحمد بن لبو، وقد اعتمدت هذه الدولة على عصبية الفلان الأفريقية والتي عولت كثيرا على دعم وإسناد الطريقة القادرية البكائية على جبهتين أساسيتين:سياسية تتمثل في حشد تأييد وولاء بقية المكونات الأزوادية الطوارق والعرب والرمة والصنغاي، وفكرية تتمثل في التنظير الفقهي والسياسي للدولة الناشئة. وفي هذا الإطار يتنزل تأليف الشيخ سيد محمد الخليفة لكتابه "أوثق عرى الاعتصام للأمراء والوزراء والحكام"، الذي كان بمثابة وثيقة دستورية لدولة ماسينا( ). 
شخصت الطريقة القادرية البكائية أزمة البلاد الصحراوية (موريتانيا) في الفراغ السياسي، وغياب الدولة المركزية القوية والعادلة، والأداء السياسي الأعرج للإمارات الحسانية والصنهاجية القائمة، والممارسات الخاطئة لبعض الأمراء، تلك الممارسات التي لا تنضبط بالقيم الإسلامية في بعض الجوانب. وربطت المدرسة بين هذا الوضع السياسي المختل والوضع الاجتماعي المريض وغير المقبول من الناحية الشرعية "فإذا أقام أحدهم حدا من الحدود المتعينة أو ورد مظلمة من المظالم البينة، فإنما يعمل بذلك على مقتضى هواه، وعلى الوجه الذي ينتظم به شمل دنياه لا يرجو بذلك ثوابا، كما لا يخاف بما يتجنب من الجور بين يدي ربه خجلا ولا عقابا، قلت أما في هذه البلاد الصحراوية التكرورية السائبة التي لا تبلغها أحكام الأمراء ولا تنالها أيديهم، بل أهلها ثلاث طوائف: متغلبون، وزوايا مغلوبون، ولحمة مساكين مملوكون، تُضرب على رقابهم الجزى ويُتوارثون جيلا بعد جيل"( ). 
وفي إطار عملها الإصلاحي جذرت الطريقة القادرية فكرة الاهتمام بـ"الشأن العام"، حيث منح العديد من روادها اهتماما كبيرا لترسيخ الأمن والاستقرار وإغاثة الملهوف، وتعليم العلم، وحماية الضعيف، ونصرة المظلوم. كما أعطوا- وهو التطور الأهم- عناية خاصة لإحياء الأرض، من خلال غرس واحات النخيل وحفر الآبار في الفلوات، وتأسيس المدن، على نحو ما فعل عدد من ألمع شيوخ هذه الطريقة كالشيخ سيديا بن المختار بن الهيبة الانتشائي، الذي بنى مدينة "أبي تلميت" في الغرب الموريتاني، والمرابط محمد المختار ولد بلعمش الجكني الذي أسس مدينة "تيندوف" في منطقة الحمادة في شمال الصحراء، والجهد الذي اضطلع به الثنائي الشريف مولاي إسماعيل وباب أحمد ولد الشيخ في تأسيس مدينة النعمة بالحوض، بالإضافة لبناء الشيخ سيد امحمد الكنتي  لمدينة "بيرأم اكرين" في منطقة الزمور في الشمال الموريتاني، حيث "نزل على بئر أم اكرين وحفرها وحفر العيون وغرس النخل"( ). 
وهو مسعى مهم لترسيخ دعائم التمدن والاستقرار الذي يوفر المناخ الملائم لتطور الثقافة السياسية التي نبه ابن خلدون إلى كونها تعبيرا حضاريا، فهي ككل ثقافة منطقية لا تنمو إلا حيث بلغت الجماعة السياسية مستوى معينا من التقدم والرقي، وهي (ثانيا) تفترض جماعة مستقرة لا تعرف ما يسميه "ذعر السكان"، وهي (ثالثا) وبصفة خاصة لا تستطيع أن تتلاءم مع المنطق العامي السليم الطبع أي متوسط الثقافة( ). 
كما اتجهت الطريقة القادرية نحو الانفتاح على مختلف فئات وطبقات المجتمع، حيث أقامت علاقة متوازنة مع طبقة "العرب" الحاكمة، معترفة لهم بما يحوزون من قيم وفضائل، ومنكرة ما سوى ذلك بجرأة مشهودة ولكن برفق، كما أقامت علاقات مميزة مع "الزوايا" اعترافا بفضلهم وتقديرا لجهودهم، مسجلة بعض الاعتراضات في بعض الجوانب، أما الفئات المهمشة فكانت في قلب اهتمامات الحركة الصوفية، ووقفت إلى جانبها بكامل ثقلها نصحا وتعليما وحماية من العدوان والظلم، ودفاعا عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية( ). 
تميز الفكر السياسي للحركة الصوفية في هذه المرحلة بالواقعية، فقد كانت تنكر الممارسات الخاطئة في تجربة وأداء الإمارات القبلية، مع تقدير أدوارها في الاستقرار وحفظ الأمن، وتحقيق الحدود الدنيا من مصالح الناس، بل سعت لإضفاء شرعية نسبية عليها؛ تثبيتا للاستقرار والسلم الأهلي، مع بذل الجهد في ترشيد زعماء هذه الإمارات، وحضهم على إقامة العدل، وتأمين السبل، ووقف التناحر الداخلي، فقد كتب الشيخ سيد محمد الخليفة "فمن تغلب من هؤلاء، وتمكن من الضرب على أيدي إخوانه وأعوانه وسائر من تصل إليه يده؛ فكفَّهم عن المظالم، وحملهم على العدل، وانتصف منهم للمظلومين، ودفع آذاهم عن سبل تجار المسلمين، فهذا وإن لم ندع مثله إماما ولا سلطانا ولا ملكا، دعوناه واليا وسيدا على قومه... فمثل هؤلاء تجب لهم النصيحة والحض على العدل في بلاد الله بحسن السياسة، وتجنب السلاطة، والتحيز في الرئاسة، ثم أدنى مراتبهم أن يكونوا كبعض عمال الأمراء، فينبغي لأحدهم بل يجب عليه أن يكون حصيف العقدة بعيد الغرة، لا يغضب في غير حق، ولا يخاف في الله لومة لائم"( ). 
اتسمت العقود الأولى من القرن التاسع عشر بازدهار الطرق الصوفية، وعمت جميع مناطق البلاد، وكان لشيوخها وأوليائها أدوار سياسية كادت أن تفوق مدى نفوذ الأمراء. بل إن الإمارة أصبحت عندئذ مرغمة على الاعتماد على النفوذ الإيديولوجي والعصبي لقبائل الزوايا وطرق التصوف كليا للاستقرار السياسي والشرعية الآنية، أو بتعبير الدكتور حماه الله ولد السالم "علاقة الشيخ سيد المختار مع القبائل الحسانية في مجال أرض البيضان (موريتانيا) تراوحت بين التحكيم والشراكة الفعلية، الناتجة عن تحول إلى مستوى أعلى من دور قبائل الزوايا التي ظلت تبسط رداء المشروعية على رؤساء حسان، إلى مشاركة مباشرة في تولية الأمراء والرؤساء، من خلال التدخل في صراعات البيوتات الأميرية، وخلق آليات التوازن بين القوى الحسانية من أزواد إلى تكانت فالحوض والشمال. ولم يكن هذا الدور مقصورا على وظيفة التحكيم، التي درسها رواد النظرية الانقسامية التجزيئية في أبحاثهم حول دور المرابطين والصلحاء في المغرب، بل كان أوسع مدى وأقوى فاعلية، وهو ما تكشف عنه رسائل الشيخ المختار الكنتي إلى المعنيين"( ). 
ويستنبط من تجربة عمل الحركة الصوفية،في مواجهة معضلة الفراغ السياسي،اتباعها إستراتيجية ذكية، تهدف إلى وصل المجتمع رأسيا وأفقيا، وتسليك الأتباع في شبكة صوفية ممتدة على طول البلاد وعرضها، من أجل خلق كتلة إصلاحية عابرة للقبائل والإمارات، يتربى أفرادها على تعاليم ورؤى وتصورات مشتركة، وتقوم بعمل اجتماعي وخيري وعلمي وثقافي، تقوده وتشرف عليه شخصيات علمية وصوفية مرموقة، وذات علاقات متينة مع وجهاء المجتمع وزعمائه الدينيين والسياسيين، في مسعى وصفه الدكتور حسن مكي بأنه يهدف إلى "ملء فراغ الدولة بإقامة شبكة تواصل منظمة، وبتراتيب إدارية صوفية لوصل المجتمع رأسياً وأفقياً"( ). 
وكان من عوامل قوة تأثير الطريقة القادرية في موريتانيا أنها جاءت بصيغة توافقية مهمة وشديدة الفاعلية، ستظهر أهميتها أكثر في الغرب الموريتاني (الذي سبق أن شهد مايعرف بـ"شرببه" أي الحرب بين الزوايا وحسان) حيث جاء الشيخ سيدي الكبير، بصيغة الخط الثالث بين أمراء "حسان" الممسكين بالسلطة الأميرية، وعلماء قبائل "الزوايا"، فهم- أي رواد القادرية الإصلاحية - لا ينازعون أصحاب السلطان في سلطانهم، وفي المقابل لا يرضون بالسلبية أو التبعية لذوي السلطان والسكوت على المظالم، حيث مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيمة مركزية في خطابهم الإصلاحي. هذه الصيغة المتوازنة التي ترفض الصراع مع أمراء وزعماء "حسان"، وترفض في نفس الوقت السلبية والخنوع، وتنهض للإصلاح، وتلتزم بقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت موضع إعجاب وتقدير الجميع، وجعلت توجيهات وإرشادات شيوخ القادرية تحظى باحترام الكل، لما اشتملت عليه مواقفهم من وجاهة علمية وحنكة سياسية ورفق وتسامح. وهذا هو المناخ الذي يجعل الشيخ العلامة محمد سالم ولد عدود يصف تجربة الشيخ سيدي الكبيربقوله: "كاد يكون الشيخ سيدي أسس دولة هنا، وحّد بين الناس، وأصلح ذوات البين التي كانت فاسدة، وراسل الملوك والأمراء، وذهب هو بنفسه في هذه المهام، وأوفد ابنه الشيخ سيدي محمد إلى منطقة لكرار"( ). 
كان المناخ السائد في القرن التاسع عشر هو بروز دول على أكتاف الحركات الصوفية، لقد نجحت الحركة القادرية في إقامة دولة في سوكتو بنيجيريا سنة 1803 بقيادة عثمان بن فودي، وأخرى في وسط مالي وشمالها عرفت بدولة ماسينا، بقيادة أحمد بن لوبو عام 1818. كما أقامت الطريقة التيجانية في حوض نهر السنغال وغرب مالي دولة بقيادة الحاج عمر الفوتي، وفي ليبيا استطاعت الطريقة السنوسية إقامة دولة وتوحيد المجتمع الليبي المنقسم قبليا وعرقيا ومناطقيا، كما نجحت الحركة المهدية في بناء دولة مركزية بالسودان. 
على ضوء ما تقدم، تثور تساؤلات وجيهة، حول الأبعاد والمرامي السياسية للمبادرات المختلفة للطريقة القادرية في موريتانيا خلال القرن التاسع عشر:هل تندرج تلك المبادرات، والتي وصلت في سياق معين درجة حمل السلاح( )، في إطار تهيئة الأجواء لإقامة دولة في المجال الموريتاني؟ وعلى افتراض صحة هذا الادعاء، لماذا فشل هذا المشروع في بلوغ غاياته بموريتانيا فيما كتب له النجاح في نيجيريا ومالي وليبيا والسودان؟
الإجابة على هذه التساؤلات تستدعي الكثير من النقاش، وقبله المزيد من البحث والتنقيب في تاريخ ووثائق هذه المرحلة، وما يهمنا بالأساس الإشارة إليه في هذا السياق هو التأكيد على أن التغيير السياسي وبناء الدولة في مجتمع بدوي منقسم، عاش قرونا متطاولة من الفراغ السياسي وغياب السلطة المركزية، كان يتطلب مزيدا من الوقت والجهد لتهيئة التربة وإنضاج الثمرة، "ففي هذا الفضاء المعقد، المتميز بانزياح حاد بين قطاع الشرعية الإيديولوجية وقطاع العنف في الممارسة السياسية، وسيادة شبكات معقدة من الهيمنة والسلطة، لم يكن بإمكان الدولة المركزية أن تنبثق؛إذ أن الدولة في نهاية المطاف (عنف مشرع كما يقول ماكس فيبر)"( ).
وإضافة إلى كل ما سبق لا يمكن إغفال التطورات العاصفة التي عرفتها البلاد في منتصف القرن التاسع عشر، فعلى المستوى الداخلي ارتفعت حدة الصراعات الأهلية، وتعمقت مظاهر السيبة، في ظل تصدع البنية الأميرية الهشة أصلا، وانهيار نظام القوافل الصحراوية بشكل غير قابل للعلاج، بفعل التغلغل السلعي الأوربي على السواحل، الذي تسبب أيضا في دق إسفين الصراع داخل الإمارات الفقيرة المعتمدة على عوائد التجارة مع الأوربيين. وعلى المستوى الجيواستراتيجي، كانت حدود البلاد الجنوبية الشرقية تشهد تفجر صراع دموي بين الماسنيين والأزواديين من جهة، ودولة الحاج عمر الفوتي التيجانية من جهة أخرى، وفي الحدود الشمالية كان المخزن المغربي يتمدد نحو الجنوب، حيث سيطر على واد نون، وعزز تحالفاته مع القبائل الصحراوية. وفي الغرب "بدأت هواجس ونيات الحاكم الفرنسي في السنغال، الجنرال فيدرب... فهبَّ الشيخ سيديَّ الكبير واقفا في وجهه، محاولا تأسيس جبهة للمقاومة بجمعه الأمراء الذين تسنت لهم فرصة التعبئة في أجل معقول (أي التموقع غربَ رأس آكرراي)، ولكن هيهات..من يستطيع وقتها أن ينظر بعيدا؟ لقد كان ذلك الطلَب أكبر من هؤلاء القادة، ومن تلك العقليات، ومن ظروف ذلك الزمان"( ).
لقد كان هذا هو السياق العام الذي وُئِدت فيه المشاريع السياسية للمتصوفة، وحفظت في خانة تاريخ ما لم يقع، قبل أن يقتحم المستعمر البلاد، ويجمد دينامية التحولات الداخلية، قبل أن يدمجها في مشروعه الخاص. 

 

أحد, 13/06/2021 - 22:18